“هات المظلة!! هات المظلة خليني اقفزلك!” صاحَ أَحَدُ الرُّكَّابِ مِنْ كِبارِ السِّنِّ في الحَافِلَة، يُريدُ النُّزولَ في مَوقِفِ المُسْتَشْفى، “أنت مفكر الكل عنده رجلين يركض فيها!!” أَضافَ وهُوَ يَبْتَعِدُ مُتَثاقِلاً عَنْ مَقْعَدِهِ الذي يُشارِكُهُ بِهِ ابْنُه، والذي يُمْسِكُ بِيَدَيْهِ مُحاوِلاً مُساعَدَتَهُ عَلى الوُقوف، حَيْثُ كانَ كُنْترولُ الباصِ-وهُوَ الشَّخْصُ المُسْؤُولُ عَنْ تَنْظيمِ الحافِلَةِ وجَمْعِ الأُجار- يَقومُ بِاسْتِعْجالِ الأَشْخاصِ الذينَ يُريدُونَ النُّزولَ في هذِهِ المَحَطَّة، كانَ يَمْشي بِخَطَواتٍ مُتَثاقِلَةٍ ويُرَدِّدُ عِباراتٍ سَاخِرَةٍ في كُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطوها، لَمْ أَسْتَطِع أَلَّا أَضْحَكَ مِنْ رَدَّةِ فِعْلِهِ هذِه، ولَمْ أَمْنَع نَفْسِيَ مِنَ النَّظَرِ إِلى وَجْهِه، إِلى تَفَحُّصِ مَلامِحِه، كانَ “بِعَيْنَيْنِ ناقِرَتَين”، كَما كانَتْ تُرَدِّدُ أُمِّي عِنْدَ رُؤْيَتِنا مَرْضى، “عيونك ناقرين، شكلك رح تمرضي” تَقولُ وهِيَ تَتَحَسَّسُ جَبينِيَ لِتَرى ما هِيَ حَرارَةُ جَسَدي. أَرى عَينَاهُ ويَتَبادَرُ إِلى ذِهْنِيَ ذلِكَ المَوقِف، الكَثيرُ مِنَ المَشاعِرِ المُتَناقِضَةِ شَعَرْتُ بِها في تِلْكَ اللَّحظَة، الفَرَحُ بِأَنَّ أَحَداً ما قَدْ تَمَرَّدَ عَلى هذا الاعْتِداءِ والتَّنَمُّرِ الذي يُمارَسُ عَلَينا يَومِيّاً، والحُزنُ مِنْ أَجْلِه، كانَ يَرْتَدي كَمَّامَةً طِبِّيَّة، وهُوَ الشَّيءُ الذي مِنَ النَّادِرِ أَنْ تَرى العامَّةَ يَرْتَدونَهُ في الظُّروفِ العادِيَّةِ هُنا، لَقَدْ كانَ مُتْعَباً ومُثْقَلاً بِالمَرَضِ والهُموم.
أَذْكُرُ تَمْريناً قَدْ قُمْتُ بِهِ مَعَ مَجْموعَةٍ مِنَ الأَشْخاص، كانَ يَقومُ على النَّظَرِ في عُيونِ الآخَرينَ مِنْ حَولِك، وبِذلِكَ مَعْرِفَةُ الشَّيءِ الذي يَشْعُرونَ بِه، وقَدْ كُنْتُ قَدْ فَقَدْتُ عَمَّتِيَ قَبْلَ هذا الَّتمرين بِيَومَيْن، فَكُنْتُ أَشْعُرُ أَنَّ الأَشْخاصَ الذينَ يَنْظُرونَ في عَينايَ الآن، سَيُفاجَؤُونَ بِحَجْمِ البُؤْسِ القابِعِ بِهِما. أَذْكُرُ بِأَنَّني بَكَيتُ في آخِرِ العَشْرِ دَقائِقٍ هذِه، والتي كانَتْ مُخَصَّصَةً لِهذا التَّمرين، لَيْسَ مِنْ مَشاعِريَ الدَّاخِلِيَّة، بَلْ مِنْ ما رَأَيْتُهُ في عُيونِ الآخَرين، فَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّ البُؤْسَ يُرى ويَنْتَقِلُ مِنْ شَخْصٍ إِلى آخرٍ عَنْ طَريقِ عَيْنَيه!
شَعَرْتُ وأَنا أَنْظُرُ إِلَيهِ بِالبُؤْسِ أَيْضاً، لَمْ تَكُنْ الحَياةُ مُنْصِفَةً لَه -كَما بَدا لي- فَرِحْلَتُهُ ما زالَتْ في بِدايَتِها. نَعَمْ انْتَهى الآنَ مِنْ رِحْلَةِ الذَّهابْ، لكِنْ ما زالَتْ أَمامُهُ رِحْلَةُ العَوْدَة، وإِنْ كانَ قَادِماً مِنْ أَجْلِ مُراجَعَةِ طَبيب، أَوْ لَدَيهِ مَوعِد، فَما زالَ عَلَيْهِ الوُقوفَ في طابورٍ طَويلٍ لِيَنْتَظِرَ دَوْرَهُ لِلمَوعِد، مِنْ ثُمَّ طابورٌ أَطْوَلٌ لِأَخْذِ الأَدْوِيَةِ مِنَ الصَّيْدَلِيَّة، وبَقِيَتْ لَدَيهِ المَواعيدُ الأُخْرى التي يَجِبُ أَنْ يَحْضُرَها! خِلالَ مُتابَعَتِهِ لِمَرَضِه! نَفْسُ الأَحْداثِ ولكِنْ بِشَخْصِيَّاتٍ مُخْتَلِفَة، يَجِبُ عَلَيهِ التَّعامُلُ مَعَهُم، هَلْ سَيَبْقى لَدَيهِ “طُولَةُ البالِ” لِيُكْمِلَ تَمَرُّدَهُ على المُجْتَمَعِ الذي يَضَعُ عَشَراتِ المُعيقاتِ أَمامَه! أَمْ سَيَسْتَسْلِمُ ويَتَقَبَّلُ فِكْرَةَ وجودِها ويُحاولُ التَّعايُشَ مَعَها، كَأَيِّ شَخْصٍ آخَر! أَذْكُرُ عَدَدَ المَرَّاتِ التي أُشارِكُ فيها والِدَتي –أَطالَ اللهُ في عُمْرِها- في الذَّهابِ إِلى مَواعيدِ العِياداتِ المُخْتَلِفَةِ في المُسْتَشْفى، شَيءٌ لِلدَّم، وآخَرٌ لِلعِظام، وآخَرٌ لِلِجهازِ الهَضْمِيّ، وفي كُلِّ مَرَّةٍ يَكونُ الوَضْعُ أَسْوءُ عَنْ ذِي قَبْل. تَنامُ وتَصْحو عَلى مَقاعِدٍ خَشَبِيَّةٍ تُنْهِكُ ما كانَ صالِحاً مِنْ عِظامِها قَبْلَ القُدومِ إَلى المُسْتَشْفى، لِيَكونَ المُوعِدُ لِسَحْبِ الدَّم، حَيْثُ تَكونُ قَدْ انْتَظَرَت مِنْ خَمْسِ إِلى سَبْعِ ساعاتٍ لِيَأخُذوا مِنْ شَرايينِها الرَّفيعَةِ عَيِّنَةَ دَم! ويَجِبُ أَنْ تَعودَ لِأَخْذِ النَّتائِجِ بَعْدَ شَهْر! تُخْبِرُني في رِحْلَةِ العَودَةِ بِأَنَّني لَسْتُ مُضطرَّةً لِمُرافَقَتِها في المَرَّةِ القَادِمة، وهِيَ تَعْلَمُ بِأَنَّ الرِّحْلَةَ ذاتها سَوْفَ تَتَكَرَّر. طَبيعَةُ الحَياةِ وما يَتَخَلَّلُها مِنْ مَشاقْ، هُوَ الشَّيءُ الطَّبيعِيُّ والذي اعْتادَ النَّاسُ عَلَيه، أَنْ تَكونَ في دَوْلَةٍ لَيْسَ بِها حَرْب، ولكِنَّها بِموارِدِها ومِيزانِيَّتِها الفَقيرَة!
تَجْعَلُكَ تُعاني الكَثيرَ والكَثير! مِنْ عَدَمِ تَوَفُّرِ الخَدَماتِ بِالشَّكْلِ السَّليم!… لا أُريدُ أَنْ أُضَخِّمَ الأُمورَ كَما اعْتَدْنا عَلى تَسْمِيَةِ كُلِّ شَيء “بِالمُضَخَّمِ” عِنْدَما نَتَحَدَّثُ عَنْ هذِهِ القَضايا! هينا عايشين! أحمدوا الله! بِالتَّأكيدِ الحَمْدُلِلّهِ مِنْ قَبْلٍ ومِنْ بَعْد! ولكِنْ إِلى مَتى؟ إِلى مَتَى سَنَبْقى نَرى فُتاتَ الأُمورِ شَيْئاً عَادِيّاً ولطيفاً، بَلْ وَشَيئًا مُجْبَرينَ عَلى تَحَمُّلِهِ والاعْتِيادِ عَلَيْه و”بوس الأيادي” لِفِكْرَةِ وُجودِه! جَميعُ الأَمْثِلَةِ التي ذَكَرْتُها كانَتْ على سَبيلِ المِثالِ لا الحَصْر، لِنَبْدأَ بِالتَّفْكيرِ بِمَفْهومِ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ في الدُّوَلِ كافَّة، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ الاحْتِياجاتِ المُتَعَدِّدَةِ لِلأَفْرادِ والتي تَخْتَلِفُ مِنْ بَلَدٍ إِلى آخَر، فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُطْرَحَ مَفْهومُ الأّمْنِ الإِنْسانِيِّ فَقَطْ في حالَةِ وُجودِ حَرْب؟ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكونَ مَقْصوراً ذِكْرُهُ عِنْدَ وُجودِ طَرحٍ لِجماعاتٍ مُتَطَرِّفَةٍ تَسْتَخْدِمُ العُنْفَ كَوَسيلَةٍ لِلدِّفاعِ عَنْ آرائِها؟ أَمْ أَنَّ عَدَمَ تَوَفُّرِ الخَدَماتِ بِالطَّريقَةِ الصَّحيحَةِ مِنْ صِحَّةٍ وتَعليمٍ ومُواصَلات، والعَدالَةِ في تَوْزيعِهَا، والعَدالَةِ المُرْتَبِطَةِ بِالقَوانِينِ والأَنْظِمَةِ والتَّشْريعاتِ المُراعِيَة لِمَفْهومِ الجِنْدَر، ومَفْهومِ البِيئَةِ والطَّبيعَةِ والحَيْوانِ والنَّباتْ، القَوانينِ والسِّياساتِ التي تَشْمَلُ كافَّةَ نَواحِي الحَيَاةِ وجَوانِبِها المُخْتَلِفَة. كَيْفَ نُعَبِّرُ عَنْ مَفْهومِ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ في هذِهِ الحالَة؟ وكَيْفَ نَقِيسُه؟ هَلْ نَقيسُهُ عَلى ما تُوَفِّرُهُ الدَّوْلَةُ فَقَط؟ أَمْ نَقيسُهُ عَلى تَعامُلِنا كَأَفْرادٍ مَعَ بَعْضِنا البَعْض؟ فَما الذي يَعْنيهِ الأَمْنُ الإِنْسانِيّ؟ وَكَيْفَ يُحَقَّقْ؟ عُرِّفَ مَفْهومُ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ مِنْ قِبَلِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ قَبْلَ 25 سَنَة! حَيْثُ يُعَبَّرُ مَفْهومُ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ بِجَعْلِ العالَمِ مَكاناً خَالِياً مِنَ الخَوفِ والعَوَزِ والحاجَة!
إِن أَمْعَنَّا النَّظَرَ في هَذِهِ المُصْطَلَحاتِ الثَّلاثَة، نَرى أَنَّها مُرْتَبِطَةٌ بِكُلِّ تَفْصيلٍ صَغيرٍ يَمُرُّ بِنا، ومِنَ المُمْكِنِ أَنْ نَتَعَرَّضَ لَه، مَفْهومُ العَوَزِ والحَاجَة، هُوَ أَلَّا تَكونَ مُعْتَمِداً عَلى الآخَرِ لِسَدِّ لُقْمَةِ عَيْشِكْ، وحَتَّى وإِن كانوا والِدَيك! أَنْ تَكْتَفي بِنَفْسِك، بِعَمَلِك، عَن الحاجَةِ وسُؤَالِ الغَيْر! أَنْ تَعيشَ غَيْرَ خائِفٍ مِنْ ضَياعِ الفُرَصْ، وتَعَرُّضِكَ لِمواقِفِ الظُّلْمِ والتَّحَيُّز. ولكِنَّنا وإِنْ نَظَرْنا إِلى مُجْتَمَعاتِنا ثُمَّ إِلى الدَّوْلَةِ التي نَعيشُ بِها بَلْ إِلى ما هُوَ أَوسَعُ مِنْ ذَلِك، لَو نَظَرْنا إِلى العالَمِ كَكُل، فَهُوَ أَبْعَدُ ما يَكونُ لِأَنْ يَكونَ بِهِ أَمْنٌ إِنْسانِيّ! وأُكَرِّرُ بِأَنَّ الأَمْنَ لَيْسَ مُقْتَصِراً عَلى وجودِكَ في حَالَةِ حَرْبٍ مِنْ عَدَمِها، بَلْ عَلى انْعِدامِ الخَوْفِ والعَوَزِ مِنْ قاموسِكْ…
حَيْثُ أَنَّ التَّنْمِيَةَ المُسْتَدامَةَ والأَهْدافَ العالَمِيَّةَ السَّبْعَةَ عَشْر، والسَّلامَ المُسْتَدام، هُما وَجْهانِ لِعُمْلَةٍ واحِدَة، لا يَتَحَقَّقُ أَحَدُهُما بِلا الآخَر، ولا يَكْتَمِلُ أَحَدُهُما دونَ الآخَر، بَلْ ويَتَقاطَعُ مَفهومُ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ مَعَ كُلِّ هَدَفٍ مِنْ أَهْدافِ التَّنْمِيَةِ المُسْتَدامَةِ ويَدْعَمُها، أَمَّا الهَدَفُ الأَساسِيُّ مِنْ مَفْهومِ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ وسُبُلُ تَحْقيقِهِ تَكونُ بِالوِقايَةِ والمُقاوَمَة، لِأَنَّها تُؤَثِّرُ في المُسَبِّباتِ الحَقيقِيَّةِ لِضَعْفِ وُجودِ الأَمْنِ الإِنْسانِي، وتُنَمِّي القُدْراتِ المَحَلِّيَّةِ لِبِناءِ المُرونَة، بَلْ وتُعَزِّزُ مَفْهومَ التَّماسُكِ الاجْتِماعِيّ، والذي يَنْبُذُ العُنْفَ المَبْنِيَّ عَلى الاخْتِلاف، ويُعَزِّزُ مَفْهومَ تَقَبُّلِ الآخَرِ واحْتِرامِ حُقوقِ الإِنْسانِ وتَحْقيقِ الكَرامَةِ لِلأَفْراد. مِنَ الأُمورِ البَديهِيَّةِ والأَفْكارِ التي يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَغْرِسَها وتَبْنيها بِداخِلِكَ لِتَحْقيقِ مَفْهومِ الأَمْنِ الإِنْسانِيِّ لِتَصِلَ بِكَ إِلى خَطِّ البِدايَةِ في رِحْلَةِ السَّلام، هِيَ التَّوَقُّفُ عَنْ وَضْعِ الأَشْخاصِ داخِلَ قَوالِبٍ وإِصْدارِ الأَحْكامِ عَلَيْهِم بِحَسَبِ الصُّورَةِ النَّمَطِيَّةِ التي كَوَّنَها المُجْتَمَعُ عَنْهُم. أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَيْكَ عَلى مَدى اتِّساعِهِما في وَجْهِ الظُّلْم، في وَجْهِ التَّنَمُّرِ وفي وَجْهِ كُلِّ ما يُنافِي فِطْرَتَكَ السَّليمَة، كَإِنْسانٍ جُبِلَ على المَحَبَّة، أَنْ تَرى في الأَشْخاصِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ مَظاهِرِهِم الخارِجِيَّة. أَنْ تُحاوِلَ الوُصولَ إِلى ذلِكَ الجُزْءِ المُخَبَّأِ بِداخِلِهِم لاكْتِشافِ أُرْواحِهِم. أَنْ تُحاوِلَ أَنْ تَرى هذا البُؤْسَ الذي يُخْفونَهُ تَحْتَ أَقْنِعَةِ الرِّضَى، وأَنْ تَكونَ يَدُكَ مَمْدودَةً لِتَنْتَشِلَهُمْ مِنْ هذا البُؤْسِ إِلى بَرِّ السَّعادَةِ والحُرِّيَّةِ والسَّلام. أَنْ تَمْلِكَ أَنْتَ عُيونَ التَّمَرُّدْ، التي يَمْتَلِكُها المُسِنُّ المَريض.
إِسْراءْ مَنْصورْ