في رحلة الحياة يسافر الناس إلى ذواتهم بحثا عنها عن ماهيتها، رغباتها، أهدافها ولاستكشاف كل ما فيها منهم من يصل إلى الأعماق، ومنهم من يبقى عالقًا على السطح… الوعي على الذات ما هو؟ وهل يوجد فرق بينه وبين تقدير الذات؟ وما علاقة وأثر الوعي على الذات في تحقيق السلم المجتمعي؟ كل هذه التساؤلات التي امتلأ عقلي وفكري بها سأعمل على الإجابة عليها في هذا المقال.
ما هو الوعي على الذات؟
إختلفت الآراء ووجهات النظر حول ماهية الوعي على الذات، حيث رأى البعض أنه القدرة على مراقبة عالمنا الداخلي، البعض ذهب إلى أنه حالة مؤقته من الإدراك الذاتي، أما وجهة النظر الثالثة فترى الوعي على الذات على أنه الإختلاف بين رؤيتنا لذواتنا، ورؤية الآخرين لنا. يصنف الوعي على الذات إلى وعي خارجي، ووعي داخلي، أما الوعي الداخلي حسب رأي المصنفين فهو: “مدى رؤيتنا لقيمنا، عواطفنا، تطلعاتنا الخاصة، ومدى ملائمة هذه الرؤية لبيئتنا، وردود أفعالنا بما فيها أفكارنا، مشاعرنا، تصرفاتنا، نقاط قوتنا، مكامن ضعفنا، ومدى تأثرنا وتأثيرنا على الآخرين من حولنا. وأما الوعي الخارجي فيعرف على أنه: إستيعاب وفهم نظرة الآخرين إلينا، من حيث العوامل ذاتها المذكورة أعلاه. إن أكثر ما يلفت النظر خلال البحث عن الوعي على الذات، وتحديدا بهذين التصنيفين (الوعي الخارجي، الوعي الداخلي) هو أنه ما من علاقة تربط بينهما! ما من تفسير واضح إلى هذه اللحظة، لكن لا بد للعلم أن يجيبنا يوما ما.
ترى تصنيفات أخرى أنه يمكن تصنيف الوعي على الذات إلى: وعي على الذات الفردية، ووعي على الذات الجماعية، و الوعي على الذات الفردية قد يكون سلبيا جدا إذا كان مفرطًا، ويصبح بذلك إسمه (الأنا،الأنوية المفرطة). يقول دانييال جولمان مؤلف كتاب الذكاء العاطفي إن القدرة على مراقبة عواطفنا، وأفكارنا، من لحظة للحظة أخرى هو المفتاح لفهم أنفسنا بشكل أفضل والعيش في سلام مع من نحن، وبإدارة أفكارنا وعواطفنا وسلوكياتنا بشكل إستباقي،كما أن الوعي الذاتي هو حجر الزاوية الأساسي للذكاء العاطفي، حيث يميل الأفراد الذين لديهم وعي ذاتي إلى التصرف بشكل واعي بدلا من أن يتفاعلوا بشكل سلبي، وتكون لديهم صحة نفسية جيدة، وينظرون للحياة نظرة إيجابية، إضافة إلى عمق أكبر في تجربة الحياة، ويمتازون بأنهم أكثر تعاطفًا مع أنفسهم والآخرين.
هناك أيضا أربع مستويات للوعي على الذات، والتي يمكن قياسها من خلال سؤال محدد ومباشر(من أنت)؟
- المستوى الأول هو مستوى الوعي بالشكليات (القشور): تتمحور إجابات الأشخاص ضمن هذه المستوى حول أدوارهم ومكاناتهم الإجتماعية، مثل أنا فلان الفلاني (الإسم والقبيلة أو العشيرة) أو زوجة فلان أو لدي ثلاثة أطفال… وقد يتم ذكر الأملاك…
- المستوى الثاني مستوى الوعي بالمشاعر:يصف الشخص الذي يقع مستوى وعيه بذاته ضمن المستوى الثاني مشاعره حيال الأشياء أو ردود أفعاله ك(أنا عصبي/حساس/سريع التوتر/حنون القلب..) وهو شخص يملك إدراكا لمشاعره وهو شيء جيد ومهم في الحياة.
- المستوى الثالث هو مستوى الوعي بالأفكار: هنا يصف الشخص أفكاره، أو نظرته للحياة، ويتحدث عما يمتلك من قناعات ومعتقدات بثقة ورؤية معرفية وواقعية (أنا أومن بحق المرأة في السفر؛ لأنها مؤهلة وقادرة على ذلك أؤمن بالمساواة والعدالة الإجتماعية بين الأغنياء والفقراء).
- المستوى الرابع مستوى الوعي الخالص: يتضمن هذا المستوى فهم للذات، وللآخرين، والحياة، ويمتلك الشخص هنا درجة عالية من مشاعر الحب، والتسامح، والإيجابية إتجاه ذاته والآخرين والحياة أيضا، ويعد هذا المستوى من أعلى مستويات الوعي على الذات.
كيف لنا أن نطور من وعينا على ذاتنا؟
النظر للنفس بموضوعية، من خلال مراقبة سلوكياتنا، وردود أفعالنا، وطلب التغذية الراجعة من الأشخاص الموضوعيين حول شخصياتنا، إضافة إلى ممارسة التأمل، كتابة بعض الملاحظات في دفتر خاص طوال اليوم ومراجعته من فترة لفترة هذا سيسمح لنا بالتعرف على نوعية الأمور التي تلفت نظرنا أو تؤثر بنا أيضا سيساعدنا هذا على تقييم بعض الجوانب المتعلقة بنا وإعادة النظر بجوانب أخرى،كل هذا سيساهم حتما في تطوير وعينا على ذاتنا.
هل يوجد فرق بين الوعي على الذات وتقدير الذات؟
يعرف تقدير الذات ببساطة بمقدار الصورة أو القيمة التي يعطيها الفرد لنفسه أي ما هي نظرة الإنسان لنفسه على سبيل المثال هل يرى أنه شخص محترم وهو جدير بإحترام الآخرين له؟ وينقسم تقدير الذات إلى نوعين: تقدير الذات العالية وتقدير الذات المنخفضة، وبذلك فهو مختلف جدا عن الوعي على الذات. بيد إن الفرق بين الوعي على الذات وتقديرها لا يلغي ضرورية تقدير الذات ففي رأي أحد الفلاسفة أن: “كل إنسان وبدون إستثناء ولمجرد حقيقة كونه كذلك هو شخص جدير بالإحترام غير المشروط من الجميع،كما يستحق أن يقدر ذاته وأن يقدره الآخرون”.
ما علاقة وأثر الوعي على الذات في تحقيق السلم المجتمعي؟
قبل سرد وشرح علاقة وأثر الوعي على الذات في تحقيق السلم المجتمعي دعونا نعرف مصطلح السلم المجتمعي، السلم المجتمعي هو: حالة السلم والوئام داخل المجتمع نفسه وتحقيقه عامل أساسي لتوفير الأمن والإستقرار في المجتمع.
وبالعودة لموضوعنا الرئيس فإن للوعي على الذات علاقة وطيدة بالسلم المجتمعي، فوعي الأفراد على ذواتهم ينعكس على المجتمع، إن عرف الفرد ذاته وحدد ما يريد وما لايريد وكانت منظومته القيمية واضحة لديه، إضافة إلى غاياته وأهدافه من علاقاته بأفراد المجتمع وكذلك من المجتمع ككل ومن الحياة بشكل عام، فسيؤدي ذلك بالنتيجة إلى التقليل من المشكلات وبعض الظواهر ( كالإنتحار، الغيرة، المنافسة الشرسة في القطاعات المختلفة، وبعض المشاكل النفسية كالنظرة الدونية للذات، قلة الثقة بالنفس وما إلى ذلك…) كما أن الوعي على الذات يحقق السلام الداخلي للإنسان والذي ينعكس بدوره على السلم المجتمعي. أما أثر الوعي على الذات في تحقيق السلم المجتمعي فيتجلى من خلال قدرة الأفراد على ضبط أنفسهم وعدم إصدارهم لأحكام مسبقة، وتجنبهم الدخول في مهاترات مع الآخرين كذلك سيتجنبون أو لن يفكروا أصلا بإنتهاج أي أسلوب عنيف بغية جذب إنتباه الآخرين، لإثبات أنفسهم فهم يعرفونها حق المعرفة، كل هذا وأكثر يساهم في تحقيق السلم المجتمعي الذي نسعى دائما إليه، يقول كارل روجرز: إن أصل معظم مشاكل الناس هو أنهم يحتقرون أنفسهم ويعتبرون أنفسهم غير جديرين وغير مستحقين للحب! يذهب دكتور مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور إلى أبعد من ذلك في حالة سلب الإنسان حقه في وعيه على ذاته فيرى أن هذا السلب قد يسهم في فتح السبيل أمام مختلف ألوان التسخير والتحقير والتلاعب وإساءة الإستخدام.
ونخلص إلى القول إلى أن صناعة الوعي على الذات مسؤولية فردية بداية، حيث من الأهمية بمكان أن يرتد الفرد إلى عالمه الداخلي ليكتشف نقاط قوته وضعفه ويتعامل معها بدافع ذاتي، على المجتمع كذلك مسؤولية أن يهتم بالجانب العلمي المتعلق بالوعي على الذات ويوجه القائمين على التربية بالبصائر والوسائل اللازمة للإنتفاع في جانب الوعي على الذات، يساعد هذا الوالدين في تمكين أبنائهم من الوعي بذاتهم وكذا المعلمين عند طلابهم.
لنبدأ رحلتنا لإستكشاف ذواتنا والوعي عليها… لقد حان الوقت…
نور هاني