في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح انتباه الإنسان سلعة نادرة تتنافس عليها الشركات والمنصات الرقمية. فلم يعد الاقتصاد يعتمد على الموارد التقليدية فقط مثل النفط والذهب، بل بات يعتمد بشكل متزايد على قدرتنا على التركيز واستهلاك المحتوى. وهذا ما يعرف ب “اقتصاد الانتباه”، حيث تم تصميم التطبيقات، المحتوى الرقمي والاعلانات لجذب انتباه المستخدمين وابقائهم متصلين لأطول فترة ممكنة. يعرف اقتصاد الانتباه (Attention economy) بأنه أحد الفروع الحديثة لعلم الاقتصاد، يعنى بالتعامل مع انتباه الفرد على أنه سلعة ثمينة ونادرة، ذلك أن الانفجار المعلوماتي نتج عنه انتباه ضعيف ومشتت من الأفراد، لذا نشأت العديد من الممارسات والأدوات التي تسعى لجذب الانتباه والمحافظة عليه لأطول فترة ممكنة. أصبح اليوم الانتباه سلعة نادرة، وله عدة أنواع منها الانتباه العفوي الذي لا يبذل فيه الفرد اي جهد او ارادة في التعرض للمثيرات، الانتباه الإرادي العمدي الذي يحتاج إلى جهد للتركيز على المثيرات المهمة، والانتباه الإجباري حيث يجبر الفرد فيه على الانتباه الى موضوعات غالبا قد تكون غير مهمة له.
من ندرة الانتباه، يعد فهم اقتصاد الانتباه أمرا مهما في الإعلان، لانه يجابه كيفية شراء الوسائط الاعلامية حاليا، من خلال تقييم الاعلانات التي تتم مشاهدتها وسماعها فعليا عبر مرات ظهور الإعلان التي يتم شراؤها أو عرضها ببساطة. ربما كان هربرت سيمون هو أول من تحدث عن مفهوم اقتصاد الانتباه، حيث لخص الأمر بقوله: في هذا العالم الغني بالمعلومات، تعني ثورة المعلومات ندرة شيء آخر: أي ندرة كل ما تستنفذه تلك المعلومات، وهو الاهتمام وانتباه الأفراد. هذا الفقر في الاهتمام “بمعنى آخر تشتيت الانتباه” الذي تخلقه وفرة المعلومات بحاجة إلى تحقيق التوافق بين الاهتمام والوفرة في المعلومات، أو بمعنى آخر، السعي لجذب الانتباه واستثماره لفترة أطول. مع مرور الوقت، ومع توفر المزيد من المعلومات والمزيد من الخيارات في متناول أيدينا أكثر من أي وقت مضى، أصبحت التكنولوجيا أكثر تعقيدا، وهذا ما أسفر عن زيادة التشتت لدى المستخدم، وأضحت عملية الانتباه والاهتمام من الأمور النادرة، هذا ما دفع شركات التكنولوجيا لصرف مبالغ طائلة، لتصميم تقنيات تُغذي شعور الإلهاء المستمر للمستخدم والتي تعتمد على جذب انتباهه لكسب المال. تستخدم الاستراتيجيات بهدف جذب المستخدمين وابقائهم متصلين لأطول فترة ممكنة عن طريق:
- الخوارزميات وتخصيص المحتوى: من اقوى الادوات المستخدمة في جذب الانتباه، فتعمل على تحليل سلوك المستخدمين وتقديم محتوى مخصص لكل فرد بناءا على اهتماماته وتفاعلاته السابقة، وكلما تفاعل المستخدم مع محتوى معين، يتم تعزيز ظهوره، مما يجعله يدخل في حلقة متكررة من الاستهلاك المستمر. كما ويؤدي تخصيص المحتوى إلى زيادة الإدمان الرقمي، فيتعلق المستخدم بالمحتوى المقدم دون الحاجة للبحث عنه، ويمكن ان يعزز ظاهرة فقاعة الفلترة، فيتم عرض وجهات نظر متحيزة بدل تقديم وجهات نظر متنوعة.
- تصميم تطبيقات ومواقع لجعلها ادمانية: تستخدم الشركات الكبرى مبادئ علم النفس السلوكي لتصميم التطبيقات وجعل المستخدم يعد إليها باستمرار. تم تطوير خاصية التمرير اللانهائي (Infinite scroll) التي تتيح تحميل المحتوى بشكل مستمر دون الحاجة للنقر على زر “التالي”، فيظل المستخدم في حالة تصفح مستمر دون إدراك للوقت، وتستخدم هذه التقنية في فيسبوك، انستغرام، تويتر وتيك توك. بالإضافة إلى الإشعارات الفورية (Push notifications)، فيتم ارسال اشعارات مصممة بعناية لجذب المستخدم واغراءه بفتح التطبيق مجددا، مما يعزز الاستخدام المفرط. ميزات المكافأة والتحفيز التي تعتمد على آليات التحفيز النفسي، فيسعى المستخدم للحصول على التقدير الاجتماعي مثل تطبيقات الألعاب والتعليم، والتشغيل التلقائي في منصة يوتيوب، حيث يتم تشغيل الفيديو تلقائيا دون تدخل المستخدم، فتزداد مدة المشاهدة.
- الإعلانات المستهدفة وتأثيرها على السلوك (Targeted ads): من أكثر الأدوات فعالية في جذب الانتباه والتأثير على سلوك المستخدمين. تعتمد على بيانات ضخمة وتحليل أنماط الاستخدام لتقديم محتوى دعائي مخصص لكل استخدام. تقوم المنصات بجمع بيانات حول عمليات البحث السابقة، الصفحات التي تمت زيارتها، التفاعلات مع المحتوى والوقت الذي يقضيه المستخدم على كل منشور. تستخدم الخوارزميات الاعلانية هذه البيانات لإنشاء إعلانات مخصصة تزيد من احتمالية التفاعل والشراء. وتعتمد الشركات على إعادة الاستهداف (Retargeting ads) حيث يظهر اعلان لمنتج سبق أن بحث عنه المستخدم، مما يعزز احتمالية شرائه لاحقا. تؤثر هذه الإعلانات على سلوك المستخدمين، وتتعزز النزعة الاستهلاكية وتزداد معدلات الشراء مقارنة بالإعلانات التقليدية، ويخلق شعور بالإدمان الشرائي من خلال تقديم عروض وتخفيضات بناءا على سلوك المستخدم ما يدفعه لإنفاق المزيد، والتأثير على الآراء والتوجيهات مثل حملات سياسية واجتماعية دون وعي مباشر.
إن ثقافة التشتت المستمر، فكل اشعار او رسالة جديدة تقطع تدفق افكارنا، مما يجعل من الصعب علينا التركيز العميق وإنجاز المهام بفاعلية، ذلك النوع من التركيز العميق الذي يمنحك إحساسا بالرضا عن العمل. الاستهلاك السلبي مقابل المسافة المقصودة، حيث تم تصميم التطبيقات التي نستخدمها يوميا لتكون مساحة محدثة باستمرار بمعلومات جديدة. يدفعنا الخوف من فوات الفرصة (FOMO) إلى التحقق المستمر طوال اليوم. وادى ذلك الى حالة من التفاعل السلبي مع اجهزتنا، حيث نستهلك المحتوى بدلا من ان نستخدم التكنولوجيا للابداع أو لحل المشكلات، فتصبح وسيلة هروب نعتمد عليها دون تفكير. تشير الابحاث الى ان الجانب النفسي وراء الاعجابات قوي للغاية. أظهرت دراسة في مجلة New Statesman أن 89% من المشاركين شعروا بالسعادة عند حصولهم على اعجابات، ولكن 40% منهم اعترفوا بأن هذه السعادة تتلاشى فور توقف الاعجابات. كل دقيقة تقضيها على تطبيق أو منصة رقمية تترجم إلى أرباح مالية للشركات. لهذا السبب تستثمر الشركات في إبقاء المستخدمين متصلين عبر الاشعارات و التمرير اللانهائي، اثارة المشاعر كالخوف والفضول، لدفع المستخدمين للتفاعل اكثر، وتحليل البيانات بشكل متقدم لجعل التجربة الرقمية أكثر إدمانا وربحية.
يمكن تحسين التركيز وتقليل التشتت عبر تقنيات فعالة مثل تحديد أوقات استخدام الأجهزة، تفعيل وضع عدم الازعاج، وممارسة تقنية “البومودورو” التي تعتمد على فترات عمل مركزة متبوعة بـ استراحات قصيرة. لكن الحل لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يتطلب وعيا رقميا جماعيا لتعزيز الاستخدام الواعي للتكنولوجيا، بحيث نتحكم بها بدلا من ان تتحكم بنا. كما تعمل بعض الانظمة على اجبار المنصات الرقمية على توفير أدوات للحد من الإدمان الرقمي، مثل تحديد وقت الشاشة والتنبيهات التي تذكر المستخدم بأخذ استراحة.
وفي سبيل الحصول على المزيد من الإيرادات، تستمر الشركات في تطوير استراتيجياتها لجذب الانتباه من خلال صناعة المحتوى والإعلانات. وتحاول باستمرار إنتاج إعلانات خلاقة لجذب اهتمام العملاء الحاليين والمتوقعين. مقاومة اقتصاد الانتباه لا تعني الانقطاع التام عن التكنولوجيا، بل تتطلب منا أن نكون واعين ومدركين لكيفية استخدام الأدوات الرقمية. من خلال التوازن بين التوعية الرقمية والسياسات التنظيمية، يمكننا بناء بيئة تكنولوجية تدعم التركيز والإنتاجية بدلا من استنزاف انتباهنا. وفي النهاية، نحن من يملك الخيار في كيف نستخدم التكنولوجيا لصالحنا وليس العكس.
عرين الجبر