غرف الصدى

غرف الصدى

سنعود بالزمن قليلاً. سنعود إلى مدرستنا الصغيرة، أصدقاءنا القليلون، بيتنا بجدرانه الدافئة، وسنختلس النظر إلى غرف الصدى الإجبارية الصغيرة. أنت صدى صوت عائلتك، صورة مماثلة لوالدك ووالدتك تمشي بمشية مماثلة، تنطق الأحرف كما ينطقون؛ عندما كنت طفلاً كان يجب عليك أن تحب ما يحبون، تفعل ما تراهم يفعلون، تقرأ ذات صحفهم تتابع البرامج التي اختاروها لك، وتأكل وتغني بما يمليه عليك قانون منزلك الصغير، وأصدقائك هم أبناء أصدقاء والديك ربما. تمر السنين وأنت تظن أن قواعد منزلك هي قواعد منازل كل من في الكرة الأرضية، جميعهم ينظرون إلى ألعابهم بحب كما تنظر أنت لها، جميعهم يسمعون قصة ما قبل النوم من والدتهم كما تفعل أنت، جميعهم يقولون “ماما” كما تقول أنت.

تمر السنوات، تتوسع الدائرة، تخرج من المدرسة الإبتدائية إلى الثانوية وأنت إلى الآن يجب أن لا تصادق إلا من يرتاح قلب والديك له. لا تختار إلا ما يرضيهم، تحاول الخروج من عشك الصغير، تحاول الطيران، تراهق، ترهقك محاولات فهم ما يدور حولك، تكبر ويبدأ الصراع. أنت لست وحدك، أفكارك ليست وحدها الصحيحة بالمطلق، حلالك وحرامك ليس مطلقاً أيضاً. ما كان ممنوع عليك فعله أو التفكير فيه ليس خطأً بحتاً كما صور لك. العالم أكبر من حيّك، جيرانك وجدران منزلك ومدرستك الصغيرتين. تكبر تخالط أشخاصاً من مختلف الثقافات والأديان تقترب وتبتعد تخطئ وتصيب تحاول أن تغربل كل من حولك بما يتناسب مع أفكارك لأنك اخترت الطريق الأسهل والأقصر. لا جدال، لا نقاش، لا أفكار تأخذك للبعيد لتفكر وتتفكر. تكبر وإذ بك خرجت من غرفة صدى عائلتك إلى غرفة الصدى الخاصة بك كل من فيها يوافقك الرأي كل من فيها يرد كما تحب أنت. تَطورَ العالم؛ كان من المفترض أن يصبح قرية صغيرة تجمع الأضداد والإختلافات، قرية تتسع لنا جميعاً، لكن ما حدث أن القرية الصغيرة هذه لم تكن بهذه الوردية المتخيلة. في المناطق التي شهدت أوسع انتشار للإنترنت وأقوى اعتماد على مصادرها الإخبارية، أسهمت الخوارزميات التي تُستعمَل لفرز المعلومات المتعاظم سيلها، وتصنيف نتائج عمليات البحث، ووظيفة التلقين الإخباري التي تؤديها وسائل التواصل الإجتماعي في إيجاد ما سُمّي ب (غرَف الصدى) و (فقاعات الترشيح) التي يُرى فيها عوامل لتدعيم الآراء الفردية الموجودة وإنتاج مناقشات مغلقة، على الرغم من أن هذا التطور قد لا يكون بالضرورة قوياً بمقدار ما يوصف أحياناً.

المقصود بمصطلح غرف الصدى أن مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي، في بعض الحالات، يمكن أن يكونوا معرضين لما يشبه غرفة الصدى، أي أنهم يتفاعلون فقط مع المحتوى الذي يؤكد المعتقدات التي يؤمنون بها بالفعل. نظرا لأن المستخدمين يتفاعلون مع المحتوى الذي يؤكد خطابا أو سردية محددة تتوافق مع ميولهم ورؤيتهم وقناعاتهم ويتواصلون مع أولئك الذين يؤمنون بمعتقدات مشابهة‘ إن وسائل التواصل الإجتماعي تخلق حالة من الوهم بوجود توافق واسع النطاق. هذا قد يوقع الأفراد في شبكة تتبادل المحتوى المتطرف، مما يُعرّضهم لردود فعل عاطفية أكثر حدة، ومن ثم يصبحون عرضةً للإستقطاب. هنا، ترتبط غرف الصدى بالمفهوم الذي يطلق عليه علماء النفس مصطلح الإنحياز التأكيدي الذي يصف الميل البشري للبحث عن المعلومات التي تؤكد المعتقدات الموجودة بالفعل ويتجاهل المعلومات التي تتعارض مع هذه الآراء لتجنب التنافر المعرفي. بعبارة أخرى، كون أن لدى “الأفراد المتصلون بالشبكة”. اليوم صلات بشبكات متعددة، لا يمكن أن يُقال إنهم محصورون هيكليا في غرفة صدى، فقد يحصرون هم أنفسهم. رغم ذلك، في غرفة صدى نفسية أو معرفية نتيجة أنهم لا يولون نفس القدر من الاهتمام للمعلومات التي تقدمها لهم علاقاتهم خارج شبكة غرفة الصدى المنعزلة. يجب ألا تُفهم غرفة الصدى بالضرورة على أنها غرفةٌ من دون أبواب، بل على أنها غرفة تُفتح فيها أبواب محددة، فيما تبقى الأبواب الأخرى مغلقة من قبل مستخدمي وسائل التواصل الإجتماعي أنفسهم وهي عملية لا شعورية في كثير من الأحيان. المشكلة الحقيقية لك كإنسان، أن يكون صوتك في النهاية صدى، يُنطق و يعود.

يقول إيلي باريسر مؤلف كتاب (فقاعة الترشيح؛ ماذا يخفي عنا الانترنت): أن المستخدم أصبح محصوراً ضمن إطار ضيِّق لا يمكنه من الوصول لأفكار أو معلومات جديدة. على سبيل المثال لن تصلك أفكار سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو إنسانية خارج هذه الفقاعة التي صنعتها لك تلك الشبكات. المعلومات التي تظهر لك على فيسبوك هي أشياء قام أصدقاؤك بمشاركتها أو أصدقاؤهم، والأخبار التي تظهر لك هي من المصادر التي قمت بالإعجاب بها.

بهذا قد قمت بتحديد مصادر معلوماتك حصراً من هذه المصادر، حتى الإعلانات التي تظهر لك فهي تتعلق بأشياء قمت بالبحث عنها أو لها ارتباط بمنطقتك الجغرافية. لكن نتيجة تلك السياسات التي بنيت عليها خوارزميات فقاعات الترشيح تبدو واضحة، الآلة لا تحمل العواطف ومن التحديات الكبرى التي بدأت تواجه شبكات التواصل الإجتماعي ومواقع البحث وغيرها هو كيفية الحد من انتشار الأفكار والأخبار الكاذبة والمزيفة. في مقالٍ لها نشر في شهر نوفمبر من عام 2017‘ اتهمت صحيفة الإيكونوميست البريطانية مواقع التواصل الإجتماعي بفرض سطوة توجيهية على المستخدمين تؤثر في قراراتهم الانتخابية. مع ذلك، فإن ما يحصل في المنافسات الانتخابية من سرعة تكاثر ما يسمّى ب (الأخبار الملفّقة)، قد ساهم بتحديد وجهة صوت الناخب ولم تسمح هذه المواقع للمستخدم بمشاهدة رأي مختلف قد يغير وجهة نظره.

ذكر الأخوان هيث في كتاب (الحسم) عن تجربة قام بها أحد الباحثين؛ حيث عُرض على المشاركين في البحث جمل ليست معتادة مثل (سحّاب الملابس صنع في النرويج)، وقد أُخبر المشاركون بأن هذه الجمل ربما تكون صحيحة وربما تكون خاطئة. خلال التجربة تم تكرار عينة من الجمل لثلاث مرات في نصوص مختلفة ومن ثم طلب من المشاركين تقييم صحة الجمل. وجدوا أن الجمل المكررة جعلت المشاركين يؤيدون صحتها أكثر من الجمل التي لم تتكرر. وفي دراسة أخرى أُجريت على مجموعة من مستخدمي تويتر، وجد أنّ أكثر المستخدمين الذين ينتمون لحزب سياسي يقومون بإعادة تغريدات تدعم حزبهم. يقوم هؤلاء المستخدمون في الغالب بنشر تغريدات لمقالات في صحف تميل لحزبهم السياسي. هذه التغريدات تضع هؤلاء المستخدمين ومتابعيهم في دائرة الأفكار المكررة. هذه الأفكار المكررة التي تصلنا تعزز انحيازنا الذاتي، فحين نتلقى معلومات تعزز قناعات نميل لها فإنها ستترسخ في عقولنا وقلوبنا ونصبح أقرب لرفض أي فكرة لا تندمج مع ما ننحاز له من أفكار وقناعات. بهذا يصبح المستخدمون كمن يسمع صدى صوته في غرفةٍ فارغة فيخسرون قدراتهم على الحصول على الرأي الآخر الذي ربما يكون على صواب أو أقرب إلى الصواب.

الإنترنت تقنية غيرت شكل الكوكب، اليوم أصبحنا سكان كونيين نستطيع أن نتواصل مع سكان القارات الأخرى كأننا في نفس المكان على الرغم من اختلافه، الانترنت بإمكانه جعلنا أكثر تواصلاً وبإمكانه جعلناً أكثر انغلاقاً على أنفسنا وخياراتنا والأشياء التي نفضلها.

زين الصبح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *