فقاعة الفلترة 

فقاعة الفلترة 

كثيرًا ما نشعر أن المحتوى الذي يظهر لنا على مواقع التواصل الاجتماعي يعكس اهتماماتنا وأفكارنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يزيد من أحساسك بأنك في وسط مجتمع يشاركك الأفكار والاهتمامات ووجهات النظر، ومن منحنى أخر تصدم في الواقع عندما تصادف أصدقائك لا يشاركونك نفس الأفكار، فتظن بأنك في وسط محيط لا يشاركك الاهتمام بينما تجد على الانترنت البيئة المثلى لك، وبطريقة أخرى لا تعد هذه الأحداث مصادفة، بل ما يسمى بفقاعة الفلترة أو فقاعة التصفية. تقوم الخوارزميات بلعب دورًا أساسيًا في تشكيل تجربتنا الرقمية، حيث تراقب تفاعلنا على مواقع التواصل الاجتماعي من الإعجابات، المشاركات، ومدة مشاهدة المحتوى، ثم تقوم باستخدام هذه البيانات لعرض منشورات ومقاطع فيديو تتماشى مع ما نفضّله. كذلك، تُستخدم المعلومات الشخصية، مثل الموقع الجغرافي والاهتمامات السابقة، تخصيص نتائج البحث والمحتوى الظاهر لنا، وبالتالي تعرض لك محتوى بشبهك تمامًا، لتعزلك عن أي رأي مختلف.

قد يعد هذا مريحًا إلى درجة ما، لكن من وجهة نظرٍ أخرى، يؤدي هذا إلى رؤية زاوية واحدة فقط من الحقيقة، مما يساهم في تضييق الأفق، وأحيانًا حتى في نشر خطاب الكراهية الرقمي دون أن نشعر. ومع مرور الوقت، نجد أنفسنا عالقين في وسط نفس نوعية المعلومات التي تؤكد قناعاتنا، بدلًا من تصفح زوايا جديدة، نستمر في الدوران في نفس الدائرة دون مشاركة آراء مختلفة. لكن نبقى عالقين في نقطة هل فعلاً تعد فقاعة الفلترة مشكلة؟ وكيف يمكننا تجاوزها ومواجهة الصورة الكاملة؟ أو هل من الأفضل البقاء في وسط مجتمع يشاركنا الأفكار ليزيد هذا من شعورنا بالثقة والقبول بالمجتمع؟

على الرغم من أن فقاعة الفلترة قد تبدو مريحة لأنها تعرض لنا محتوى يتماشى مع اهتماماتنا، إلا أن لها جانبًا مظلمًا لا يمكننا تجاهله، فهي تقلل من تنوع المعلومات التي تعرض لنا، مما يجعلنا نعيش في داخل دائرة مغلقة من الآراء المتشابهة، ومع مرور الوقت، قد نصل إلى قناعة بأن وجهة نظرنا ليست فقط صحيحة، بل هي الوحيدة الموجودة. وهذا يؤدي إلى تعمّق التحيز المعرفي لدينا، حيث نتفاعل فقط مع المعلومات التي تعزز معتقداتنا ونرفض تلقائيًا أي رأي مخالف دون حتى محاولة فهمه. كما أن فقاعة الفلترة تلعب دورًا خطيرًا في زيادة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، إذ يصبح من السهل تشكيل مجموعات فكرية مغلقة تعيش في عوالم منفصلة عن بعضها البعض، ترى الطرف الآخر كخصم وليس كشريك في النقاش. وبذلك، تتحول الحوارات إلى معارك أيديولوجية، وهي صراعات فكرية تدور بين مجموعات أو أفراد يحملون معتقدات وأفكار متعارضة حول قضايا سياسية، اجتماعية، دينية أو ثقافية. 

هذه المعارك لا تكون بالضرورة جسدية، لكنها تتمثل في نقاشات حادة، حملات إعلامية، أو حتى محاولات لنشر أفكار معينة وإسكات الأفكار المعارضة، بدلًا من أن تكون تبادلًا للأفكار. والأسوأ أن هذا الانقسام لا يقتصر على وسائل التواصل فقط، بل يمتد إلى الواقع الحقيقي، مما يؤدي إلى زيادة التشدد في الآراء وخلق بيئة مشحونة بالتوتر وعدم التفاهم. الأخطر من ذلك أن فقاعة الفلترة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على الديمقراطية والقرارات المصيرية، فعندما يتم تقديم المعلومات بشكل موجه ومنحاز، يصبح الأفراد أكثر عرضة للتضليل، خاصة في أوقات الانتخابات أو الأزمات الكبرى. فبدلًا من أن يحصل المستخدم على صورة متكاملة ومتنوعة تساعده على اتخاذ قرارات مستنيرة، يجد نفسه يتلقى معلومات مصممة خصيصًا لتعزيز وجهة نظر محددة، مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات مبنية على حقائق ناقصة أو حتى مشوهة. مع مرور الوقت، يؤدي هذا العزل المعلوماتي إلى حصر المستخدم داخل نطاق ضيق من الأفكار، مما يجعله يرى زاوية واحدة فقط من الحقيقة، ويقلل من فرص التعرض لوجهات نظر مختلفة، مما قد يعزز التحيّزات الشخصية ويسهم في انتشار المعلومات المضللة وخطاب الكراهية الرقمي. 

لكسر فقاعة الفلترة والخروج من دائرة المعلومات المحدودة، من الضروري اتخاذ خطوات عملية تعزز الوعي وتنمي القدرة على التفكير النقدي، فالإنغماس في بيئة رقمية تعيد تأكيد أفكارنا باستمرار يجعلنا أكثر عرضة للتحيز ويقلل من انفتاحنا على وجهات نظر مغايرة، مما قد يؤدي إلى الاستقطاب الفكري والمعلوماتي. لذلك، من المهم تطوير عادات رقمية تقلل من تأثير الخوارزميات علينا، وتساعدنا على استهلاك محتوى متوازن يعكس تنوع الأفكار والتجارب. فمن أحد أهم الخطوات في كسر فقاعة الفلترة هو تجنب الاعتماد على مصدر واحد للحصول على الأخبار والمعلومات. فمن خلال متابعة منصات إعلامية متنوعة، سواء كانت محلية أو دولية، رسمية أو مستقلة، يمكن تكوين رؤية أكثر شمولية للأحداث والموضوعات. كما يُنصح بالتحقق من الأخبار عبر أكثر من مصدر لتفادي الوقوع في فخ المعلومات المضللة أو المتحيزة. يُعد ايضًا استخدام وضع التصفح الخفي أو محركات بحث لا تعتمد على تتبع البيانات طريقة فعالة للحصول على نتائج بحث غير متحيزة. كما يُفضَّل مسح سجل البحث بانتظام لتقليل تأثير التخصيص التلقائي للمحتوى.

أكدت العديد من الأبحاث على مساهمة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تشكيل قناعاتنا، حيث تعرض لنا المحتوى الذي يتماشى مع اهتماماتنا وآرائنا السابقة. لذلك، يُنصح بمتابعة أشخاص ومؤثرين من خلفيات فكرية وسياسية متنوعة، حتى لا يبقى المستخدم محصورًا داخل فقاعة فكرية تعيد تأكيد معتقداته فقط. هذه الخطوة لا تهدف إلى تغيير القناعات، بل إلى توسيع الأفق وتعزيز القدرة على تحليل المعلومات بموضوعية. كما تعتمد كثير من المنصات على أنظمة توصيات متطورة تستند إلى تفضيلات المستخدم وسلوكه السابق، مما قد يؤدي إلى حصره في دائرة مغلقة من المحتوى المتشابه. لتعزيز التنوع، يُفضَّل تعطيل التوصيات المخصصة متى أمكن، أو تجربة البحث اليدوي عن محتوى جديد ومختلف عن المعتاد، مما يساعد في توسيع المدارك والخروج من النمطية الفكرية.

وهناك العديد من الأدوات التي تساعد المستخدم على فهم كيفية تخصيص المحتوى له بناءً على بياناته الرقمية، حيث يمكن من خلالها معرفة كيف تصنف الخوارزميات وما نوع المحتوى الذي يُعرض لك بناءً على ذلك. كما أن هناك إضافات متصفح تساعد في كشف التحيز في الأخبار والمقالات، مما يمنح المستخدم نظرة أوسع وأكثر وعيًا حول مدى تأثره بفقاعة الفلترة.توسيع الأفق وتعزيز القدرة على تحليل المعلومات بموضوعية. كما تعتمد كثير من المنصات على أنظمة توصيات متطورة تستند إلى تفضيلات المستخدم وسلوكه السابق، مما قد يؤدي إلى حصره في دائرة مغلقة من المحتوى المتشابه. لتعزيز التنوع، يُفضَّل تعطيل التوصيات المخصصة متى أمكن، أو تجربة البحث اليدوي.

واخيرًا من المهم أن يخرج الفرد من منطق “الغرفة المغلقة” إلى فضاء الحوار المفتوح. المشاركة في مناقشات فكرية بنّاءة والاستماع إلى وجهات نظر مختلفة بدون تعصب يساعد في تكوين رأي أكثر توازنًا. كما أن الاستعداد لسماع الآراء المعارضة دون رفضها مباشرة يُعد مهارة أساسية في التفكير النقدي، ويقلل من تأثير العزل الفكري الذي تفرضه الخوارزميات. تبدو فقاعة الفلترة سلاح ذو حدين في عالم رقمي تتحكم فيه الخوارزميات بمحتوى ما نراه، فهي تمنحنا الراحة النفسية بعرض محتوى من اهتماماتنا، لكنها في الوقت ذاته تحصرنا في دائرة من المعلومات المشابهة. لكن، إدراك هذه الظاهرة هي اولى الخطوات نحو التحرر منها، عبر الانفتاح على وجهات نظر مختلفة وتبني تفكير نقدي، يمكننا مواجهة تأثير هذه الفقاعة واستعادة قدرتنا على تكوين آراء مستقلة. فالعالم الحقيقي يتشكل عبر التفاعل مع الأصوات المختلفة، الخروج من منطقة الراحة والبحث المستمر عن الحقيقة. فهل نحن مستعدون لكسر هذه الفقاعة والانطلاق نحو وعي اوسع؟

نظمية السوالمة