تتولد مشاعرٌ مختلفة بداخلنا، تصارعنا، و تستنزف أرواحنا وترهقها. نُتعب أنفسنا بكثرة التفكير والتأمل والتخطيط لنصل لذلك الشيء الذي تتطوق أمانينا وأحلامنا إليه، و تتعلق به كطفل صغير يبحث عن وجه أمه بين حشد من الجموع. نبحث عن الأمل، نبحث عن الخلاص والأمان، عن النجاح والسكينة، نبحث ونحن نأمل وجود بر الأمان والمرسى، نبحث لنجد سلامنا الداخلي. مفهوم السلام متعارفٌ عليه منذ الأزل، يعبر عن كل مشاعر الطمأنينة والراحة، وبالتأكيد الإحساس بالثقة والأمان، السلام مشتقٌ من سلِمَ من يَسلَم، سلامةً وسلامًا، فهو سَالم وسَليم، والمفعول مَسْلومٌ له، والسلام هو استسلامٌ وخضوع ومن سَلم فقد أمن على نفسه وماله.
تطور مفهوم السلام مع الوقت، فأصبح هدفاً سامياً يُسعى إليه، بل ويتنافس عليه أيضاً، إذ أصبح مصطلحاً يُقاس ويرتبط بمفاهيم أخرى متشعبة و واسعة الأفق، تهدف إلى الوصول إلى كل مظاهر التقدم و التطور، للشعور بالسكينة، للاستقرار، والأمان. شهد العالم العديد من الحروب على مدى القرون الماضية والتي كانت أسبابها إثبات الهيمنة والسيطرة واستغلال الموارد المتاحة لتحقيق العائد الإقتصادي والنهوض بالدول العظمى. عندما انخمدت الحرب بين الدول الأخرى، بقيت هنالك نزاعات متفرقة بداخل الدولة الواحدة، المستقلة تحمل علماً واحداً ونشيداً وطنياً واحداً والتي تسعى للنهوض والإكتفاء. لكن بقي هنالك حقدُ دفينُ بالنفوس، وإذعانُ لجماعات وطوائف، بسبب اختلاف اللون، والعرق، وحتى الميول السياسي والمعتقدات الشخصية. ظهر مفهوم السلام الإيجابي ليفرق ما بين السلام الذي يدعو إلى نبذ مظاهر العنف وهو السلام السلبي، ليكون أكثر شموليةً ويدعو إلى القيم الأسمى.
تعدى مفهوم السلام عن نبذ العنف، بل وتطور ليصل إلى تهيئة المجتمعات لتكون مجتمعات مستدامة ونعني بذلك مجتمعات بمواصفات متوازنة ومبتكرة ومختلفة عما عهدته خلال الحروب من دمار و خراب لتكون مجتمعات مع اقتصاد أفضل ويظهر بها أشكال المساواة بين الجنسين وبين الجماعات والطوائف المختلفة، كما تحتوي على بيئة نظيفة خالية من الأوبئة و الأمراض. عُرف السلام الإيجابي من قبل معهد الإقتصاد والسلام ومقره سيندي في عام 2018 بحسب التقرير الذي أصدره عن السلام الإيجابي بأنه الممارسات التي تتبعها مؤسسات الدولة والهياكل التنظيمية في المجتمع لجعله مجتمعا يعمه السلام والإستدامة في الوقت ذاته. نقصد هنا بالإستدامة، ببقاء هذه المجتمعات في تطور مستمر نحو الأفضل. حدد معهد الإقتصاد والسلام، ثمانية عناصر يبنى عليها مفهوم السلام الإيجابي ليكون في أبهى حلة، و يحقق الهدف المرجو من وجوده، ونستعرض فيما يلي هذه العناصر بشكل موجز:
- حكومة كفؤ: نستطيع التعبير عن الحكومة الكفؤ بأنها الحكومة التي تقدم الخدمات العامة والمدنية لمواطنيها بكفاءة عالية كما لديها الثقة من قبل مواطنيها وكما تضمن وجود مشاركة إيجابية من أفرادها، حيث يكون المواطنين ملتزمين و متمسكين بسياسات الدولة و بذلك يتحقق مفهوم الإستقرار.
- بيئة الأعمال السلمية: تتميز بيئة الأعمال السلمية بقوة الظروف الإقتصادية بالإضافة إلى نظام مؤسسي يدعم القطاع الخاص مما يشكل بيئة تنافسية عالية بين رواد الأعمال و إنتاج اقتصادي مهم.
- التدفق الحر للمعلومات: الحصول على إعلام حر ومستقل يوفر المعلومات التي يحتاجها المجتمع المدني ومجتمع الأعمال والأفراد لإخذ قرارات صحيحة وبصورة ديمقراطية.
- العلاقات الجيدة مع الدول: وهي الدولة التي لديها علاقات سلمية خارجية مع الدول يكون بالضرورة لديها علاقات جيدة داخلية بين المجموعات المختلفة في الدولة و بالتالي تكون أكثر استقرار من ناحية السياسة.
- تقبل حقوق الآخرين: الدول السلمية تتميز بوجود قوانين وأنظمة رسمية تحترم فيها حقوق الإنسان الأساسية وتؤكد على حرياتهم، بالإضافة إلى وجود الأعراف الثقافية والإجتماعية السائدة في المنطقة والتي تحكم السلوكيات للأفراد، فيما يدعم هذه القوانين والأنظمة ويساعد على تحقيقها.
- التوزيع العادل للموارد: ونعني بذلك حرص هذه الدول السلمية على قابلية وصول أفرادها إلى مختلف الموارد كالصحة والتعليم بالإضافة إلى الإنصاف في توزيع الإيرادات.
- مستويات منخفضة من الفساد: الدول التي لديها مستويات مرتفعة من الفساد لا يستطيع أفرادها الحصول على الموارد بشكل عادل ومتساوي. مما يؤدي بالضرورة إلى فشل في تقديم الخدمات الرئيسية و ظهور عدم الثقة والراحة ما بين الأفراد ومؤسسات الدولة والعكس هو الصحيح.
- خبرات بشرية بمستوى عالي: الحصول على قاعدة يرتكز عليها المجتمع من الخبرات البشرية للتعليم وعملية تطور المعرفة.
بالإضافة إلى هذه العناصر التي تعتبر محددات السلام الإيجابي في العالم فقد أطلق معهد الإقتصاد والسلام دليلاً يحدد به ترتيب دول العالم من خلال عدة عوامل يقيس بها مستوى السلام في هذه الدول خلال عام 2018-2019 وقد اعتمد هذه التصنيف على عدة عوامل من أهمها السلامة والأمن، وجود صراعٍ مستمر، بالإضافة إلى درجة الإعتماد على القوة العسكرية والجيش. أظهر هذا الدليل ارتفاعاً عالمياً طفيفاً ولكنه ارتفاعٌ مبشر يدعو إلى التفائل، فقد كانت هذا الإرتفاع الأول منذ ما يقارب الخمس سنوات.
أما بالنسبة للدول التي صنفت في هذا الدليل فقد كانت 163 دولة، وقد أظهرت النسب وجود دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا في أسفل هذا التصنيف وكونها أحرزت تراجعاً خلال عام 2018-2019، حيث احتلت أربعة بلدان من أصل العشر الأخيرة بالتنصيف ولم تكن أية دولة بأي مركز أعلى من المركز الثلاثين. أما بالنسبة لنيوزلندا فقد احتلت المركز الثاني عالمياً في مجال السلام بعد كونها في المركز الأول. لكن، ظهرت نسبتها في تراجع بسبب الأحداث التي حصلت في الخامس عشر من آذار عام 2019 والتي تسببت بمقتل 50 شخص خلال هجوم متطرف عنيف على مسجدين من قبل متطرف عنيف قومي.
احتلت المملكة الأردنية الهاشمية المركز الخامس على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمركز السابع والسبعين عالمياً. ارتفع الأردن 20 مرتبة خلال عام 2019 وذلك بسبب تقدمه في القطاعات الثلاث التي ذكرناها مسبقاً وعلى وجه الخصوص و تطور علاقاته الخارجية مع مختلف الدول خلال العقدين الماضيين فيما يتعلق بالتجارة و غيرها. بينما احتلت سوريا المركز الأخير في الجزء المخصص بوجود صرعٍ مستمر بسبب الحرب السورية التي اندلعت عام 2011، و لكنها ليست الدولة الأخيرة في التنصيف بشكل عام. بينما احتلت دولة الإحتلال الصهيوني، المركز الأخير في تنصيف اعتمادها على القوة العسكرية.
هناك العديد من مظاهر العنف التي ما زالت مستمرة في كثير من دول العالم ودول الشرق الأوسط على وجه الخصوص، مما يدفعنا للسؤال، هل حققنا السلام السلبي؟ ومتى سوف نصل لمرحلة تحقيق السلام الإيجابي؟ وما هو دورنا في تحقيق السلام في مجتمعاتنا رغم وجود كل هذه التحديات التي تواجهنا؟ إن كل هذه التسأولات وغيرها الكثير يدفعنا إلى تذكر ذلك الطفل الذي يستنجد بوجوه المارة، على أن يجد أمه، و تعود إليه ضالته، وأن يجد معها كل مظاهر السكينة والنمو الصحي، في بيئة يملأها الإحترام والتقبل، والمساواة والعدل، والأمن والسلام الإيجابي. إن السلام الإيجابي يخلق مجتمع مثالي للإنسان لينمو ويزدهر في مختلف مجالات الحياة، السلام هو تحقيق العدالة لكل فئات المجتمع.
إسراء منصور