“لو ملكنا حق تقرير المصير لملكنا الحياة”
ماذا يعني حق تقرير المصير؟
حسب قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة فإن حق تقرير المصير هو؛ لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها بحرية وإرادة وإستقلال بعيدا عن أي تدخلات أجنبية ومن وجهة نظر أخرى يعرف تقرير المصير على أنه حرية الشخص والمجتمع في تقرير حياته وسياساته داخل أراضيه، وفي معنى آخر هو حق الشعوب في إختيار من يحكمهم بدون أي نوع من التدخلات الخارجية. لكننا اليوم نتناول حق تقرير المصير من ناحية إجتماعية أي نناقش إذا ما كنا كأفراد نتمتع بحق تقرير مصيرنا بالمجتمع؟ أم أننا محكومون بأنظمة لا تسمح لنا بالعيش الحر؟هل نمارس حقنا بالإختيار وبدون أي تخوف؟ هل نملك هويتنا الخاصة؟ هل تعتبر الأنظمة المجتمعية الإنسان إنسانا حرًا له كيانه المتفرد ورغباته وقراراته وطريقته في العيش!
من وجهة نظري الإجابة حتما لا، لطالما عانينا من آثار الحكم المسبق والتدخل في شؤوننا، لطالما طلب منا الرضوخ لعادات وتقاليد مجتمعية غير منطقية أو مقنعة بالنسبة لنا، نحن نعيش ضمن نطاق كبير من المحدادات يُربط بعضها بالدين زورا، ويُفسر بعضها الآخر تفسيًرا يخدم المصالح والتقاليد والأَمَرُ هو ما يجب علينا الإلتزام به دون وجه حق! حق تقرير المصير بالنسبة “للفرد” من وجهة نظري يعني؛ أن يملك الإنسان القدرة على إتخاذ القرارات الخاصة به أن لا يحمل الفرد عبئ الأحكام المسبقة داخل روحه وأن يتخذ قراراته بملئ إرداته دون الخوف من آراء الناس، وبدون أية ضغوطات مجتمعية أن لا تقع تصرفات الفرد ضمن الصور النمطية وأن لا تحتسب”تصرفاته” على مكان سكنه، أو البيئة التي ينتمي لها، أن يستطيع الفرد التعبير عن نفسه بنفسه، أن لا يٌسمع من شخص ما دون سماع الرواية من الطرف الآخر ومن وجهة نظره، أن يحق لنا إختيار التخصص والمهنة وطريقة التحدث والوقت الذي يناسبنا للإرتباط، أن لا يفرض علينا تسلسل لمحطات الحياة ك: (خلصتوا جامعة، إتجوزا! شو عم تستنو!) وكل ما يتعلق بنا من تفاصيل صَغُرت أم كبرت…
قد يظن البعض أننا تجاوزنا إشكالية إختيار التخصص ولكن الواقع مغاير تماما لهذا الإعتقاد، تمنع بعض العائلات عن بناتها التخصص في مجال الطب النفسي فمن وجهة نظرهم يتوجب عليكي إذا إمتهنتي هذه المهنة الجلوس مع مدمنين، وهذا ما يمنع كعاقبة إرتباطك برجل محترم، فمن هو الذي سيقبل الإرتباط بإمرأة تجالس المدمنين وتحادثهم حتى لو بغية مساعدتهم وعلاجهم! عائلات أخرى ترفض تخصص التمريض فقد يحتم هذا عليكي البقاء لساعات متأخرة من الليل أو طوله خارج المنزل! متناسين الكم الهائل من الإنسانية والضرورية الذي تحمله هذه التخصصات.
في أماكن العمل، الوضع ليس بأفضل إطلاقا، فمثلا لو كنت شخصا يقطن بمحافظة وتعمل بمحافظة أخرى سيحكم على تصرفاتك مثلما يتم الحكم على منطقتك أو بما يشاع عنها صح أم كان خاطئا ذلك الحكم، ويجب عليك الإلتزام بعادات وتقاليد منطقتك أينما ذهبت، حتى لو كانت تعارض رغبتك وطريقتك في الحياة، نعيش في تناقض هائل يطلب منا أن نصبح منفتحين، واعين، مفكرين وينادى بحقوقنا كبشر، بحريتنا، بكرامتنا ثم تلغى عقولنا، خبراتنا، رغباتنا، آرائنا وإتجاهاتنا، معتقداتنا وقيمنا الخاصة بلمح البصر والمضحك أن المنتقدين غالبا ما ينسون أنفسهم ويمنحون أنفسهم ما منحه الشاعر لنفسه قبلهم وحرمه على الآخرين (يحق للشاعر ما لا يحق لغيره!) وأستذكر هنا أبياتا من الشعر علها تفسر بعضًا من المقاصد في هذه المقالة:
لسانك لا تذكر به عورة إمرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك وإن أبدت إليك معايبا فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من إعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن
يعتبر البعض حق تقرير المصير مبدأ حياتيًا والبعض يراه حقا يجب ضمانه للأفراد، ومما يتعارض مع هذا الحق مبدأ القبول المشروط الذي يعني “أنا أقبلك وأعترف بك ما دمت تخضع لإرادتي، وتكون أداة رغباتي ومخططاتي”. للأسف الشديد إننا نرى ونعايش القبول المشروط في حياتنا وفي العديد من علاقاتنا، كالأسرية والزوجية والعشائرية.
يذكر دكتور مصطفى حجازي في كتابه “الإنسان المهدور” أن القبول المشروط هو المدخل المباشر إلى الإضطراب الذاتي وسوء التوافق السلوكي سواء بسواء: القلق، الإحباط، الإكتئاب، الإستسلام والتراخي، الإنهزامية، العدوانية والغيظ، السلوكيات التدميرية للذات وللآخرين، التصلب والتطرف وبالتالي هدر الذات وإمكاناتها، ومعها هدر الآخرين والعالم الخارجي، يضيف قائلا أن القبول المشروط مدخل لكل سلوكات الكذب والخداع والمراوغة والتمويه ما دام الإنسان ممنوعا عليه أن يكون بذاته ولذاته أن يصير مشروعا قائما بذاته. لقد أصابني المعنى الكامن خلف هذه الكلمات بالخوف فلا أود إطلاقا تحمل خطيئة شخص ما دفعته من خلال إعتمادي لبعض المعايير أو إنتهاجي لأساليب تقيمية معينة إلى الكذب أو أي فعل لم يقرره هو بمحض إرادته! ولا يعبر حقيقة عنه.
هل من علاقة تربط حق تقرير المصير بتحقيق السلام أو إنعدامه؟
السلام يتحقق من خلال الأفراد على الصعيد الشخصي (السلام الداخلي)، ثم على صعيد العلاقات بينهم، أنني ممن يرون السلام في كل شيء يربطونه بأدق التفاصيل لذا، فإنني أعتقد أن إنعدام القدرة والحق في تقرير المصير يؤدي بالنتيجة إلى أمراض نفسية وإجتماعية تنعكس آثارها على الأفراد والمجتمعات كالإنتحار مثلا، والعنف تجاه الآخرين والعديد العديد من المشكلات التي تهدد السلم المجتمعي عداك عن السلام الداخلي.
كيف لنا أن نمنح أنفسنا والآخرين حق تقرير المصير؟
الإعتراف بإنسانيتنا،كرامتنا، حريتنا، حقنا بإختيار الحياة التي نريدها، بالتوقف عن إصدار الأحكام المسبقة بإستبدال خطاب الكراهية بخطاب المحبة، بالإيمان بفردية الأشخاص، بالتقبل الحقيقي للأشخاص ولكل ما يصدر عنهم ولا أعني هنا الموافقة على كل ما هو صحيح وخاطئ ولكن التقبل والقبول غير المشروط يعد المدخل الرئيس لعلاج سلوكيات الإنسان وإضطراباته، بإحترام رغبات الآخرين، بإلغاء الصور النمطية، بالتوقف عن توجيه الآخرين حسب وجهات نظرنا، بإفتراض النية الحسنة، وعدم تحليل الأمور على هوانا إن جاز التعبير. بالمقابل إن إفساح المجال أمام الأفراد لإختيار شكل حياتهم سيفتح أمامهم آفاق التوازن النفسي والوفاق مع الذات ومع العالم والآخرين ،كما تنمو لديهم الثقة بالنفس والنظرة الإيجابية إلى الذات ،والدافعية للعمل والإنجاز ،وصولا إلى الإبداع هذا ما يتنبأ به الدكتور مصطفى حجازي إذا ما عومل الإنسان على أن له كيانه الخاص.
“متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” لا يحصر الإستعباد على مفهوم الإسترقاق، أليس من الحكمة تصنيف إنتهاج سلوك القطيع وعدم الأحقية في تقرير المصير من ضمن أنواع الإستعباد؟ كيف ينظر للإنسان الذي يخاف التكلم والتصرف في مجتمعه! أليس مستعبدا فكريا؟ كيف ينظر للإنسان الذي يسلك طريقا لا تشببه من الداخل! أليس عبدا للعادات والتقاليد والعقل الجمعي الذي يرفض الفكر المغاير؟ وكيف ينظر لمن يوئد حلمه بداخله خوفا من حكم المجتمع ونظرته!
نور هاني