دَوَّامَةُ المَشاعِرْ

دَوَّامَةُ المَشاعِرْ

كُلُ مَا في الكَونِ يَشعُر، ونَستَطِيعُ اعتِبَارَها لغَةَ التَواصِلِ بَيننا. وبَيننا لا أَقُصُدُ بِها بَنو البَشَر فَقطْ، وإِنَّما مَع كُلِ المَخلوقَاتِ الأخُرى، لِنُعَبِّرَ بِها عَنْ مَخاوِفِنَا، غَضَبِنا، فَرَحِنا، عَنْ كُلَِ مَا لا نَستَطِيعُ تَفسيرَه. عَنْ مَلايينِ المَشاعِرِ التي تَجتَاحُنا بِلا سَابِقِ إِنذار، عَنْ كُلِّ مَا شَعَرْنا بِه يَومًا وما نَتمَنَّى أَنْ نَشعُرَ بِه، عَنْ مَا نَتمنَّى أَنْ نَنساه، وما نَتمَنَّى أَنْ نَعُودَ لَهُ فِي كُلِّ لَحظَةِ خُلوةٍ مَع أَنفُسِنا، عَنْ كُلِّ مَا هُو قَادِم، وعَنْ كُلِّ مَا كانْ، عَنْ كُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَكُونْ، عَنِ الفَقْد، والجُوع، والحِرمانْ، وعَنِ النَّشوةِ والفَرَحِ والوَحَدة.

الكَثيرُ مِنَ الأَمُورِ في هَذِهِ الدُّنيا، تَتَغيَّرُ مَعَ الوَقْت، مِئَاتُ المَلايينِ مِنَ الأَحداثِ تَحصُلُ في اليَومِ الوَاحِدِ حَولَ العَالَمْ. تُغيِّرُ فِكرَ الكَثيرينَ عَنِ الكَثيرِ مِنَ الأُمورِ الصَّغيرَةِ مِنْها والكَبيرَة، وتُغَيِّرُنا نَحنُ أَنفُسَنا. تُغَيِّرُ أَقرَبَ الأَقرَبينَ لنا، ومَنْ نَكِنُّ لَهُم بالعَظيمِ مِنَ المَشاعِر، تُغَيِّرُ مَعنى الحَياةِ والقِيمَةِ مِنْها، تُغَيِّرُ أَعْظَمَ الثَّوابِتِ التي تَأَصَّلَتْ في النَّفْسِ في وَقْتٍ سابِقْ، تُغَيِّرُ شَكْلَ حَياتِنَا. إِنْ بَقِينا مُستائِينَ أَمامَ هَذا الكَمِّ الهَائِلِ مِنَ التَّغَيُّراتْ، سَيَمْشي العَالَمُ آخِذًا إيَّانا مَعَ ما نَشْعُرُ أَو حَتَّى دُونَ أَنْ نَشْعُر، لَنْ يَقِفَ الزَّمانُ لِيَنْتَظِرَنا، لِنَتَصَالَحَ مَعَ أَنفُسِنَا أَو أَنْ نَتْرُكَ المَشاعِرَ التي تَفْتِكُ بِنَا خَلفَنا، لَنْ يَنْتَظِر، حَالُه كَحالِ الكَثيرينَ الذينَ فَقَدُوا صَبْرَهُم، بِسَبَبٍ أَو بِلا سَبَبْ.

التَّصَالُحُ مَعَ النَّفْسِ مِنْ أَعْظَمِ المَشاعِرِ التي مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَمتَلِكَها المَرْء. التَّصالُحُ مَعَ فِكْرَةِ وُجُودِ كُلِّ شَيءٍ بِالحَالِ الذي هُوَ عَلَيه. دُونَ حَمْلِ مَشاعِرَ ضِيقٍ عَلى وُجودِه في تِلْكَ الحَالَة، ويَخْتَلِفُ التَّصالُحُ عَنِ البُرودِ أَو فُقدانِ الشُّعور. يكُونُ التَّصالُحُ في تَوازُنٍ لِلمَشاعِرِ الإِيجابِيَّةِ والسَّلْبِيَّةِ في ذَاتِ الوَقْت، فَيكونُ هُوَ المُتَحَكِّمُ بِما يُظْهِرُهُ مِنْ مَشاعِر، ومَتى يَجِبُ عَليهِ أَنْ يَتَوقَّفَ عَنِ الشُّعورِ بِالضِّيقِ أَو حَتَّى أَنْ يَتَحَكَّمَ بِمِقْدارِ الضَِّيقِ الذي سَيَشْعًُرُ بِهِ اتِّجاهَ مَوقِفٍ ما. إِلى مَتَى سَيَسْتَمِرُّ ومَتى عَلَيهِ المُضِيُّ قُدُمًا مُخَلِّفًا مَا كَانَ وَراءَه، ليَسْتَطيعَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ المُعْطَياتِ القَادِمَةِ بِشَكْلٍ سَليمْ، ولِيَصِلَ بِهِ الحالُ إِلى ما يُسَمَّى بِالتَّصالُحِ مَعَ الذَّاتِ ومَعَ الآخرين؛ فَهُو شَيءٌ عَلَيهِ تَعلُّمُ مُمُارَسَتِه، وهُوَ ثَقافَةُ التَّسامُح.

قَدْ لا يَكونُ التَّسامُحُ بِإعادَةِ الرَّوابِطِ والصِّلاتِ مَعَ العَلاقَاتِ السَّابِقَةِ التي قَطَعْتَها مَعَ شَخْصٍ آذاك، وسَبَّبَ لَكَ ضَرَرًا نَفْسِيًّا أو جَسَدِيًّا، بِغَضِّ النَّظَرِ إِنْ كانوا يَسْتَحِقُّونَ هَذه المُسامَحة أم لا. إنَّما التَّسامُحُ والغُفْران، يَقْتَصِرُ عَلى إِخراجِكَ لِمَشاعِرِ الغَضَبِ والاسْتِياءِ التي تَأكْلُ دَاخِلَك، واسْتِبدَالِها بِمَشاعِرِ تَقَبُّلٍ لِلأَمْرِ الذي حَصَلَ -مَهْما كَان- وإِنْ كانَ هذا الأَلَمُ الذي كُنْتَ تَشعُرُ بِهِ نَاتِجًا عِنْ اسْتِيائِكَ مِنْ نَفْسِكْ، مِنْ تَصَرُّفٍ ما قَدْ قُمْتَ بِهِ بِلَحظَةِ ضَعْفٍ أَو عَنْ سَبْقِ إِصرارٍ وتَرَصُّدْ –لا يُهُِمْ-، ولكنَّ مَشاعِركَ اللَّحْظِيَّةَ تَقولُ بِأَنََكَ لَسْتَ رَاضٍ عَنْه، عَنْ أُمُورٍ تَشْعُرُ بِأَنَّكَ مُقَصِّرٌ باتِّجاهِها، أَو مَشاعِرَ غَضَبٍ نَتيجَةَ أَنَّكَ لََسْتَ ذَاكَ الشَّخْصَ الذي تَطْمَحُ بِأنْ تَكون.

في مُعْظَمِ الأَحْيانِ يَكُونُ سَبَبُ هَذِهِ المَشاعِرِ حُصولُ شَيءٍ لَمْ تَكُنْ تُريدُ حُصولَه، ولكِنْ كَانَ مُقَدَّرًا لَهُ أَنْ يَحْصُل، وحَصَل. مَهْما كَانَت الظُّروفُ التي حَالَتْ دُونَ حُصولِ الشَّيءِ الذي تُرِيدُهُ باسْتِماتَة، ومَهْما كَانَ عَدَدُ المَرَّاتِ التي حَصَلْتَ بِها عَلى الرَّفْضِ في حَياتِك، يَجِبُ عَلَيْكَ إِخْرَاجُ هَذِهِ المَشاعِر السَّلْبِيَّة والتي تَضُرُّ بِك، بِجَسَدِك، وبِروحِك، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَضُرَّ بِأَيِّ شَخْصٍ آخَر. التَّسامُحُ هُو لَك، لِذاتِك، لِتَعَلَمَ أَنَّ الأمُورَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ تَأخُذَ مَجرًا آخَرًا لَسْتَ عَلى عِلمٍ بِه، أو لَسْتَ مُهَيَّئًا لِفِكْرَةِ تَقَبُّلِه، أَو الاعْتِيادِ عَليه.

أَعلَمُ أَنَّ حَديثِيَ بِهَذِه البَساطَةِ عَنْ مَوضُوعٍ في غَايَةِ العُمْق، يَبدو شَيئًا تَافِهًا، التَّسامُحُ لَيسَ شَيئًا مِنَ السَّهْلِ الوُصولُ إِلَيه. مَعَ أَنَّ النَّقيضَ لَهُ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَصِلَ بِالإِنْسانِ إِلى مَشاكِلٍ جَسَدِيَّةٍ خَطَيرة، قَدْ لا يَسْتَطيعُ الشِّفاءَ مِنْها كَالضَّغْطِ أَو القُرْحَةِ عِوضًا عَنْ المَشاكِلِ النَّفْسِيَّةِ الخَطيرَة، والتي تَنْتُجُ عَنْ كَبْتِ هَذِه المَشاعرِ السَّيِّئَةِ بِداخِلِكَ وعَدَمِ مُحَاوَلَةِ التَّنْفيسِ عَنْها وإِخْراجِها مِنَ جَسَدِك. في الكَثيرِ مِنَ الأَحْيانِ تُصبِحُ هَذِه المَشاعِرُ هِيَ المُتَحَكِّمَةُ بِكَ ولَسْتَ أَنْتَ المُتَحَكِّمَ بِها، مِنَ الطَّبيعِيِّ أَنْ تَجْعَلَكَ شَخْصًا شَديدَ الحَساسِيَّةِ تِجاهَ أَيِّ تَصَرُّفٍ قَدْ يَبدُرُ مِنَ الآخَرين، وتَكونُ رُدودُ الأَفْعالِ التي تُكَوِّنُها في المَواقِفِ الطَّبيعِيَّةِ شَيئًا مُبالَغًا بِه.

التَّسامُحُ أَنْ تَمْلِكَ المُقاوَمَةَ عِنْدَ حُصولِ شَيءٍ لَمْ تَكُنْ تَعتَقِدْ بِأَنَّهُ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَحْدُثْ. هُوَ أَنْ تُعطي فُرصَةً لِكُلِّ الأُمُورِ القَادِمَةِ بِأَنْ تَكُونَ جَيِّدةً، وأَنْ لا تَحْكُمَ عَلى كُلِّ الحَياةِ بِالسُّوء. أَنْ تَترُكَ المَشاعِرَ السَّلْبِيَّةَ وَرَاءَكَ مَشاعِرَ المُعانَاةِ والأَسى؛ الحَياةُ قَصيرَةٌ جِدًّا إِنْ أَخَذْنا الأُمُورَ بِالسُّهولَةِ التي هِيَ عَلَيها. نَحنُ مَنْ نَتَحَكَّمُ بِدرَجَةِ الصُّعوبَةِ والسُّهولَة، ونَحْنُ مَنْ نُقَيِّمُ هَذِهِ الأُمور ونَضَعُها تَحْتَ مَعاييرَ وأُسُسْ. وكُلُّ شَخْصٍ مِنَّا لَدَيهِ مَعاييرهُ الخَاصَّةُ بِه، ولَيْسَ بِالضَّرَورَةِ أَنْ تَكونَ مَعاييرُنا وَاحِدة، حَتَّى نَسْتَطيعَ العَيْشَ في تَناغُمٍ مَعَ مَنْ حَولَنا، حَتَّى نَنْسَجِمَ مَعَ الأَشْخاصْ. عَلَينا فَقْطْ أَنْ تَقَبَّلَ ما هُمْ عَلَيه، بِغَبائِهمْ أو بِجَهْلِهِم، مَهْما كانَ الشَّيءُ الذي يُحَدِّثُنا بِهِ عَقلُنا، ومَهْما كَانَتْ دَوافِعُنا الدَّاخِليةُ إِلى إِصدَارِ هَذِهِ الأَحكام. عَلينا مُمَارَسَةَ فَنِّ التَّقَبُّل –وأعْنِيها جُملةً وتَفْصيلًا-، لِنَسْتَطيعَ الاسْتِمْرارَ في الحَياة، لِنسْتَطيعَ أَنْ نَرى الفَرحَ مَرَّةً أُخْرى، لِنَسْتَطيعَ أَنْ نَهْتَمَّ بِما هُوَ أَهَمّ.

وجودُ الدَّافعِ أَو الرَّغبةِ بِداخِلِكَ لِتَكُونَ إِنسانًا أَفضَل، أَو رَغبَتِكَ في أَنْ تَشْعُرَ بِمشاعِرٍ أَكثَرَ اسْتقرارًا وسَكينةً، شَيءٌ كافٍ لتَبدَأ بِالبَحثِ عَنِ الطَّريقَةِ التي سَتَسْتَطيعُ مِنْ خِلالِها مُمارسَةَ التَّسامُح، إِنْ كَانَ مَعَ الآخَرينَ أَو مَع نَفْسِك، فَلِكُلٍّ مِنهُم طَريقَةٌ مُفَصَّلة، وخُطَّةٌ واضِحَةٌ بِإمْكانِكَ اتِِّباعُها، لَيْسَ كُلُّ شَيءٍ في الحَياةِ في السُّهولَةِ التي نَتَوقَّعُها، ولَيسَ مُقَدَّراً لِكُلِّ شَيٍءٍ أَنْ يَحْدُثَ كَما نُخَطِّط، وأذْكُرُ هُنا اقتِبَاساً يَقول “إِذا كُنتَ تُريدُ رُؤيَةَ الشُّجْعان، فابْحَثْ عَنْ أُولئِكَ الَّذينَ يُمكِنُهم إِعادَةُ الحُبِّ إلى الكَراهِيَة. وإِذا كُنْتَ تُريدُ أَنْ تَرى الأَبْطال، فابْحَثْ عَنْ مَنْ يُسامِح. ” – بهاجافاد جيتا

نِعمَةُ الإِداركِ مِنْ أَجمَلِ النِّعَمِ التي وَهَبَنا إِيَّاها الله، أَنْ نَعلَمَ مَتى يَكُونُ الأَمرُ الذي وَاجَهْناهُ يُشَكِّلُ ضَرَرًا وتَحَدِّيًا لَنا. مَتى عَلينا أَنْ نَتَوقَّف، ومَتى عَلينا أَنْ نَسْتَعْمِلَ عَقْلَنا لِنَسْتَفيدَ مِنْ التَّجرُبَةِ التي أَلَمَّتْ بِنا. أَنْ نَأخُذَ الدُّروسَ مِنْ هَذِه التَّجْرُبة، وأَنْ نَتَعَلَّمَ أَنْ نَتْرُكَ ما تَبَقَّى لِلزَّمَنِ لِيُعَافِيه، بِِطَريقَةٍ أو بِأُخْرى، لِنَبْحَثَ نَحنُ عَنِ الطَّريقَةِ التي تُناسِبُنا، وتُشْعِرُنا بِالرَّاحَةِ والسَّعادَة، وإِنْ كانَتْ سَعادَةً لَحْظِيَّة!. أَنْ لا نَسْتَسْلِمَ أَمَامَ المُعيقَاتِ مَهْما كَانَتْ، وأَنْ نُحاوِلَ مِرارًا وتِكرَارًا، حَتَّى تَمِلَّ مِنَّا المُحاوَلة، ويَمِلَّ مِنَّا الرَّجاء، ويُعطِينا مَا نُريد، ومَا يَجْعَلُنا في رِِضى مَعَ ذَواتِنا، ومَعَ مَنْ حَولَنا، عَلينا اسْتِخدَامُ المَشاعِر بالطَّريقَةِ التي وُجِدَتْ لِأجْلِها المَشاعِر، أَنْ نَشْعُر، في الوَقْتِ الذي يَجِبُ عَلَينا بِه أَنْ نَشْعُر، وأَنْ نَتْرُكَ الشُّعور، في الوَقتِ الذي أَصْبَحَ بِهِ الشُّعورُ هُوَ المُتَحّكِِمُ لا نَحن. أَنْتَ وَحْدَكَ مُنقِذُك، لا تَنْتَظِرْ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَشِلَكَ مِمَّا أَنْتَ فيه، كُنْ لِنَفْسِكَ كُلَّ شَيء .. فَأنا في كُلِّ مَرَّةٍ أَعودُ بِها إِلَيّ.

إِسْراءْ مَنْصور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *