الثَّروة البَشريَّة

الثَّروة البَشريَّة

تَقولُ الحِكمةُ الصِّينيَّة: إذا أردتِ أن تَستَثمرَ لِعامٍ فازرَعْ حِنطة، وإذا أردتَ أن تَستثمِرَ لِعشرةِ أعوامٍ فازرَعْ شَجرة، وإذا أردتَ أن تَستثمِرَ لِمُستقبلٍ طويلٍ فازرَعْ في الإِنسان. الإِنسانُ هو الثَّروةُ الحقيقيَّةُ والاستِثمارُ الحقيقيُّ المُستدامُ الوَحيد. صِناعةُ المُستقبلِ أصبحت لا تَعتمدُ على ما تَمتلكهُ الدُّولُ من مواردٍ طبيعيَّة بِقدرِ اعتمادِها على الاستِثمارِ في الموارِدِ البَشريَّة. المالُ والمواردُ الطَّبيعيَّةُ رغمَ أهَمِّيَّتِهما إلا أنَّهُما ليسَ لَهُما قيمةٌ دونَ العُنصرِ البَشريِّ المُدرَّبِ المُبدعِ الذي يَُعتَبرُ شرطًا أساسِيًّا لِتحقيقِ النَّهضةِ الاقتِصاديَّةِ والتَّنمويَّةِ والتّكنولوجيَّة. الإنسانُ هو الثَّروةُ وصانِعُ الثَّروةِ وباني الأرضِ والمُنتِج فيها. لقد أظهرَت الدِّراساتُ أنَّ “تقدُّمَ الأممِ يُقاسُ تاريخيًّا، وحتَّى الــــيوم، بِتقدُّمِ أبنائِها، فالإنسانُ أعظَمُ رأسِ مالٍ بِالنِّسبةِ لأيِّ أمَّة. فقد أكَّدت جميعُ المؤسَّساتِ الاقتِصاديَّة والمالــــيَّة الدَّولية، أنَّ العاملَ الحاسمَ في التَّقدمِ هوَ الاستثمارُ الكثيفُ في البَشر، أو ما يُسمَّى بناءُ رأسِ المالِ البَشري، أو تَوفيرُ الموارِد البَشريَّةِ المُلائِمة، كمًّا كافيًا، ونوعًا عاليًا”. نحنُ نحتاجُ للاسْتثمارِ في الإنسان، لأنَّهُ السَّبيلُ المضمونُ لِدفعِ التَّنميةِ وإحداثِ النَّهضةِ الاقتِصاديَّة. في العالمِ الرَّقميِّ الذي يسودُ الآنَ يجبُ أن نُحاوِلَ اللَّحاقَ بِرَكبِ التَّقدمِ والحَضارة، وهذا لن يأتي إلَّا إذا تَسلَّحنا بِالعلمِ والأفكارِ الخلَّاقةِ والمُتطوِّرةِ التي سَتُدِرُّ علينا ملياراتِ الدُّولارات. وأن نُهيئَّ الظُّروفَ لِأصحابِ المواهبِ للإبداعِ والابتِكار، لأنَّ أفكارَهُم وإبداعاتِهم هي الِجسرُ الذي سينقُلنا إلى المُستقبل.

التَّنميةُ الإنسانيَّةُ هي تَنميةُ النَّاسِ ومن أجلِ النَّاس، ومن قِِبلِ النَّاس، كما وَردَ في سياقِ تقريرِ التَّنميةِ الإنسانيَّةِ العربيَّةِ لِعامِ 2002 الذي أصدَرهُ برنامجُ الأممِ المُتِّحدة الإنمائي؛ الاستِثمارُ في الإنسانِ استثمارٌ في المُستقبل. إنَّ كافَّةَ النَّظريَّاتِ المُتعلِّقةِ بالتَّنميةِ تُؤكِّدُ على أنَّ التَّنميةَ الاقتصاديَّةَ أو الاجتماعيَّةَ لا يُمكِنُ تحقيقُها دونَ أن يَصحَبها مُستوى تعليميّ، حيثُ أنَّ العائِدَ من الاستثمارِ في التَّعليمِ ليسَ هو العائِدُ المادِّيّ فَحسب، بل هُناكَ عوائِدٌ أُخرى مُتمثِّلة في الارتِقاءِ بِالفكرِ والمَعرفة، وقبولِ الآخر، والقدرةِ على الحوار. أثبَتَت النَّظريَّاتُ أنَّ العائِدَ المادِّي من الاستِثمارِ في مجالِ التَّعليمِ يفوقُ الاستثمارَ في المَجالاتِ الاقتِصاديَّة بِثلاثةِ أضعاف، على سَبيلِ المِثال سَنغافورة لا تَمتَلكُ أيَّاً من عَناصِرِ القُوَّةِ سوى الإنسان، حيثُ بلغَ ناتِجُها القومي حوالَي 314 مليار دولارٍ لِتحتلَّ المَرتبةَ الثَّامنَةَ والثَّلاثين على مُستوى العالَمِ مُتجاوِزةً مُعظَمَ الدُّولِ العَربيَّة، وقَفزَ دَخْلُ الفردِ فيها مِنْ أربَعِ مِئةِ دولارٍ في السَّنةِ في بِدايَةِ ستِّينيَّاتِ القرنِ الماضي إلى خَمسةٍ وخمسينَ ألف دولارٍ في الوقتِ الحاضِر.

إنَّ التَّعليَم والثَّقافةَ هُما أحَدُ المداخِلِ الرَّئيسيَّة لِلقرنِ الجَديد وغَيرِه من القُرونِ وهُما السَّبيلُ الأمثلُ لِحياةٍ مُثلى للفَردِ والشَّعبإنَّ مِقياسَ تَقدُّمِ الدُّولِ هو فيما تُقدِّمُه لِشعبِها أولاً. الدُّولُ المُتقدِّمةُ تَتبنَّى مبدأَ الاستِثمارِ في الإنسانِ ممَّا يعني وضعَ خُططٍ وأهدافٍ بعيدَةِ المدى تُمكِّنُها من امتِلاكِ أفضَلِ الكفاءاتِ الإنسانيَّة، وهو ما مكَّنها من الاحتِفاظِ بِالإنسانِ وضَمانِ ولائِهِ وحُسنِ أدائِه. أصبحَ عالَمُنا اليوم لا يَعترِفُ إلَّا بِالدَّولةِ القَويَّة، لا من حيثُ القوَّةِ العسكريَّةِ فَحسب، وإنَّما من حيثُ قوَّتِها الاقتصاديَّة، لأنَّ القوَّة الاقتصاديَّة أصبحت ضرورةً لِكي تحمي بِها قرارَها. الدَّولة التي تَعتمِدُ في مأكَلِها، وصِناعَتِها، وتِجارتِها على الغَيرِ تَفقدُ الكثيرَ من عناصِرِ التَّحكُّم في قراراتِها. الدَّولة القويَّة تكونُ قراراتُها قائمةً على أساسِ المُشاركةِ لا التَّبعيَّة، فالدَّولةُ الحُرَّة اقتصاديّاً لا تَكونُ عالةً على غَيرِها.

ما يُميِّز الدَّولة النَّاجِحة عن غَيرها، هو قبل كلِّ شَيءٍ مُواطنيها بِحيويَّتهِم وقُدراتِهم الإبداعيَّة، وما تبقَّى يُمكِنُ شِراؤُه، تَعلُّمه، أو حتَّى نَسخُه.

مَشروعُ رأسِ المالِ البشريِّ الذي أطلقَهُ البنكُ الدَّوليُّ بِهدفِ خَلقِ طلبٍ على الاستِثمارِ في العُنصرِ البشريِّ باعتِبارهِ مِفتاحًا لِتحقيقِ النُّموِّ العادل. يَهدفُ المشروعُ إلى دَعمِ البُلدانِ في تَقويَةِ إستراتيجيَّاتِها واستِثماراتِها لِتعزيزِ رأسِ المالِ البَشريِّ من أجلِ تَحقيقِ نتائج أفضل، حيثُ أنَّ الاستثمارَ في الإنسانِ هو أفضلُ أنواعِ الاستثمارِ لِبناءِ مُجتمعٍ صالحٍ قويٍّ اجتماعيًّا واقتصاديًّا. لِهذا، يَجبُ إعطاءُ الأولويَّةِ للاهتمامِ بالاستِثمارِ في الإنسانِ وبِالتَّحديدِ في الجيلِ النَّاشئِ ومَنحهِ فُرصةَ التَّعليمِ الحديثِ المُتطوِّر من مُستلزماتِ التَّكوينِ العِلميِّ حتَّى يكونَ قادِرًا على الابتِكارِ والتَّجديدِ والتَّفكيرِ بِشكلٍ مُستمرٍّ باحتياجاتِ مُجتَمعِهِ من عناصِرِ التَّطوُّرِ الاقتِصاديِّ والاجتِماعِيِّ لِيكونَ أداةً للنُّهوضِ باقتِصادِ وطنِهِ عبرَ تَعظيمِ موارِدِها وإن كانت شَحيحة. وإلَّا فَما هي المَوارِدُ الطَّبيعيَّة التي تَتَفرَّدُ بِها اليابانُ غيرَ الإِنسانِ الذي جَعلَ مِنها هذهِ المُعجزةَ الاقتصاديَّة؟.

يُشكِّلُ رأسَ المالِ البَشريِّ أغلبيَّةَ الثَّروةِ في البُلدانِ المُرتفعَةِ الدَّخل، ونِسبةً مِئويَّةً أقلّ من إجمالي الثَّروةِ في البُلدانِ المُتوسِّطةِ الدَّخل، ونِسبةً أقل من ذلكَ في البُلدانِ المُنخَفِضةِ الدَّخل. إذا نَظرتَ إلى شَريحَةِ الرُبيْع العُليا – 25% من البُلدانِ التي حسّنت رأسَ مالِها البَشريِّ أكثرَ من غَيرِها، وقارَنتها مع البُلدانِ التي تُمثِّلُ 25% الأدنى -البُلدانُ الأقلُّ تَحسينًا لِرأسِ المالِ البَشريّ- تَجد الفَرقَ هائِلاً. بَحَثْنا خِلالَ 25 عامًّا بينَ عامَي 1991 و 2016 فَوجدْنا أنَّ الفرقَ في النُّموِّ الاقتِصاديِّ يَبلُغُ 1.25% من إِجمالي النَّاتجِ المَحلِّي كُلَّ عامٍ على مدى 25 عاما. نَحنُ بِحاجَةٍ إلى بَذلِ المَزيدِ من العَملِ والمزيدِ من البُحوث، ولكن هذا يُشيرُ إلى أنَّهُ بالنَّظرِ إلى الماضي، كانَ للاستِثمارِ في البَشرِ تأثيرٌ هائِلٌ على النُّموِّ الاقتصادي.

وعن هذا قيل: “ليسَ الاقتصادُ قضيَّةَ بنكٍ وتشييدِ مصانِع، بل هو قَبلَ ذلِكَ تَشييدُ الإِنسانِ وإنشاءِ سلوكِهِ الجديدِ أمامَ كُلِّ المُشكِلات”. فَمثلًا، شركةُ التكنولوجيا العِملاقة :أبل” تجاوزَت قيمَتُها السُّوقيَّة حاجزَ الـ700 مليارِ دولار، وهو ما يَفوقُ اقتصاديَّاتِ عِشراتِ الدُّولِ في العالَمِ لِكونِها تَستَثمرُ في الإنسان، وتُعطي الفُرصةَ للأبحاثِ حيثُ تُنفِقُ ما لا يقِلُّ عن 14 مليارِ دولارٍ على الجانِبِ البَحثي، وهو ما يَفوقُ الإنفاقَ البحثِيَّ لِكثيرٍ من الدُّولِ المَعروفة. كما تَمتَلِكُ جيشاً من الباحثينَ الشَّبابِ وفَّرت لَهُم الفُرصةَ وهيَّأت لَهم كلَّ الأسبابِ لِيُبدِعوا أفكاراً خلَّاقة، أثمَرت نَجاحاً مُنقَطعَ النَّظيرِ حقَّق لها دخلاً بِالمِليارات، فالفِكرةُ الواحِدةُ قد تَربَحُ ملياراتِ الدُّولاراتِ لِهذهِ الشَّركات.

في كتابِ صانِعِ التَّلاميذِ الأعظَمِ قال د. حنَّا ش شاهين: “مِن الأسهل جدًا أن تَعلَم شخصًا مقررًا دراسيًا عن كيفيَّةِ قراءَةِ الكتابِ المُقدَّسِ على أن تَقضي يومًا تِلوَ الآخرِ معهُ في قراءَةِ الكِتابِ نفسِه”. الاستِثمارُ في “الإنسان” يأتي بِإِتاحةِ الفُرصةِ لهُ لِلتَّدريبِ والابتِكارِ وتَهيِئَة الظُّروفِ لهُ لِلبحثِ والإبداع، لأنَّ ذلكَ هو الطَّريقُ الوحيدُ والمُضمونُ نَحوَ تَقدُّمٍ حضاريٍّ ونَهضويٍّ لأيِّ بَلد، ويَتطلَّبُ ذلكَ إيجادُ مَنظومَةٍ تَعليميَّةٍ عاليةِ الجَودةِ وإنشاءِ مراكز البَحثِ المُتكامِلةِ لإِلحاقِ المُبدعين بِها، وتهيئَةِ الظُّروفِ كافَّة لَهُم لِتصنيعِ “الأفكارِ” “والابتِكاراتِ” التي تَصنَعُ الفارق.

الشَّبابُ هُم المُستقبل، لِذلكَ جاءَ قرارُ مَجلِسِ الأمنِ الدَّولي 2250 تَنفيذاً لِتطلُّعاتِ الشَّبابِ حولَ العالم، الشَّباب، الأمنُ والسَّلام؛ لا مناصَ من الاعتِرافِ بِأهمِّيَّةِ الشَّبابِ وقُدراتِهم المَغمورة في خِضمِّ تسارُعِ عَجلةِ الحياةِ أمامَهم والظُّروفِ المُحيطة. الإعترافُ بِأهميَّةِ تَبنِّي ودعمِ الطَّاقاتِ الجبَّارةِ غيرِ المُستَثمرَةِ هو بِمثابَةِ قرعِ الجرسِ للتَّغيُّرِ بعدَ أربعةِ أعوامٍ من إعلانِ هذا القرارِ يَبقى الشَّبابُ مُتطلِّعاً لكلِّ ما يَدفعهُ لِلأمامِ و لكلِّ ضوءٍ يوصلُهُ لآخرِ النَّفق. يدعو القرارُ إلى زيادةِ الدَّعمِ السِّياسيِّ والفنِّيِّ والتَّمويلِ للمُنظَّماتِ الشَّبابيَّة، وهو أيضًا يُؤكِّدُ على أهميَّةِ الشَّراكةِ مع الشَّبابِ والمنظَّماتِ في منعِ حُصولِ التَّطرُّف العّنيف. 

“إنَّ الإنسانَ هو عِمادُ التَّقدُّم، ووسيلَةُ البناءِ وإنَّ الإنسانَ قادرٌ وسطَ المناخِ المُناسبِ والملائِمِ والجوِّ المُؤاتي، إلى أن يَصنَعَ المُعجِزات“.

زَينْ الصُّبحْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *