حجارة متفرقة خاملة في المكان، الحياة تمضي قدما وهذه الحجارة في سكون تام، سفن تغادر المكان محمله بكنز الزمان، وبيوت هرمت تضج من ذاك الحال، قصور شيدت من تلك الحجارة التي في المكان، يختلف الحجر من مكان لمكان، ينتفض في يد اطفال يحاربوا عدو هذا الزمان، ويرقص نغما على دندنه العامل الغلبان، مشتعلا بين فتيات يرسمن على جدار البيت الكثير من الأحلام.
الإعلام هو المحرك الذي يؤثر على المجتمع، هناك من يشغل وقته وحياته اليومية بمناقشة تلك القضايا المطروحة. هناك من هو في سكون تام لا يبدي أي رأي في ذلك، وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في يومنا هذا، هي تتيح للأفراد التعبير عن رأيهم في عدة ميادين منها الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية والسياسية، ومشاركة الافراد لآرائهم سيعكس وجهات النظر منها الايجابية والسلبية. الأغلبية الصامتة يكثر الحديث عنها في هذه الأيام، فما هي تلك الأغلبية؟ ولما هي صامته؟ وعن ماذا هي صامته؟
مصطلح الأغلبية الصامتة هو مصطلح سياسي، حظي هذا المصطلح بشعبية من قبل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في خطاب متلفز في 3 نوفمبر 1969، والذي قال فيه “وفي هذه الليلة – بالنسبة إليكم، الغالبية العظمى الصامتة من زملائي الأمريكيين – أطلب دعمكم. “ الأغلبية الصامتة هي مجموعة كبيرة من الناس في بلد ما، لا تعبر عن آرائها علناً، ولا يطالبون حقوقهم نظراً لظروفهم الحياتية الصعبة. من رأي زياد منى الكاتب الفلسطيني عن الأغلبية الصامتة قال: أن مفهوم الأغلبية الصامتة متغير وفق المكان والزمان، و يقول إن ثلث الناخبين في ألمانيا، وهم من الفئات الأضعف والأكثر فقرا، لا يشاركون في الإنتخابات الإتحادية، والأسباب معروفة، وفي مقدمتها فقدانهم الأمل في المقدرة على فرض أي تغيير لمصلحتهم بسبب تطابق برامج الأحزاب المهيمنة في المسائل الاقتصادية. لذا، فإن الصامتين هنا ليسو بأغلبية، وفي الوقت نفسه نرى أن صمتهم مدوٍّ حقا محتجا على ما تعترف به المؤسسة الحاكمة هناك بأنه مجتمع الثلثين، الذي يبني رفاهه على حساب الثلث المعوز الصامت! وقال أيضاً: في بلادنا، الأمر مختلف حيث لم تتمكن أي دولة من تأسيس أو إقامة نظام مؤسسات.
هناك ثمة أسباب عديدة في رأيه منها على سبيل المثال انتشار الأمية الواسع، وهنا يعني بالأمية بمعناها الحرفي، أي عدم امتلاك المقدرة على القراءة والكتابة واستخدام هذه المعارف البدائية، إن توافرت، في حياتها اليومية، وكذلك الأمية المعرفية والفكرية، أي الافتقار إلى آلية تفكير مستقلة قادرة على استبدال العقل بالأوهام والوساوس… إلخ. يضاف إليها الشكوك الدائمة تجاه السلطة الحاكمة عظيمة الخبرة بآليات التزوير والكذب والتضليل وزرع الأوهام. هذا كله وعوامل أخرى تؤدي، بالضرورة، إلى انفضاض الشعب عن النظام، ويقود بالتالي إلى ما نراه من حراكات قائمة في بعض بلادنا وصلت أحيانًا إلى التدمير الذاتي، والبقية دورها آت لا محالة، ما لم تتعظ قبل فوات الأوان ولن تتعظ من مصير غيرها. “مقدار المشاركة الفعلية في الحراكات الشعبية التي شهدتها وتشهدها بعض البلاد العربية، وهي نوع من النشاط السياسي المتفاعل مع المجتمع ورغبات قطاعات منه، يظل متباينًا من بلد إلى آخر”.
مع ذلك، يبقى مقدار المشاركة الفعلية في الحراكات الشعبية التي شهدتها وتشهدها بعض البلاد العربية، وهي نوع من النشاط السياسي المتفاعل مع المجتمع ورغبات قطاعات منه، متباينا من بلد إلى آخر، بل من منطقة إلى أخرى في البلد أو الدولة الواحدة. ويقول: لنكن واقعيين ولنعترف بأن أغلبية سكان بلد ما لا يهمهم من يحكُم وإنما كيف يُحكَمون. طبعًا سنجد البعض يرفض هذا أو ذاك من الحكام لأسباب ذاتية، أو لأسباب لاسياسية، لكن هؤلاء أقلية. لذا ترى أغلبية الناس غير مكترثين كثيرًا باحتجاج البعض لاستبعاده من العمل السياسي وما إلى ذلك، ماداموا راضين عن مستوى معيشتهم وطريقة عيشهم. هذا لا يعني إهمال تضامنهم، السلبي، مع أبناء وطنهم الأقل حظًّا ورضاءً عن حيواتهم اليومية بمختلف تجلياتها. هذه هي الأغلبية الصامتة تحت هكذا ظروف.
وينوه على أن في بلادنا، الأغلبية صامتة عن سابق إصرار وتصميم، غير معنية سوى بحيواتها، وتعمل وفق القول العامي: بمشي الحيط الحيط وبطلب السترة. رأيها غير مطلوب، وإن طُلب فيجب أن يكون معلبا ومغلفًا وفق من يفرضه عليها. لذا ترى شعوبنا منفصمة الشخصية، نمارس التقية، ونحتفظ بعلمنا وجهلنا لأنفسنا. نصفق عندما يطلب منا ونصمت إن أمرنا أو خُيِّرنا. الأغلبية الصامتة لا وزن لها ولا سياسي يتذكرها إلا عندما يحتاج إليها لإثبات وجهة نظر أو لتحقيق غرض أو مأرب. يفضِّل أن تبقى صامتة ليتسنى له/لها الادعاء بالتحدث باسمها ونيابة عنها. هذه الأغلبية صمتها مطلوب، لكن في الوقت نفسه تستخدم شاهدًا صوته مقموع، أجبر على تأجير لسانه لهذا من السياسيين أو ذاك.
ليس ثمة إعلام في العالم قادر على تضليل الإنسان المطلع، وليس ثمة من إعلام قادر على تحريك شارع أو حتى حارة إذا كان أهله راضين عن أوضاعهم. في الوقت نفسه، ليس ثمة من إعلام قادر على إقناع الجائع بعكس ذلك، ولا البرِد بأنه يشعر بالدفء. ليس ثمة من إعلام قادر على التأثير في قناعات الأغلبية الصامتة التي اكتسبتها تاريخيا، والتي لا يُعرف بوجودها ومكانها، ولا يكترث بها أحد من السياسيين، إلا عندما يحاول امتطاءها لكسب شعبية مصطنعة. فهل تمكن أي إعلام من التأثير في إيمانها! الإعلام يمكن أن يؤثر فيها في حال وجود حراك بينها، فقط إذا كان يتماهى معها ومع مطالبها التي ترى هي أنها محقة وشرعية، عدا ذلك، يبقى دور وسائل الإعلام محدودا للغاية ولا يؤثر فعلاً إلا في أصحاب الأفكار المسبقة أو المتشبثين برأيهم أو الجاهلين بتفاصيل قضية ما.
إذن، الأغلبية الصامتة، ليست دوما بأغلبية ولا هي صامتة، حتى وإن لم تعبر عن مشاعرها عبر الطرق المسماة ديمقراطية، أي النظام التمثيلي أو النيابي. بل إن صوتها مدوٍّ في بعض الأحيان، ويتجلى في أحيان كثيرة بأكثر أشكال العنف قساوة، ومن ذلك على سبيل المثال العنف المندلع في تجمعات شعبية كبيرة مثل لعبة كرة القدم أو المظاهرات السنوية التي تقام في بعض الدول بمناسبة عيد العمال وغيره من المناسبات. علماء الاجتماع في الغرب، الذين كثيرًا ما درسوا تلك الظواهر وحذروا من عواقب تهميش فئات ليست صغيرة من مجتمعاتهم، يعرفون تماما أنها ليست من صنع فئة أو جماعة تهوى العنف لأجل العنف، وإنما تعبير عن حالة إحباط حقيقية للمهمشين، أو بقية مجتمع الثلثين.
نرى هذا في بلادنا أيضا والعنف المريع المرافق لبعض المناسبات التي تجمع أعدادا كبيرة من البشر، خير دليل. هذه الفئات تعبر عن الأغلبية الصامتة، بصوت مدوٍّ يصل إلى أقاصي المعمورة، لكننا لا نبرئ أي من مرتكبي العنف تجاه الغير. في بلادنا، بلاد العرب، القسم الأكبر من هذه الأغلبية الصامتة لا يحبذ العنف ولا يريده. له حقوق، لكنها غير مؤطرة في برامج لأنها تفتقر إلى المعارف الضرورية لكيفية تحقيق مطالبها المحقة. هنا يأتي دور وسائل الإعلام في إدارة معركة كسب قلوب هذه الأغلبية وعقولها. “الأغلبية الصامتة في بلادنا، تعاني مختلف أنماط الأمية، السياسية والفكرية وغيرهما، ولذا فإنها كثيرًا ما تلجأ إلى المقولات المقولبة الجاهزة، والتي يمكن أن تكون عاملا تحريريا أو تفجيريا”.
دعونا من صراخ البعض عن الإعلام المضلِّل وما يردد عن كذب، ولننظر إلى الحقائق. طبعا قد يكون هذا أو ذاك من وسائل الإعلام مبالِغا في رسم قتامة صورة وضع ما، لكن إن كان المتلقي، من الأغلبية الصامتة، غير متعاطف معها، فلن تؤثر فيه أي وسيلة. وإن كانت وسائل الإعلام تلك تكذب كذبا بينا وصريحا، فإن المفعول سيكون معاكسًا وتؤدي إلى انفضاض المتلقين عنها، ولنا في درس صحيفة مردوخ نيوز أوف ذ وورلد الإنجليزية شاهد حي حيث اضطر لإغلاقها بعدما تجاوزت الحد الأدنى من معايير العمل الصحفي في الغرب.
أخيرا، إلى من يعينون أنفسهم ناطقين باسم الأغلبية الصامتة ويدعون تمثيلها وتماهي برامجهم مع مصالحها. إن الأغلبية الصامتة في بلادنا، تعاني مختلف أنماط الأمية، السياسية والفكرية وغيرهما، ولذا فإنها كثيرًا ما تلجأ إلى المقولات المقولبة الجاهزة، والتي يمكن أن تكون عاملا تحريريا أو تفجيريا، وهنا تكمن الخطورة. الناشط في الحقل السياسي يعد نفسه طليعة، أو يفترض كذلك، وواجبه يكمن في قيادة المجتمع أو جماعة محددة وليس الاندفاع وراءها وخلف شعاراتها. هذا ليس عملا سياسيا وبالتأكيد ليس طليعيا، بل شعبويا خطيرا.
رزان الظاهر