مُسيَّرين أم مُخيَّرين؟

مُسيَّرين أم مُخيَّرين؟

كالأَطفال، نُقلِّدُ كلّ ما نَراه، ما نَسمَعُه، نُراقِبُ بِحرصٍ وانتِباهٍ شَديدَين، لِأنَّ لَدينا من نُراقِبُ بِسهولَةٍ ويُسر. لا نَحتاجُ بِها إلى الاختِباءِ والتَّتبُّع، بَل إنَّ حياةَ من نُراقِبُهُم مُعتمِدةٌ اعتماداً كامِلاً على هذا الأُسلوبِ من مُشارَكةِ التَّفاصيل. هُم مُعتادونَ على فِكرَةِ وجودِهِم ضِمنَ عوائِلٍ كبيرَةٍ جداً -على حدِّ تعبيرِهم- والتي تَصلُ إلى ملايينٍ من الأشخاصِ في بَعضِ الأحيان. هذهِ العائِلةُ هي التي تُعلِّقُ وتتفاعَلُ مع المُحتوى الذي يُقدِّموهُ إن كانَ سيِّئاً أو جيِّداً، فلا فَرق، أصبَحنا نُراقِبُ السيِّءَ منها مرَّاتٍ أكثرَ من بابِ الفُضول. في الحقيقة، أستَغرِبُ من شَكلِ الحياةِ التي يِعيشُها هؤلاءِ الأشخاص، لأَنَّها وفي بادئِ الأمرِ حياةٌ شَخصيَّةٌ ومساحَةُ الأمانِ لِلفَردِ ليتَمتَّع بِحدودِهِ الخاصَّة. أُفكِّرُ بِطبيعَتِها، كيفَ تبدو، وما الشَّيءُ الذي يَدفَعُ الإنسانَ عن التَّنازُلِ عن كُلِّ خُصوصيَّتهِ فَقط لإِسعادِ وإمتاعِ غَيرِه، وهَل يُحقِّقُ هذا الهَدفَ أم لا؟، ما هيَ الحَربُ التي تَدورُ داخِلَ عُقولِ هؤلاءِ الأشخاصِ وبِداخِلِ أجسادِهم، هل تَكفي الأموالُ التي يَحصُدونَها بِإسعادِهم، أم أنَّ هنالِكَ الجانِبُ الآخر الذي لا نراهُ من حَياتِهم، والمليءُ بِالإرهاقِ والانتِقاد، والذي يُسبِّبُ لَهُم الكثيرَ من الأذى النَّفسيِّ والجَسدِيّ؟.

رَغمَ مَعرِفتِنا لهذهِ الحقائق، لا نَنفكُّ عن اقتِحامِ حياةِ الآخرينَ ومُتابَعةِ أدقِّ التَّفاصيلِ عَنهُم. هل فِعلاً نَحنُ نَقتَحِمُها أم هُم مَن يُقَدِّمونها على طَبقٍ من ذهَب؟، بل ويَتوسَّلونَ لِحشدِ المُتابعةِ والإعجابات، والتي في النِّهايةِ تُشكِّلُ مَصدرَ دخلٍ قويٍّ بِالنِّسبةِ لهم، بَل في كثيرٍ من الأحيانِ تَعتَمدُ حياتُهم عَليه؟!. نحنُ نَنصاعُ ولسنا مُجبَرينَ على ذلك، نُلاحِقُهُم من الإنستغرام للسنابشات، لليوتيوب، لِكلِّ ما يُمَكِّنُنا من رؤيَةِ زوايا جديدةٍ مِنهم، أموراً لم نَرَها من قبل، فإِنَّنا نعلَمُ ماذا يَأكلون، ما الأماكِنُ التي يَقصُدونَها لِشراءِ المَلابس، ما اللَّونُ المُفضَّلُ لَديهم، حَياتُهُم العاطِفيَّة، وحياتُهُم الزَّوجيَّة، نَعلَمُ متى خطى ابنَهُم الخطوةَ الأولى، وشاركناهُم عَدَدَ المرَّاتِ التي حَقَّقَ بِها هذا الطِّفلُ هدفاً في لُعبةِ كُرةِ قَدَم. وأكثَرُ من ذلكَ الكثير، نَرى الآخرينَ يستمتعونَ بِحياتِهم، بِما أنعَمَ اللهُ عَليهم مِن أموالٍ وأملاك، وبِما يأتيهِم مِن أموالٍ نتيجَةَ رؤيَتِنا لَهُم ومراقَبتِنا لِحياتِهم، عن طريقِ شاشاتٍ مُضاءة، لا تكادُ تَنفَذُ بطاريَّتُها إلا وحَرِصنا أشدَّ الحِرصِ على امتلائِها مُجدَّداً، خائفينَ من فِكرَةِ العيشِ من غَيرِها ودونِها.

نُريدُ أن نَكونَ باستِمرار، على مدارِ الأربَعةِ وعشرينَ ساعةٍ ولِمدَّةِ سبعةِ أيَّام في الأسبوع، مُتَّصلينَ نُواكِبُ التَّقدُّم، نُتابِعُ العديدَ من مشاهيرِ العالم، لاعِبُ كُرةِ القَدم، المُغنِّي، والرَّاقِص، والمُتحوِّلُ جِنسياً، وبَل والذي ليسَ لَهُ أيّ عمل، نُتابِعُه، لِنملأَ يومَنا الذي نَعتَبرُهُ ناقِصاً، وليسَ كاملاً كأيَّامِهم. نَتَذمَّرُ من عَدمِ اكتفاءِ رواتِبنا الشَّهريَّة، لِتَنعمَ عَلينا بِكُلِّ ما نَحتاج -ولا نَحتاج- في أغْلبِ الأوقات، فَقط لِنُصبحَ نُسخاً مِنهُم، نُقلِّدُهم بِطريقَةِ الكلام، وبِطريقَةِ ارتدِاءِ المَلابِس، وحتَّى بِالقَيِم والأخلاق. بَل ونُدافِعُ عَنهم إن فَعلوا شَيئاً خاطِئاً، وهو الذي من النَّادرِ جدّاً أن يُظهِروهُ إلى هؤلاءِ المُتابعين، فَترى حياتَهم تكادُ تكونُ مِثاليَّة، لا مشاكِلَ بِها ولا كَدَر، ولكن لَنْ تَخفى عنَّا هذه الأخطاءُ التي يَرتَكبونَها، لأنَّنا لم نَكتفي من مُتابَعتِهم على صَفحاتِهم الشَّخصيَّة، بل نُتابِعُ كُلَّ شخصٍ من المُمكنِ أن يَذكُرهُم، ومنَ المُمكنِ أن يمرَّ بِطريقِ بَيتِهم، وَصلَ بِنا الفُضولُ والتَّتبُّعُ لِنستَمتِعَ بِرؤيَةِ فضائِحِهم. والتي من المُمكنِ أن تَكونَ فضائِحَ مُفَبركة، فَقطْ لِتسليطِ الضَّوءِ عَليهِم مِن جديد، بَعدَما أصبَحتْ الأجواءُ الإلكترونيَّة لِشخصٍ جَديد.

أصبَحنا نُطالِبُ أهلَنا وعوائِلَنا بِأن يُصبِحوا آباءً مُتحضِّرينَ وأبناءَنا بِأن يكونوا عَلى مُستوى من الذَّكاءِ واللَّياقَةِ واللَّباقة، كما الأنُاسُ الذين نَراهُم يَوميّاً، حيثُ أصبَحت الكثيُر من القِيمِ لدينا مُتخَلخِلة، لا تَعرِفُ الاستِقرار، فهيَ مُرتَبِطَةٌ بِما هو -Cool- وعَصرِيّ… أَعلَمُ أنَّهُ من الصَّعبِ جدّاً تَقبُّل الكلامِ الذي أقولُه الآن، لِأنَّهُ كلامٌ جارِح، ولا يكادُ يصلُ إلى مُستوى الكلامِ اللَّطيفِ الذي نَسمَعُه من الذين أتَحدَّثُ عَنهُم الآن. فأصبَحتُ أنا المُخطِئَةُ في هذا الطَّرح -وأنا أَعلَمُ ذلكَ تمامَ المَعرِفة-، ولكنَّ الحقيقَة، ولِلأسَف في الكثيرِ من الأماكِن، يَجبُ أن تَكونَ جارِحة، لِتصِلَ بِنا إلى ذلِكَ الجُزءِ المُخبَّئِ منَّا، لِتُنعِشَهُ وتُعيدَ بهِ الحياة، وهوَ الذي لا يُريدُ الاقتِناع، ويَضمحِلُّ يوماً بَعدَ الآخر، مُخلِّفاً وراءَهُ العديدَ من المشاكِلِ النَّفسيَّة، والمشاكِلِ بينَ بعضِنا البَعض، كونَنا لسنا هؤلاءِ النُّسخ مِنَ الذين نَراهُم والذين يدَّعونَ المِثاليَّة.

الكثيرُ من الأُمورِ التي كنَّا نراها مُستحيلةَ الحُدوث، ونُنكِرُها في كلِّ وَقت، إن كانَ هنالِكَ داعٍ لِذِكرِها أو لَم يَكُن، أَصبّحتْ اليوم ومن كَثرَةِ ما نرى، ومِن كثرَةِ ما اعتادت أعيُنُنا عَليها، لِنقولَ بأنَّها ليست مُستحيلَة. تَدرَّجت بِنا التَّغيُّرات، خُطوةً خُطوة، أصبَحت في البِدايةِ شيئاً موجوداً بِكَثرة، ولا نستَطيعُ إيقافَ انتِشارِه، وبعدَ ذلكَ أصبَحت شيئاً غيرَ مهمٍّ إن كانَ يَحدُثُ أم لا، ومن ثُمَّ شيئاً عادياً، وإن فَعلَهُ أحدٌ مُقَرَّبٌٌ مِنَّا، لن يكونَ هنالِكَ أيُّ مُشكلة، بل وبدأَت الأفكارُ تَتراوَدُ لِلنَّفسِ بينَ الفينةِ والأخرى، نُفكِّرُ بهِ أحياناً، ونَخافُ من نَظرَةِ المُقرَّبينَ والمُجتمعِ فينةً أُخرى. إلى أن يَقومَ أحدٌ مِن هؤلاءِ المؤثِّرينَ على وسائِلِ التَّواصُلِ الاجتِماعيّ، ويَفعَلُ هذا الشَّيء الذي تُخاطِرُ نَفسكَ بِه، وكأنَّهُ سَحَبَ المِفتاح عن القنبلة، التي غيَّرت مَجرى الأمورِ من جَديد. فجأةً تُصبِحُ ترى أنَّهُ من الصَّعبِ جداً إكمال حياتِكَ بالشَّكلِ الذي هيَ عَليهِ اليَوم، وأن هذا التَّغيُّر مصيريٌّ لا مَحالة، وبِالفِعلِ يأتي ذلِكَ الصَّباحُ لِترى نَفْسكَ تَفعل الشَّيءَ الذي كانَ بيومٍ من الأيَّام، بعيداً، مُستحيلاً، بل وتَصرُّفاً غبيَّاً وغيرَ مسؤول.

لا أُريدُ أن أعُمِّمَ وأقولَ بأنَّ القُدوةَ الصَّالحة، الأشخاصَ الذين يَدفعونَنا لِلخيرِ وزيادَةِ السَّلامِ والأمانِ بِالعالم، ليسوا موجودينَ بل إِنَّهم في كلِّ مكان، وبَعضُهم مِنَ المُؤثِّرينَ على وسائِلِ التَّواصُل. لكن يَجِبُ أن نَنْظُرَ إِليهم، وإن كُنَّا سَنُتابِعُ أحداً فَهُم الأَولى بِالمُتابعة، ولَيسَتْ مُتابَعَتنا لِلأشخاصِ السَّيِّئين، الذينَ سَنستَيقِظُ يوماً ونَرى في أنفُسِنا خُصَلاً كثيرةً مِنْهم، ونُسخاً عَديدَةً حَولنا وبِمُحيطِنا القريبِ مِنهم، لما عَلينا أَن نُتابِعَ مَن هُم يَتَنمَّرونَ ويَستَهزؤونَ بِالآخرين، لِلمُتعةِ لا غير، لِلّذين لا يُبالونَ بِمشاعِرِ من حَولَهُم، لا يُفكِّرونَ بِالنَّتائِجِ ولا بِالقِيَمِ التي يَزرَعونَها في عُقولِ الأطفال وفي عُقولِنا كَشبابٍ أيضاً.

دَعونا لا نَدَعْ الفُرصةَ لِهؤلاءِ الأشخاصِ بِأَن يُصبِحوا جُزءاً يُمثِّلُ مُجتمعاتِنا، دعونا نُفرِّقُ بينَ التَّصرُّفاتِ الصَّحيحَةِ والخاطِئَة، وألَّا نَقولَ بِأَنَّ المُتابَعَةَ لَنْ تُؤثِّرُ بِنا، فَهيَ في الحقيقةِ تُؤثِّر، بل ومَفعولُها كالسِّحرِ على عُقولِنا وقُلوبِنا. أن نُراعي المادَّةَ التي نَنْشُرُها كأشْخاصٍ عاديِّينَ على صفحاتِنا الشَّخصيَّة، فإنَّنا مُؤَثِّرينَ أيضاً عَلى دائِرَتِنا الصَّغيرة، وإن كُنَّا لا نَعي ذلِك، إنَّنا نُؤثِّرُ على مُحيطِنا وأَصدِقائِنا وأطفالِنا، أن نُراعي ألَّا تَتَعوَّدَ أعيُنُنا على الجرائِمِ والدِّماءِ والعُنف، وإن كانَت هذهِ الأُمور حقيقَةً وموجودَةً بِالفِعل. دعونا نرى الجُزءَ المُشرِقَ من كُلِّ شيء، وأن نُضيئَهُ أكثَر، ونَنشُرَهُ ونُحاوِل بِكلِّ ما نَملِكُ مِن قُوَّةِ تأثير، بِأنْ نُغَيِّرَ في المُحيطينَ بِنا لِلأَفضَل. ألا نَسْتَسلِمَ لِرسائِلِ الكراهيَّة وأن نُجابِهَها، فإِنَّنا وإن تَفائَلنا ونَظرْنا إِلَيها بِكُلِّ حُب، فإِنَّ هذا الحُب سَيعودُ عَلينا عاجِلاً أم آجِلاً، تَفائلوا بِالخَيرِ تَجِدوه، ودُمْتُم بِكُلِّ محبَّة.

إِسراء مَنصورْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *