همساتٌ في حديقةِ المنزلِ يتناقلونَها بكلِّ شغفٍ وحِرصٍ لِنجاحِ خُطَّتهم البريئة، تَعلو ضحكاتُهم التي تَغمُرها حنيَّة أمٍ وحرصُ أب. كنسماتٍ يتأرجحونَ في الأرجاء، ألوانُ ثيابٍ تزهوا كألوانِ قوسِ قُزحٍ في السَّماء. قطوفُ أزهارٍ في بداياتِ الرَّبيع، مَنزلٌ مُنتصفُه طيبةُ قلبٍ ودفئٌ وحنان، وجُدرانه الصَّلبة مُتماسِكة، نسيجُ صنعٍ من الوعيِ والإدراك.
ما هي الطُّفولة؟
مشاكساتُهم جميلة، وشقاوتُهم بريئة، في تعامُلهم سعادةٌ وطفولةٌ خجولة. الطُّفولة هي مرحلةٌ تَمتدُّ من المیلادِ إلى البُلوغ، وهُنا يَلعبُ الآباءُ والبيئةُ المُحيطةُ بهم بِشكلها المُباشر دورًا كبيرًا في نموِّ الطِّفل والذِّكرياتِ التي سيتمُّ تشكيلُها لديه. تُعرَّف الطُّفولةُ من وجهةِ نظرِ عُلماء الاجتماعِ على أنَّها الفترةُ الأولى التي یمرُّ بها الفردُ من الحیاةِ الإنسانیَّة، والتي فیها يعتمدُ على والدَیه اعتماداً كلیّاً، مما يؤهِّله ذلك من تعليمِه وتنشئَته ورعايتهِ للمرحلةِ التَّالية، ناقلاً معهُ نُضجهُ الفسیولوجي والعقليّ والنَّفسي والاجتماعيّ والخلقيِّ والرُّوحي، والتي تتشكَّل خِلالها حیاةُ الإنسان ككائنٍ اجتماعيّ.
كما یُعرف أنَّ الطِّفل وفقاً للمادَّة الأولى من مَشروعِ اتِّفاقیَّة الأمَم المُتَّحدة على أنَّه “هو كل إنسانٍ لم یتجاوَز الثَّامنة عشرة ما لم یَبلُغ سنَّ الرُّشد قبلَ ذلكَ بِموجبِ القانون المُنطبِق علیه، وأمَّا الطُّفولة فَتُعرف على أنَّها مرحلة لا یَتحمَّل فیها الإِنسانُ مسئولیَّاتِ الحیاة مُعتَمدا على الأبوین وذوي القُربى، وهي المَرحلةُ الأولى لِتكوینِ نموِّ الشَّخصیَّة، والضَّبط والسَّیطرة والتَّوجیه التَّربوي. تُعتبرُ مرحلةُ الطُّفولة في الإنسان من أطولِ مراحلِ الطُّفولة بینَ الكائنات الحیَّة، حیثُ أنَّها تَمتدُّ من لحظةِ المیلادِ وحتَّى سنِّ الثَّانیة عشر، وتَنقسمُ هذه الفَترة إلى فَترتَین:
- مرحلةُ الطُّفولة المُبكِّرة من (2 – 5 سنوات): وهي المَرحلةُ التي یَكتسبُ فيها الطِّفلُ المهارات الأساسیَّة من اللُّغة والنُّمو الحركي لَديه، ممَّا يُعزِّز نموَّ وعيِ الطِّفل نحو الإستقلالیَّة، وفي هذه المَرحلة أيضاً تَتحدَّد معالمُ شخصیَّته الرَّئیسیَّة، ویبدأُ بالاعتِماد على نفسهِ في أعمالهِ وحَركاتِه بِقدرٍ كبیرٍ من الثِّقة والتِّلقائیَّة.
- مرحلةُ الطُّفولة المُتأخِّرة (6 – 12 سنة): وهيَ المرحلةُ التي يتمُّ فيها بلوغُ الطِّفل ودخولِه مرحلةً جديدةً مُختلفة، وتُدعى مرحلةَ المُراهقة، وبحيثُ تبدأُ من دخولِ الطِّفل إلى مرحلةِ التَّعليم، وتَنتهي في سنِّ البُلوغ، وتُعدُّ هذه هي فترةُ النُّضج، حيثُ تتطوَّر اهتماماتُ جديدةٌ لدى الطِّفل إلى جانبِ النُّضج من النَّاحية الجنسيَّة؛ كما ويتطوَّر الطِّفل في النُّمو البدنيّ والعقلي. فيما يتعلَّق بالجِنس، فإنّه يظلُّ نامياً، ولكنَّه يظهرُ بقوَّة كبيرة في نهايةِ هذه المرحلة، وبالتَّالي تُسمَّى هذه المرحلة فترة الكُمون. إلى جانبٍ آخر تتأثَّر الطُّفولة المتأخِّرة، عند بدايتِها ونهايتِها، بالظُّروف التي تؤثِّر بشكلٍ عميقٍ على التَّعديلاتِ الشَّخصيَّة، والاجتماعيَّة للطِّفل. كما وتتميَّز بدايةُ الطُّفولة المُتأخِّرة بدخولِ الطِّفل إلى الصَّفِّ الأوَّل في المدرسة، حيثُ إنّه يُعتبرُ هذا تغييرًا كبيرًا في نمطِ حياةِ مُعظمِ الأطفالِ الصِّغار. بالتَّالي، فهي مسؤولةٌ عن العديدِ من التَّغييراتِ التي تَحدُث في حياتِهم من حيثُ المواقفِ والقيمِ والسُّلوك. على الرَّغم من أنّه من المُمكن تَحديدُ بدايةِ مرحلةِ الطُّفولةِ المُتأخِّرة بدقَّة إلى حدٍّ ما، إلا أنّه لا يُمكنُ للمرءِ أن يكونَ دقيقاً جدّاً حولَ الوقتِ الذي تَنتهي هذه الفترة، وذلك لأنّ النُّضجَ الجِنسيّ (المعيار المستخدم لفصلِ مرحلة الطُّفولة عن مرحلةِ المُراهقة) يكونُ في سنٍّ مُتفاوِت، ويرجع ذلك إلى وجودِ اختلافاتٍ ملحوظةٍ في الأعمارِ التي يُصبحُ فيها الفِتيانُ والفتياتُ ناضجين جِنسيّاً، ونتيجةً لذلك؛ فإنّ بَعضَ الأطفالِ لديهم فَترةٌ أطول من المُتوسِّط في مرحلةِ الطُّفولة المُبكِّرة، في حين أنّ البعضَ يكونُ لديهم فَترةٌ أقلُّ من المُتوسِّط.(1)
تقول السَّيدة مونتيسوري حولَ الإجابة عن السُّؤال من هو الطِّفل؟
“إنَّه نسلُ البالغ الذي يَقمعُه كما لو كان قطعةً من مُمتلكاتِه “فهذا التَّعريف القاسي لا يبتعدُ بأيِّ حالٍ عن الواقع الذي نعيشُه، سواءً الواقع العربيّ أو الشَّرقي، والمُغرق بالتَّقاليد والعادات، والتي هي بِحاجةٍ للتَّنقية والتَّطوير (2). الاتَّجاهاتُ الوالدیَّة والمُمارساتُ الوالدیَّة ودورُها في بناءِ شخصیَّة الطِّفل فیما یختصُّ بالاتِّجاهاتِ التي یتبنَّاها الوالدان والمُمارسات والأسالیب التي یقومانِ بها لِتحقیقِ عملیَّة التَّنشئة الاجتماعیَّة أو التَّطبیع الاجتماعيّ للأطفال. هي تلكَ الاتِّجاهاتُ والأسالیبُ والمُمارسات التي تتعلَّق بالمُعاملة الوالدیَّة للأطفال على وجهِ العُموم وتلكَ التي تَرتبط بضبطِ السُّلوك (Disciplinary Procedures) بصفةٍ خاصَّة، وغرسِ القیمِ والعاداتِ والاتِّجاهات السَّائدة في المُجتمع لدى الأطفال، فیُمكن تَحدیدُها على النَّحو التَّالي: بالنِّـسبة للـمُمارسات الـتي یـقومُ بـها الـوالدان خـلالَ المـراحلِ المُبكِّـرة مـن عـُمر الـطِّـفل وهـي المـُمارسات التـي تَهـمُّنا والـتي یُطلق عَلیها، أسـالیب الـتَّنشئة المُـبكِّرة للطِّـفل (3).
الأسرةُ هي المدرسةُ الاجتماعيَّة الأولى للطِّفل، تقومُ بعمليَّة التَّنشئة الاجتماعيَّة وتُشرفُ على صياغةِ نماذجِ النُّمو الاجتماعيّ وتكوينِ شخصيَّته وتوجيه سُلوكه. الأسرةُ هي التي تُحدِّد بذورُ الشَّخصية كما تُحدِّد فيه طبيعةَ الإنسان، وهذا ما ذهب إليه تشارلز كولي (Cooley Charles). كما يتشكَّل الوجودُ البيولوجي للإنسانِ في رحمِ الأم، يتشكَّل الوجودُ الاجتماعيُّ للطِّفل في رحمِ الأسرة وحُضنها، والأسرةُ المُضطربة تُنتِج أطفالاً مُضطّربين، وأن أكثر اضطراباتِ الأطفالِ ما هي إلا عارضٌ من أعراض إضطرابات الأسرة المتمثلة في الظروف غير المناسبة في التنشئة الإجتماعية. يظل تأثير الأسرة جزءا أساسيا من كيان الأبناء حتى بعد أن يدخلوا إلى المدرسة، مشاركةً بذلك المجتمع والمدرسة في التأثير على شخصياتهم (4).
فهل هناك دورًا للسلام الإيجابي في مرحلة الطفولة؟
الطفولة الآمنة هي حق من حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم هذا حق لا شك فيه، ولا يمكننا غض البصر عنه وتجاهله. العوامل الداخلية لضبط السلوك عند الطفل، والتكيف والتآلف مع الآخرين، واستقلاله الذاتي واعتماده على نفسه وتحقيقه للنضج النفسي عن طريق التنشئة الإجتماعية، هي تلعب دورا كبيرا جدا في تحقيق السلام الايجابي لدى الأطفال في حياتهم الشخصية والعملية. السلام الداخلى الذى ينبع من الطفل يكون بينه وبين نفسه ثم يشاركه مع الآخرين، وهذا ما يجعله يتأثر في البيئة المحيطه به، وعندما قالت ماريا مونتيسوري في كتابها:
إن هذا المخلوق الصغير الرقيق الملئ بالنعمة، والذي نهيم به والذي نغرقه بالأشياء المادية، والذي يكون كدمية بالنسبة لنا، يجب أن يثير فينا التقدير والإحترام للأطفال بقدر كبير.
لذلك لابد من أن نقدرهم ونقدر المرحلة العمرية التي يمرون بها، بدأً من أن كل من الوالدين إذا عرف حقوقه وواجباته تجاه أطفالهم، ليس فقط برعايتهم وتقديم لهم حاجاتهم الأساسية. بل علينا أن نغذي هذه المرحلة بالحب والإنسجام والتناغم والتفاعل الإيجابي بيننا وبينهم من أجل أن نستطيع حصد ثمرة السلام. وبذلك يتحقق السلام في مجتمع الطفولة ومجتمعنا بشكل عام، ومن هنا يمكننا أن نحيا بمجتمع أفضل يزهو بالسلام الإيجابي.
رزان الظاهر
المراجع :
(1) KRISHNA KANTA HANDIQUI STATE OPEN UNIVERSITY INTRODUCTION TO LATE CHILDHOOD STAGE
(2) كتاب الطفل في الأسرة، ماريا مونتيسوري، ترجمة ملك مرسي حماد، مكتبة دار الكلمة، القاهرة 2003.
(3) الطفولة المبكرة وخصائصها الدكتور: مصطفى نعیم الیاسري.
(4) خصائص النمو في مرحلة الطفولة المبكرة واثرها على شخصیة الطفل، أ.د/ لیلى كرم الدین.