لعنةُ الندمِ تُطاردني يا أسماء بعد أن فقدتك ولكن الوقت فات. ربما قد عُدتِ أدراجك إلى المغرب أو ربما أنتِ الآن بروسيا تختصين بالمجال الذي تحبين (طب النسائية والتوليد)، أرأيتِ! ما زلتُ أذكر أدق تفاصيلك. لعنةُ الشعور بالتفريط بك ما زالت تؤلمني وذِكرياتُ مقاعد الدراسة في الجامعة لا ترحمني، الودُ كان كبيراً والإهتمامات متشابهة. صداقتنا كانت كشجرةٍ عُمرها ألف عام إلى أن اندلعت الحربُ في سوريا التي قسمت الآراء والوِجهات بين مؤيد للنظام وبين معارض وهنا بدأت النهاية. نهاية رحلة الصداقة التي جردتني من تلك الأقنعة التي لطالما وضعتها خلف شاشة موقع التواصل الإجتماعي (فيسبوك) من داعية للحرية وإحقاق الحق ونبذ الكره إلى إنسانة جشعة، في الحقيقة جُلَّ ما يهُمها هو إثبات صحةُ منطقها أمام الجميع. فقد وضعتُ منشورا أعبرُ فيه عن رأيي مثلي مثل الكثيرين الذين أرادوا التعبير عن وجهة نظرهم فيما يتعلق بأزمةِ الحرب في سوريا لتقوم أسماء بالتعليق عندي بما يخالفني ويخالف كل من حولي من أصدقاء داخل هذه المِنصة.
البداية كانت في محاولة إقناع كُلٍ مِنا الآخر ثم تصاعد صوتُ النقاش وبدأ الذمُ والقدح وبات النقاشُ يسيرُ على مقولةِ (إن لم تكن معي فأنت ضدي) للأسف خُيل لي بأنني انتصرتُ نظرًا لِكثرة التعليقات التي انهالت لِتُثبِتَ لأسماء بأنها مخطئة وكي تلعن أسماء تلك الساعه التي قد تتجرأ وتكتب فيها شيئاً يُخالفُ أفكاري وأفكارَ من حولي. وكشعورِ قائد الجيش المُنتصرِ في الحرب شعرت، وكأنّ الكونَ كُلّه يمشي على ممشاي. أسماء قطعت ِصلَتها وتواصلها بي لشعورها بالإهانة مني ومن أصدقائي على هذه المنصة. ذابت سُنون العشرة والمحبة التي بيننا وتلاشت ولم يبقى منها سوى الندم، والندم يا أسماء لعنة مزمنة! كارثةٌ مهولة، إنهُ منفاي الحقيقي، الخطيئةُ وطنٌ والندمُ منفى!
ما زلتُ أذكُر تلك الأحداث التي على شاكلة قصة صديقتي أسماء، فتباين الأراء بين الكثيرين من مستخدمي الفيسبوك وغيره من تطبيقات التواصل الإجتماعي حول أزمات الحروبِ والسياسةِ والأديان والأعراق حتى أبسط المواضيعِ الإجتماعية المغايرة كانت وما زالت سبباً في انتشار الكراهية والضغينة. يعود ذلك لطبيعة الإنسان التي تميل لمطالعة ما يوافق اهتماماته وتحيزاته واستهلاكُ الأخبارِ عند مُعظم الأشخاص يقتصرُ على عددٍ قليلٍ جداً من الصفَحات وتسمى هذه الظاهرة بالتعرض الإنتقائي؛ أي أنّ الفردَ يتعامل مع الأخبار والأحداث والرسائلِ بطريقةٍ تتناسبُ مع تركيبته الفكرية ومخزونه المعرفي ومصالِحهِ وذلك من خلال إطاره الدلالي. ليس بالضروة أن يفسر المتلقي للرسالة بنفس المعنى الذي أراده المرسل بل يقوم بإعطاءها معنى مغاير فيصبحُ الإدراكُ حينها انتقائياً بالضرورة. بالرغم من أنّ التعرض الإنتقائي يعدُ خط دفاع أول أمام المضامين التي لا يرغب المتلقي فيها ولا يستسيغها؛ فمثلاً المثقف بالتأكيد لن يرغب بالتعرض للإعلانات الدعائية الهابطة أو المشجعة للعنف مثل برامج المصارعة الحرة، ولن يحبذ ربما رؤية المحتويات الإباحية أمامه من خلال الفيديوهات التي تظهر بصورة تلقائية (على سبيل الذكر وليس الحصر).
إلا أن انغلاق الناس على أنفسهم وطبيعتهم المتكاسلة المتقاعسة عن البحث بنشاط عن معلومات جديده عبر الإنترنت والتبحر في محتويات مختلفة أدى إلى ولادة غير طبيعية لما يسمى بظاهرة غرف الصدى التي تترجم سلوك الملايين من مستخدمي الفيسبوك وتويتر وغيرها من برامج التواصل الإجتماعي والإعلامي عندما يتشاركون قصة خبرية ويبدون الإعجابات بما يوازي أمزجتهم وأهوائهم مع الآخرين بصورة الجماعات التي تٌخلق بصورة تلقائية وبدائية تعمد للغحتشاد حولَ المادة الإعلانية والإعلامية التي تعكس آرائها بحيث ينتقي المستخدم من أصدقائه من يتفق معه ويشاركه التوجهات والتطلعات ويقوم بحذف أو حظر وأحيانا يمارس السلوكات المتطرفة والمتعصبة من شتائم وكلمات مجحفة بحق كل من يخالفه. فلا يسمح بطرح ومناقشة أي وجهة نظرمناقضه له تماماً كما هو حال الإنسان البدائي قبل ملايين السنين الذي يعيش ضمن سيادة الملكية الجماعية.
بالرغم من هذا الأفق المتحرر الذي أتاحته شبكة الإنترنت والفضاء الواسع الذي يُفترض أن تضمحلَ من خلاله العوائق الإجتماعية والجغرافية بين البشر ضمن مناخ من الديمقراطية والإنفتاح على الآخر. إلا أنَّ ذلك في الحقيقة أدَّى إلى إنطواء الأفراد وتقوقعهم هم ومن على شاكلتهم وما يعزز ذلك هو القدرات المعرفية المنخفضة مُمتزِجة مع النزعةِ الفطرية والنرجسية للتفرد والتميز عندما يشعر المرء بأنه الوحيد الذي يمتلك المعلومات النادرة وأنَهُ دائماً على صواب ويخلق من أفكاره ومن يشابهه عالماً خاصا بهم كأنهم الوحيدون على الأرض ومن يخالفهم يقطن في كوكب آخر، عوالم متباعدة وقنوات السمع مفتورة. هكذا هو حال غرف الصدى التي ابتدعها الأفراد وسهلتها مواقع التواصل والميديا من خلال الخورازميات الذكية المبتكرة لتبقيك داخل فقاعة معينة تقبع فيها بصورة دائمة، وترى من خلالها كل ما يعجبك. سواء داخل محركات البحث أو السوشيال ميديا وستقوم بغربلة المحتويات بما قد يتماشى مع تصوراتك. مثلاً، إذا كنت تمتلك توجها أياً يكن نوعه فأنت بطبيعة الحال ستتفاعل مع المنشورات ذات التوجه نفسه ومع مرور الوقت ستفهم تطبيقات التواصل الإجتماعي ذلك ولن تظهر لك سوى المنشورات التي تتوافق مع قناعاتك. يمضي الوقت على هذا الحال فتبدأ أنت بالإعتقاد بأنه لا وجود لرأي يختلف عن رأيك وهنا يبدأ التطرف وتصبحُ هذه المواقع بيئةً خصبة لانتشار الشائعاتِ والأخبارِ الكاذبة. إنَّ الأفراد ذوي القدرات المعرفية الأعلى من قُرّاءٍ وباحثينَ عن المعلومات من شتَّى المراجع والمصادر المنفتحين على الغير هم وحدهم يمتلكون المرونةَ لتعديل أفكارهم عندما يتعرضون للمعلوماتِ المتناقضة البعيدة كُلَ البعد عن الصحة، على عكس الفئة التي لا تقرأ ولا تبحث والتي تُصرعلى صحة آرائها على الرغم من الحقائقِ الجديدة.
قد حان الوقت لنفتح أبواب هذه الغرف المقفلة ولو لبرهة من الزمن أو كما يقول البعض بالعامّية (خلي الباب موارب) لتتزاور أفكارنا مع بعضها البعض بين الحين والآخر، رُبّما تتلاقى في مكان ما ورُبما تكتفي بإلقاء التحية والسلام. اخرج من قوقعتك لترى العالم من جديد فالسماءُ شاسعةٌ تتسعُ للجميع والكل فيها ينيرالأرضَ بطريقة ما. يستحيل على من خرجوا من نفس البطن أن يتفقوا في كل شيء، فكيف لنا أن نعاند ونتجبر؟! وكيف لنا أن نطالب الأخرين بأن يكونوا مثلنا؟!. أزل العصبة عن عينيك لترُد إليك بصيرتك! فالحقيقة ليست كما تراها دائماً, ومواقع التواصل الاجتماعي ليست بالبراءة التي تظن، إنها فقط تسعى لإبقائك في فقاعة ضيقة أنت ومن معك وتقدم لك كل ما يسرُ ناظريك كي يظل وقتك وجهدك محصوراً خلف الشاشة لتضمن ولاءك الدائم لها ولتعلم أيها القارئ علم اليقين بأنها خلقت العديد من الفقاعات بألوان وأشكال مختلفة وأنك لستَ سيّد الشاشة ولستَ بسيّد الكون.
كيف أخرج من هذه القوقعة؟
املأ جدولك الزمني بأنشطة مختلفة مارس الرياضة. اخرج مع أصدقاءك وتذكر دائماً الأضرار التي يسببها الجلوس لفتراتٍ طويلة أمام شاشة الإنترنت، اجلس مع عائلتك باستمرار وحادثهم وأبعد عنك هاتفك. إقرأ كتاباً فإنَّ خيرَ جليسٍ في الزمان كتابُ، تأمَّل ومارس تمارين الإسترخاء التي تُمكنك من اكتشاف ذاتك. تطوَع في الأعمال الخيرية التي تُعنى بمساعدة الضعفاء والمحتاجين؛ فالعطاء حياة أخرى!. قم بزيارة أقاربك ومعارفك عوضاً عن إرسال الرسائل الخالية من المشاعرِ. باختصار عُد إلى الحياة!
نجوى أبو زهرة