من ذاكرةِ المُخيَّم‎

من ذاكرةِ المُخيَّم‎

مشاعرُ لاجئ

اسمي لاجئ، أعيشُ في المُخيَّمات والمَلاجئ. في هذه الصَّحراء تَلدغُني العقاربُ صيفاً، وفي الشِّتاء ربَّما أموتُ من قَسوةِ البَرد. اقرأ أيُّها القارئ، زحفتُ إلى هُنا بًّرا وإخوَتي تاهوا عنِّي في البحرِ حيثُ تَجِدهم جُثثاً تَطفو على الشَّواطئ. أتيتُ إليكَ باكياً، خائِفاً، هارِباً من شظايا القَذائِف، ومن جزِّ عُنقي باحثًا عن مخابئ. أمِّي العظيمةُ تُحاولُ انتزاعَ الرُّعب من عينَي أخي الصَّغير قائِلة: سَنجِدُ بعدَ رحلتِنا هذه وطناً جديداً وبيتاً جميلاً فيه أسِرِةٌ ومدافئ. وصلنا إلى هذهِ السُّجون ذاتِ السَّماء المَفتوحة، أسيجةٌ حولَ خِيَمِنا القُماشيَّة، لا، عفواً الآن باتَت صفائحَ مِعدنيَّة تَتمدَّد في النَّهار وتتقلَّص في ساعاتِ اللَّيل الهادئ. لا مَحال تِجاريَّة ولا أسواق، لا أدخِنة المصانعِ ولا أزمة الطُّرقات، لا ضجيج السَّياراتِ والسَّماء ترى النُّجومَ فيها واللآلئ. دعني أحدِّثك عن طعامِنا الفاخر، علبةُ سردين فيها ثلاتُ أو أربعُ سمكاتٍ لكلِّ فردٍ فينا سمكةٌ صغيرةٌ يحتفي بها ويشكُر البارئ. تبّاً لهذا الحالِ المُتواطئ! بِقاعٌ في الأرضِ فيها رَغدٌ وبسطةٌ وعيشٌ هانِئ وأُخرى تُعاني الألَم والمَوتَ والكُلُّ فيها ظامِئ.

مِهنةٌ إنسانيّة

هنا في مخيَّمات اللُّجوء نخلعُ المريول الأبيض، نَضربُ بألقابِنا عرضَ الحائط، نَتجرَّدُ من حبِّ الظُّهور والشُّهرة وتَتحوَّلُ مِهنتُنا إلى مهمَّةٍ إنسانيَّة وكثَورةِ الحجارة نُحارب. نحنُ نحاولُ تقديمَ الرِّعاية الصِّحيَّة بالرَّغمِ من شُحِّ الأدويةِ وعدمِ توافُرها بِشكلٍ دائم. جُرعةُ المواساةِ وتَخفيفِ الألمِ عن صُدورِ اللَّاجئين تَسبِق جرعةَ الدَّواء، والإنصاتُ لِمن سيَروي بُطولاتِه قبلَ الحَربِ يُعدُّ بِمثابةِ إبرةٍ مُهدِّئة للأعصاب. بالسَّمَّاعة وبعضِ الأجهزةِ الطِّبيَّة البسيطة نُحاولُ أن نَكتشِف الدَّاء ونُعالجَه. في المُخيَّم نتخلَّى عن وسائلِ التَّرفيه فلا نَحظى بِدقائقٍ للرَّاحة، لا أجدُ الوقتَ لتناولِ الفُطور، والغداءُ يصبحُ وجبةَ عشاء، فَنحنُ نُغادرُ المُخيَّم في ساعاتِ المساء المُتأخر. سفرٌ بشكلٍ يوميٍّ ذهابٌ وإيابٌ في الحافلةِ والرِّحلةُ تَستغرقُ فتراتٍ طَويلة. مَرضى بِالمئاتِ يوميًّا ونَستقبلُهم بابتِسامةٍ صادقةٍ خاليَةٍ من التَّذمُّر والمَلل. أحياناً، نَتناسى وظيفَتنا لبضعِ دقائقٍ نُلاعبُ فيها الأطفال، نَمرحُ ونُغنِّي ونلهو مَعهُم. في المخيَّم نرى المريضَ نفسهُ رُبَّما أكثرَ من عشرينَ مرَّة خلالَ أسبوعٍ واحدٍ بِصَبرٍ كبيرٍ ودونَ تَعب. نَهِبُ حياتَنا للمَرضى والأطفالِ ونُكرِّسُ جلَّ وقتِنا لهُم، ونلقى ما نَتلقَّى من مخاطرِ السَّفر في سبيلِ أن نَشفي جِراحهُم ولو قليلًا. هنا تغيبُ الفُسحُ واللّهو مع الأصدِقاء وتُجمُّعاتُ الأهلِ عن المَشهدِ فلا وقتَ لدَيك، وكُلُّ ما تَحلُم به هو ساعاتُ نومٍ قليلةٍ تُصبِّركَ لِعناءِ اليومِ الذي يَليه.

عمَلُنا صعب. نَعملُ لساعاتٍ طويلة ونحنُ في الصَّحراء… ويصعبُ علينا الحفاظُ على نشاطِنا. لكن لا شيءَ يُفرِحُنا أكثرَ من مُساعدةِ الأشخاصِ الضُّعفاء والمُحتاجين

إنَّ مُهمَّتَنا ككوادرٍ تعملُ في العياداتِ الطِّبيَّة داخلَ المُخيَّمات تَتضمَّنُ توفيرَ الاستشاراتِ الطبيَّة المُتعلِّقة بالرِّعايةِ الصِّحيَّة الأوَّلية. تَنظيمُ الأسرةِ ورعايةُ ما قبلَ الولادةِ والصِّحةُ الإنجابيَّةُ وطبُّ النِّساءِ والتِّوليدُ والفُحوصاتُ المِخبريَّة والرِّعايةُ الصِّحيَّة المُتخصِّصة للأمراضِ المُزمنة كالسُّكَّري والضَّغطِ وأمراضِ القلبِ وغيرِها لِسكَّان المُخيَّم. أيضا، خَدماتُ صحَّةِ الطِّفل من حيثُ مراقبة نموِّ وتطوُّر الطِّفل حيثُ يتِمُّ تحويلُ الأطفالِ الذينَ تترواحُ أعمارُهم بين 6 و59 شهراً والذينَ يتمُّ تشخيصُهم بِسوءِ التَّغذية لِتلقِّي العِلاج المُناسب. إلى جانِبِ تقديمِ خدماتِ التَّوعية والتَّثقيفِ الصِّحي حولَ تغذيةِ الرُّضَّع للأمَّهاتِ ومُقدِّمي الرِّعاية. بالإضافةِ إلى التَّعامُلِ مع الحالاتِ الحرجةِ ذاتِ الصِّلة بالحَرب من جُروحِ الحوادثِ والبَترِ النَّاجمة عن القذائفِ وحالاتِ العجزِ والحُروقِ وإعادةِ التَّأهيلِ والحالاتِ المُتعلِّقة بالصِّحة النَّفسيَّة ومنها القَلقُ والاكتِئابُ والفِصامُ واضطرابُ ما بعدَ الصَّدمة، حيثُ أنَّهُ هنالكَ عشراتُ الحالاتِ بينَ الأطفالِ ممَّن يُعانون من أزماتٍ نفسيَّةٍ حادَّة جرَّاء ما شاهدوهُ من دماءٍ ودمار. حملاتُ التَّطعيم ومكافحةُ الأمراضِ السَّارية ومُتابعتِها وتنشيطُ عمليَّةُ الرَّصدِ الوبائيّ للأمراضِ بشكلٍ مُستَمر. إلا أن هُنالكَ العديدُ من الحالاتِ التي تَعجَزُ هذه المراكزُ الصِّحيَّة المُتواضِعة عن تقديمِ الرِّعاية الفائقة لها مما يستدعي نَقلَها إلى خارجِ المخيَّم وإحالتِها إلى المُستشفياتِ التَّابعة لوزارة الصِّحَّة. كما أنَّ الظروفَ البيئيَّة في المخيَّم لا ترتقي لأن تَكونَ مُناسبةً للعيشِ بِشكلٍ صحيّ، ولذلك نجدُ الكثيرَ من حالاتِ الزُّكام والملاريا والجفافِ والتهاباتِ البُلعوم التي تُشكِّل عائقًا في ظلِّ هذه الخَدماتِ البَسيطة.

العياداتُ المتنقِّلة: تُشكِّل العياداتُ المُتنقِّلة انعكاساً للقيَم الإنسانيّة من خلالِ مُحاولةِ الوصولِ إلى المناطقِ النَّائية خاصّةً في جنوبِ الأردن والتي يَصعبُ على أهلِها الوصولُ إلى الخدماتِ الصِّحيَّة، وهذهِ الأماكنُ هي القُرى البعيدةُ عن المراكزِ الصِّحيَّة والفَقيرة التي لا يَقوى سُكَّانُها على تكاليفِ العِلاج، وهذه الخَدماتُ تُقدَّمُ لجميعِ الأشخاصِ المحتاجينَ سواءً من اللَّاجئينَ السُّوريِّين أو من أبناءِ المُجتمعِ المَحلِّي.

الطِّفلةُ السُّوريَّة نُهى (إرادةٌ أقوى منَ الحرب): نُهى هذهِ الطِّفلة التي أجبرتها الحربُ على هجرِ منزِلها والابتعادِ عن كلِّ من تُحب، لِتأتي إلى الأردنِّ وبداخِلها الكثيرُ من الألمِ والكثيرُ من الفَرحةِ المَسروقةِ والكثيرُ من الأملِ بِنفسِ الوقت!. لا أعلمُ حقّاً ماذا تفعلُ الحروب، إنَّها تُنشىءُ أجيالاً مُتمرِّدة على الظُّلم، متمرِّدة على اليأسِ ومُتمرِّدة على الحياة!. أثناءَ عملي في إحدى جمعيَّاتِ إغاثةِ اللَّاجئين في الأردن، كانت تأتي نُهى إلى العيادَةِ طالبةً منِّي أن تتعلَّم كل شيءٍ عن الأدوية,، تُريدُ أن تُصبحَ صيدلانيَّة ولو لِيومٍ واحِد. ارتدَت ثيابي وكانت تُعطي المَرضى أدويَتهُم وتَستمعَ لِشكواهُم وكأنَّها حقًّا طالبةً في كُلِّيةِ الصَّيدلة!. اليوم نُهى بأمريكا تَحصُد العَديد من الشَّهاداتِ العِلميَّة وهي مُصمِّمة على أن تُصبحَ امرأةً مهمَّة في هذهِ الحياة، وأنا مُتأكّدِة أنَّها ستكونُ يوماً ما بِأفضلِ مكانٍ في هذا العالم. فَبالرَّغم من بَشاعةِ الحَرب وقَذارتِها إلا أنَّها خَلقت هذهِ الإرادَة الصَّلبة التي لا تُهزم! فُشكراً لها حقاً!.

الكبيرُ أحمد: غدا يتيمَ الأبَوينِ جرَّاء الحَرب، فصارَ يبحثُ عن الحُبِّ في أزقَّةِ مخيَّم الأزرق، يأتي إلى كلِّ العاملينَ ويصادِقُهم، يخشى أن يبقى وحيداً، ويحاوِلُ أن يَخلُق من تعاستِه أمَلاً. لا أعلمُ من اليتيمُ حقًّا في هذا العالم! فابتمسامَتُك يا أحمد تَبعثُ الآلاف من مشاعرِ الحُبِّ في هذا الكون. طفلٌ ويعتريني الخَجلُ حين أقولُ طفل، فإنِّي أرى فيه صلابةَ الرَّجلِ في تحمُّلهِ وتَفاؤُله وحُبِّه لِمُجالستِنا! يتيمُ الأبَوين فأصبحَ هو نفسُه الأم والأب والطِّفلَ كلُّهم بِداخِله، كان يَتردَّدُ علينا بين الحينِ والآخر ليطمئِنَّ عَلينا! كريمٌ مِعطاء، لا يَسمحُ لِنفسهِ القُدومَ فارغَ اليَدين، يَجلبُ لنا قطعةَ الحلوى الصَّغيرة التي قد ادَّخر لِشرائِها مالاً منذُ أيَّامٍ طِوال.

من داخلِ مُخيَّم الأزرق: مثلُ هؤلاءِ كُثرٌ لا يَسعُنا أن نَسرُدَ قِصَصهُم؛ فهُم بِحاجةٍ إلى مئاتِ المقالات، وهُنا يجبُ أن نتأمَّل في أنفُسِنا، فكلٌّ منَّا قد يكونُ هذا الطِّفل أو تِلكَ الحالمة بالنَّجاح في عَتمةِ المُخيَّم، وكلٌّ منهم قد يكونُ طبيباً يعمَلُ في مُخيَّم أو كاتباً قادِراً أن يروي قِصصًا ورواياتٍ يَصفُ فيها حالَنا. هذا ما يَجبُ أن يخلُقَ فينا حُبَّ العملِ لأجلِ الإنسانِ الآخر، فلا أتَخيَّلُ أنَّ هنالكَ أقوى وأعمقَ من مشاعِر الحُبِّ والسَّعادة التي اعترتني عِندَما أرسلَتْ لي نُهى رسالةً لِتقولَ لي بأنَّها لم تنسى كلماتي ودعمي لَها، وأنَّها اليوم على مقاعدِ الدِّراسةِ في الجامعة تُحقِّقُ حُلمها. السَّعادةُ حقًّا تَكمنُ في العَطاءِ وفي الشُّعورِ مع الآخرينَ في شتَّى الظُّروف وفي جميعِ الأوقاتِ وعلى قدرِ ما تُعطي تأخُذ؛ فالمَعنى الحقيقيُّ لِلحياةِ هو خِدمةُ البشريَّة.

“إنَّ الأيادي التي تُساعِدُ أقدَسُ من الشِّفاهِ التي تُصلِّي”

“لم يُدفئني نورُ العالم، بل قولُ أحدِهم ذاتَ يومٍ أنِّي أضأتُ نوراً في قلبِه”

نَجوى أبو زَهرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *