سألني صديق لي ما الذي يدفعني لأكتب اليوم عن أحداث نيوزلندا؟ وأنها قد انتهت، ما المهم من إعادة طرحها، أقول هنا وإن كان لا يسعفني القول، بإن لدينا إعلاماً ممنهجاً يعرض لنا ما يريده و يخبأ عنا ما نريده، فإن كانت لنا كلمة مسموعة فعلينا إستغلالها الإستغلال الأمثل لنصل إلى مبتغانا ونتحدث بما يرضينا ونركز على ما نهتم. لو تحدثت اليوم عن أحداث الحادي عشر من سبتمر فلن يُطرح على مسامعي نفس السؤال، لأننا و طوال الثمانية عشر سنة الماضية نتكلم حول هذه الحادثة وننعى أصحابها في كل وقت وحين، بينما الضحايا المسلمة، لا يعبأ الكثير لها، فهل نعبأ نحن؟ أم نقلد الغرب في كل طرح مهما كان يخدم من أغراض!.
بالرغم من كل المشاعر المخيفة التي من الممكن أن تتجسد خلال بحثي عن هذه الأخبار من جديد، والتي مر عليها ثمانية شهور الآن، إلا أن الخبر لا يزال صاعقاً وصادماً. بالرغم من كل الأفكار التي تدعو للسلام وتنادي بها العديد من دول العالم وتسعى للوصول إليها، إلا أن هناك مصطلحاً لم يختفي بعد، بل ويتجدد هذا العام في مشهد فظيع، لا أستطيع التعبير عنه إلا بالقبيح، والذي جسد مفهوم الإسلاموفوبيا من جديد وهو الذي غزى الدول الاوروبية من بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر بشكل ممتدد و سريع، ونتج عنه حقد دفين اتجاه الجماعات المسلمة في كل أنحاء العالم. إن كانوا في الشرق الأوسط أو حتى في إفريقيا أو الجاليات المسلمة في كل دول العالم. حورب الإسلام من العديد من الجماعات المتطرفة العنيفة بكل ما تملك من موارد إن كانت حربية أو سياسية، وسمعنا عن الكثير من الأحداث والروايات و الجرائم التي ترتكب بحق المسلمين كل يوم. لكن الذي يذهل العقل في حادثة نيوزلندا، ويصيب في النفس الجزع والخوف، هو طريقة العرض الصريحة والمباشرة للعوام، وإن كانوا أطفالاً أو نساءً لدرجة لا تقبل نسبة الواحد بالمئة من الشك، من أن يكون القصد شيئ آخر أو فئة أخرى. بل كانت خطة متبعة بأدق التفاصيل، بل ونهجاً مدروساً على مدى سنوات طوال.
فقد أرسل منفذ العملية خطاباً يبرر به فعلته التي يخطط القيام بها، قبل تسع دقائق من تنفيذها إلى رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا، وقد حوى الخطاب على ما يزيد من 70 ورقة، يقر بها سيادة العرق الأبيض. لم يكتفي بذلك فحسب بل كان الهجوم يبث مباشرة أمام مرآى بلايين الأشخاص في العالم، وقد كان العرض يخلو من ذرة من شفقة أو إنسانية، فقد رأينا منفذ الهجوم وهو أسترالي يبلغ من العمر ثمانية وعشرون عاماً، يستمع لموسيقى من الحرب الأهلية الأمريكية والتي كانت قائمة على العبودية المبينة على لون البشرة، و يكتب واصفاً فعلته الشنيعة “فلتبدأ الحفلة”!. لم يقتصر البث على منصة واحدة من منصات التواصل الإجتماعي بل كان منتشراً بشكل واسع على كل من الفيسبوك و اليوتيوب والتويتر، وقد شوهد المجرم الإرهابي يحمل في يده بنادق شبه آلية، مكتوب عليها أسماء منفذين عمليات إرهابية مشابهه لهذه العملية، وذكر أيضاً حرب فيينا التي أنهت توسع الدولة العثمانية في أوروبا في مطلع عام 1683م، ومعركة بلاط الشهداء التي انهزم بها المسلمون عام 732م، وقد استهدف مسجديين في نيوزلندا وهما مسجد النور ومسجد لنوود، في مدينة كرايستشيرش، على السواحل الجنوبية الشرقية للبلاد. لم يستطع أحدٌ هذه المرة بأن يقول بأنه مريض نفسي يحتاج للعلاج ويبرر أفعاله بإلقاء اللوم على “مرضه” كما نسمع في العديد من الأحداث التي تستهدف المسلمين عامة.
قد خسر خمسون شخص حياتهم وهم يؤدون صلاتهم يوم الجمعة داخل مسجد في أحد البلدان التي توصف بأنها من المجتمعات الأكثر استقراراً و سلاماً. بالإضافة إلى خمسين جرحوا خلال هذه العملية الإرهابية. عوائل كلمت ذلك اليوم بفقدانها جزءاً من أسرها و أطفالاً خَرقَت أجسادهم الصغيرة رصاصات بيد متطرف عنيف متعصب لعرقه في القرن العشرين! انتشر أيضاً على مواقع التواصل الإجتماعي الكلمة الأولى التي سمعها منفذ العملية عند دخوله إلى المسجد من الشيخ داوود نبي، و التي كانت Hello Brother”“، و كان الرد عليها برصاصات تخترق جسده هو الآخر و وقع ضحية كونه إنسانٌ مسلم، إنسان يؤمن بمعتقدات لا تمس الآخرين بصلة، و إنما تعبر عنه، ولا تؤذي أحداً!
و بمناسبة ذكرنا لوسائل التواصل الإجتماعي والتي بثت هذا المحتوى لساعات وساعات قبل محاولة إيقافه وحذفه من منصاتها، أود تذكيركم هنا بالعطل الأخير في الفيسبوك و الذي استمر ليوم كامل بسبب الأحداث التي كانت تجري في دولة الإحتلال الصهيوني وخوفاً منهم بأن الناس قد تسرب هذه المعلومات أو تظهرها في بث مباشر، نرى الفرق هنا في التعامل مع الأزمات لوسائل التواصل الإجتماعي. و نذكر أيضاً بتطور الذكاء الإصطناعي والذي يستطيع تمييز أي شيء قد يعرض ويعرف محتواه، فكيف لم يميز الدماء و البنادق في ذلك اليوم!
بعد اعتقال الشرطة للمشتبهين بهم وقد كانوا ثلاثة رجال وامرأة، خرجت رئيسة الوزراء النيوزلندية بتصريح رسمي حول الأحداث، وعبرت عن هذا الحادث بأنه من أحلك الأيام التي مرت بالبلاد، و بعد طلب الشرطة من مواقع التواصل الإجتماعي مثل فيسبوك و توتير التخلص من البث المباشر، قاموا بحذفه عن جميع المنصات.
خلال محاكمة برينتون تارانت “منفذ الهجوم”، و بالرغم من تكبيل يديه و وجوده في المحكمة على قضية قتل متعمد، رأيناه يشير بيديه على إشارة تفيد بتفضيل العرق الأبيض حسب مفهوم جماعات اليمين المتطرف. أما النائب الأسترالي فريزر أنينغ أرجع السبب بالهجوم على السياسة المتعبة في نيوزلندا في استقبال اللاجئيين من مختلف دول العالم، مما أثار غصب شابٍ كان ضمن الحضور أثناء إدلائه بالتصريح، وجعله يلقى ببيضة على رأسه خلال البث المباشر. تفاعل العالم أجمع مع هذه الحادثة الأليمة بردود أفعالٍ عظيمة، فاليوم الناس أصبح أوعى وإن كانت سياساتهم الخارجية والداخية، ليس لها نفس الرأي، حيث وقف الكثير من الأشخاص في مختلف أماكن العالم أمام المساجد ليقولوا لأخوانهم المسلمين، نحن معكم و نحن هنا لنحميكم، كما تضامن العديد من سكان نيوزلندا مع أهالي الفقداء وارتدوا الحجاب تضاماً معها وشداً من أزرهم في حرية تعبيرهم عن دينهم ومعتقداتهم.
من المحزن جداً أن نرى مثل هذه الأحداث تحصل في العالم، وبالمقابل من الجيد أن يعي العالم اليوم بأن الإسلام ليس ديناً يدعو إلى التطرف العنيف والعنف، وليس ديناً يدعو إلى قتل الآخر والتمثيل به أمام مرآى الجميع. الإسلام ليس هو الجماعات المتطرفة، و إنما هنالك فكر متطرف عنيف بغض النظر عن الهوية أو الجنس أوالعرق أو المعتقد.
إسراء منصور