الصراع
ارتأى الكاتب أن يدرج مفهوم الصراع وتكوينه ضمن الفصل الثاني في الكتاب قائلًا: “نظرية الصراع لا غنى عنها في دراسات التنمية والسلام”. موضحًا بأن السلام يرتكز على وجود الصراع وان السلام ليس الا للحد من الصراع وتحويله لشيء آخر معاكس”.
عرف الكاتب جالتونج الصراع كالتالي:
الصراع: جهتان أو اكثر يتشاركون السعي لتحقيق هدف نادر الحدوث (التنافس لتحقيق الهدف) أو في حالة امتلاك جهة معينة هدفا يتعارض مع هدف الجهة الآخرى. إن الصراع شيء طبيعي وفطري وخلاق يشبه قفل اليين اليانج كطبيعة متجانسة كتجانس الخير والشر وكتجانس الكره والمحبة. ديناميكيٌ دائمُ الحركة ودائمُ التَغيّر، إنه يحصل في كل مكان حتى على مستوى الانسان مع نفسه. في بعض الأحيان يؤدي الصراع إلى العنف، أي إلى بذل جهود لإلحاق الضرر بالطرف الآخر أو تدمير إمكانية الطرف الآخر للوصول إلى هدفه. وهنا سأل الكاتب: هل يمكن توجيه طاقة الصراع بشكل بناء؟ فالنزاع يحتوي على كل من الخطر والفرصة. الخطر يتجلى بإمكانية تطور الصراع وآثاره المدمرة بشكل دراماتيكي أما الفرصة فتكون في تحويل الصراع إلى حوار بناء ليكون بذلك أكثر إبداعية وابتكارية.
عندما يُوصَفُ الموقف بجملة “هذا صراع” كفرضية مع الأخذ بعين الإعتبار أن هذه الجملة ليست إلا مجرد فرضية نجد أن الجهات الفاعلة تبدأ باتخاذ سلوكيات ومواقف بناءً على هذا الفرضية. ويقسم السلوك هنا لسلوك هدّام وسلوك بنّاء، السلوك الهدّام هو أعمال العنف بكل انواعه الجسدي واللفظي والنفسي وأما السلوك البنّاء يتمثل بالحوارات الداخلية والخارجية البناءة والتي تعزز تَقَبُلَ الآخر.
مثلث الصراع
عبر الكاتب جالتونج عن الصراع بمثلث (التناقض، الموقف، السوك)، تعرف عناصر المثلث كالتالي:
- التناقض: (الإحباط) وهو حدوث شيء يمنع تحقيق الهدف المنشود.
- الموقف: هو اتخاذ صورة معينة عن حالة الصراع وعن الجهات الفاعلة فيه خصوصًا الجهات المنافسة.
- السلوك: يتمثل بالإجراءات الظاهرة للعيان كالعنف مثلا.
من المؤكد أنك اختبرت صراعا ضمن ماضيك لذلك أطلب منك أن تختار صراعا اختبرته في الماضي وتسقطه على هذا المثلث أين كانت البداية؟ خذ وقتك. ربما بعد هذا التأمل البسيط ادركت أنه قد يبدأ الصراع من أي نقطة (التناقض، الموقف، السلوك) وربما يكمل الصراع تكونه بست طرق مختلفة وبكلا الإتجاهين (مع عقارب الساعة أو عكسها):
1. التناقض السلوك الموقف
2. التناقض الموقف السلوك
3. السلوك التناقض الموقف
4. السلوك الموقف التناقض
5. الموقف السلوك التناقض
6. الموقف التناقض السلوك
في كلتا الحالتين الأولى والثانية يُبنى الصراع على التناقض، عندما لا يتحقق الهدف المنشود ليتبعه بذلك سلوك أو موقف عدواني والعكس تماما في الحالات 3-4-5-6. إن جهات الصراع تمتلك مواقف سابقة أو سلوكيات سابقة ضد بعضها البعض. هذا يُوجِدُ لكل جهة دافعًا لخلق تناقض، تمعن الحوار التالي: “أنا وهو، لقد اتخذنا سلوكا عدوانيا في المرة السابقة، علاقتنا ليست جيدة، لسنا على وئام. إذن لا بد أن يعارض هدفي هدفه وان تنافسنا على هدف واحد فيجب أن اربح المنافسة!”. هنا يذكر الكاتب أن الصراع يتحول إلى جوانب نفسية غير عادله ومَرَضيّة ويبنى على الصور النمطية وعلى الصراعات السابقة بين الأطراف المتنازعة.
في المرحلة التالية، يسأل البروفيسور هل يمكن للصراع أن يكون فعالا أو هيكليا؟
أجاب عن هذه السؤال بإيضاح أن الشخصية البشرية تقسم إلى ثلاث مكونات وهي: المشاعر والإدراك والإرادة. من فضلك اسقط هذه المكونات على احدى الصراعات التي مررت بها. ما الذي شعرت به اثناء الصراع؟ هل كنت مدركا تماما لما تفعل؟ هل كانت لديك الإرادة الحقيقية لتحقيق شيء معين بناءً على صراعك مع الطرف الآخر؟ خذ وقتا و تمعن في هذه العناصر. إن هذه المكونات تكون ضمن التكوين النفسي للإنسان، أي على المستوى المبطن لشخصيته وليس على المستوى الذي يظهر للعيان. لذلك، إن أردنا ربط هذه العناصر في مثلث الصراع فإنها سترتبط بعنصرين فقط وهما المواقف والتناقضات لأنهما يتعلقان بدواخل الإنسان ونفسيته. أما عنصر السلوك فهو ظاهر وتم رصده، بناءً على الشرح السابق يمكننا الآن تعريف الصراع الفعال والصراع الهيكلي كما يلي:
- الصراع الفعال: تكون الجهة الفاعلة في الصراع واعية تماما بشأن التناقضات والمواقف فهي تدرك تماما ما تشعر به والشيء الذي تهدف إليه. الإرادة موجودة والإدراك واضح والمشاعر واضحة.
- الصراع الهيكلي: تكون الجهة الفاعلة في الصراع واعية جزئيا بشأن المواقف والتناقضات فهي لا تدرك تماما ما تشعر به ولا تدرك الشيء الذي تهدف إليه. الإرادة غير واضحة والإدراك جزئي والمشاعر ليست محددة.
عندما تحدث الكاتب عن العنف الهيكلي والعنف الفعال، أخذني عقلي إلى مكان أرى فيه جماعات كبيرة من الناس تشترك بصراع كبير، حلفاء لجهة أو أعداء لأخرى، إن بعض هؤلاء المنضمين لإحدى جهتي الصراع ليسوا مدركين تماما لأبعاد الصراع حتى انهم لا يدركون الأفكار والمشاعر التي تعتريهم تجاه الطرف الآخر ولا يعرفون بالتحديد ما الهدف من هذا الصراع. كل الأمر أنهم ولدوا في خضم هذا الموقف الكبير وأنه تحتم عليهم أن يكونوا جزءً منه؛ بسبب خلفيتهم الدينية أو العرقية… الخ. كيف للإنسان أن يدخل في صراع جماعي معقد, دون أن يدرس نفسه أولا, أليس الأولى ان يدرك هو ماذا يريد؟ وماذا يشعر تجاه الأمر ككل؟
صراع معقد وصراع بسيط لنلخص هذا القسم بسهولة، وضع البروفيسور المعادلة التالية الذكر لتوضيح مفهوم البساطة- التعقيد في عملية الصراع:
(m طرف , n هدف) C=m+n-2
C: conflict تعبر عن الصراع
m: عدد الأطراف الفاعلة في الصراع
n: عدد الأهداف المنشودة
- عندما تكون قيمة c اصغر من صفر (0 طرف، 0 هدف) هنا يكون الصراع غير موجود او غير محدد.
- عندما تكون قيمة c= 0 فأن هناك (1 طرف، 1 هدف) اي ان هناك طرف صراع وحيد، صراع مع النفس لقبول خيار واحد فقط. الإحباط يكون لعدم وجود خيارات آخرى يمكن تحقيقها.
- عندما تكون قيمة C=1 فأن هناك (1 طرف، 2 هدف) او (2 طرف، 1 هدف)، في الحالة الأولى صراع مع النفس لتختار بين هدفين وفي الحالة الثانية صراع بين جهتين على هدف نادر الحدوث.
- عندما تكون قيمة c>2 فأن هناك (m طرف , n هدف)، أي عددا كبيرا من الأطراف وعددا كبيرا من الأهداف المُشَكِلَة للصراع، فأن الصراع في هذه الحالة يكون معقدا، وكلما كان عدد المعطيات m ،n كبيرا، كان الصراع أعقد.
الصراع التاريخي و دورة الصراع
لطالما دخل الإنسان في صراعات فردية وجماعية كان ذلك بسبب اختلاف شخصيات البشر. لكن الكاتب أسقط الضوء على العوامل التي قد تجعل الإنسان معتنقا لمعتقد ما وأنه يمكن أن يدخل في صراعات من أجل اثبات معتقده. قد يكون هذا المعتقد دينا او امتيازًا عرقيا وبالتحديد سلط الكاتب الضوء على فلسفات الأديان وتأثيرها في دورة الصراع، النشوء والنضج والموت وإعادة التكوين وأورد مثالين على تأثير الأديان في دورة الصراع وهما الديانة المسيحية والديانة البوذية حيث ناقش كيفية تعلق دورة الصراع بمصطلح الإثم-المغفرة، وبمصطلح الحياة الأبدية- الحياة الحالية.
هكذا قام الكاتب بتفنيد مفهوم الصراع كما لخصته آنفا، وبما أن المقالات السابقة تتحدث عن مفهوم السلام الايجابي والسلبي لنربط مفاهيم السلام بمفهوم الصراع، قادني ذلك بطريقة ما إلى التفكير بأن الصراع في المجتمع الإنساني يرتبط بالسلام الإيجابي أكثر مما يرتبط بالسلام السلبي لأن اغلب الصراعات الحاصلة في العالم تصنف كعنف هيكلي بغض النظر عن وجود صراعات مباشرة ومسلحة. ففي الوقت الحالي ترجح كفة السلام الإيجابي في العالم، السلام الإيجابي الذي يرافق الصراعات الضمنية والتي تملأ حياة الناس الإعتيادية ودون وجود بنادق أو أسلحة. لكن أليس أغلب قاطني الأرض من البشر يجهلون الطرق الصحيحة للتعامل مع الصراع؟ إنهم لا يحولونه إلى شيء مبتكر وفعال بل يحولونه إلى شيء مُوَلّد للعنف، لا يعرفون بأنه شيء صحي ويعبر عن اختلافهم وتميزهم. ربما نحن الآن بحاجة إلى منهج يُدرس منذ الصغر عن الطرق الصحيحة لتقنين الصراع وتوجيهه إلى مكانه الإيجابي.
إيمان أبو مقرب