تدقيق الحقائق

تدقيق الحقائق

إنّ “التحقق من الحقائق” كمفهوم وتوصيف وظيفي كان قد بدأ بالانتشار في مجال الصحافة في مدينة نيويورك بداية عشرينيات القرن الماضي. حيث كانت مجلة التايم حديثة العهد آنذاك عندما قرر مؤسسوها أنهم بحاجة لموظفين يقومون بالتأكّد من كل ما تم جمعه وتحضيره من قبل المراسلين والصحفيين ليكون صحيحاً ودقيقاً. في الواقع، إن العمل في مجال “تدقيق الحقائق والتحقق منها” قد ابتعد بشكل كبير عن النشر التقليدي كالمجلات وانتقل إلى مجال الصحافة السياسية، مع بداية عمل موقع FactCheck.org عام 2003، والذي هدفه رصد ومراقبة دقّة الحقائق التي تصدر عن الأطراف السياسية الفاعلة في الولايات المتحدة والتي تكون عادة على شكل إعلانات تلفزيونية أو مناظرات أو خطابات أو مقابلات بالإضافة إلى النشرات الإخبارية. ومع انتشار العديد من مواقع “تدقيق الحقائق” الأخرى، أصبح تدقيق الحقائق مجالاً منفرداً بذاته كشكل من أشكال الصحافة. 

في عام 2007 انضم موقع PolitiFact أيضاً إلى تلك المهمة، واليوم هنالك أكثر من 40 مؤسسة لتدقيق الحقائق حول العالم حسب دراسة أجراها Duke Reporters Lab. حيث ينصب تركيز هذه المؤسسات بشكل أساسي على التحقق من تصريحات السياسيين والشخصيات العامة الأخرى[1]يعتبر تدقيق الحقائق الآن شكلاً من أشكال الصحافة هدفه تقديم تحليل دقيق وموضوعي للتصريحات الصادرة عن الشخصيات العامة أو السياسية بغية تصحيح المفاهيم والتصورات الخاطئة لدى عامة الناس وزيادة الوعي حول قضايا معينة. يتطلّب رصد أي معلومات مضلّلة امتلاك مبادئ أساسيّة ونهج وأدوات، لكنّه يشترط كذلك حسّا منطقيّا والكثير من الحيطة، في ما يلي لمحة عن التقنيّات التي يعتمدها فريق تقصّي صحّة الأخبار في وكالة فرانس برس في عمله اليومي: [2]

  • العودة إلى المصدر: عند التدقيق في أي مادّة، سواء كانت صورة شخص أصيب في تظاهرة أو تصريحاً منسوباً إلى سياسيّ أو رسماً بيانياً يعرض الحالة الاقتصادية في بلد ما، فإن المرحلة الأولى من عملية التثبّت من صحّتها تقتضي عموماً العودة إلى المصدر.
  • التحقّق من الصور: ينبغي اعتماد عملية “البحث باستخدام الصورة” أو “البحث المعكوس”، إذ تستند المعلومات المضلّلة أحيانا كثيرة إلى صور أُخرجت من سياقها، والأمر هنا في غاية البساطة، إذ يكفي طرح الصورة على محرك بحث لمعرفة ما إن كان يتعرّف عليها ويعود إلى مصدرها.
  •  التحقّق من الفيديو: عادة ما نستخدم تطبيق InVID/WeVerify  الذي ساهمت وكالة فرانس برس في تصميمه، من أبرز وظائف هذا التطبيق أنه يسمح من خلال علامة التبويب Keyframes بتقطيع الفيديو إلى سلسلة من المشاهد، وانطلاقاً من هذه المشاهد، يمكن القيام ببحث على عدة محركات، كما هو الحال في البحث عن الصور.
  •  التحقّق من المعلومات: للبحث عن مصدر ادّعاء أو اقتباس، يكفي أحيانا نسخ فقرة من النص المريب وطرحها على محرك بحث لمعرفة ما إن كان النص ورد على الإنترنت قبل تاريخ نشره حديثاً، أو إذا كان مستخرجاً من موقع هزليّ. 
  •  مقارنة المعلومات: حين تبدو لنا صورة أو نبأ منتشر على الإنترنت مشكوكا بأمره، وخصوصاً إن كان لا يذكر أي مصدر، أوّل ما ينبغي القيام به هو قراءة التعليقات الواردة تحت الصورة أو المقال المعني، فبعض رواد الإنترنت يوردون أحيانا معلومات مناقضة أو يشككون في صحة محتوى ما، ومنهم من يتمكن من كشف زيف الخبر وذكر المصدر الأصلي للخبر الصحيح المتلاعب به.
  • التوجه إلى المصادر الموثوقة: كثيراً ما نتعامل مع مواضيع لا نملك معرفة مسبقة وافية عنها. في هذه الحال، نطلب مساعدة صحافيين آخرين في وكالة فرانس برس من ذوي اختصاص في موضوع معين (الطب، أو الاقتصاد، أو الهجرة، أو سواها)، أو ذوي اختصاص جغرافي أو لغوي معين، يمكن أحيانا لهؤلاء الصحافيين العودة إلى مصادرهم أو إمدادنا بمعلومات حول كيفية الاتصال باختصاصيين من معارفهم. 
  • الإنترنت وحده لا يكفي: أحياناً لا يكون الإنترنت والهاتف كافيين للتثبت من بعض الأخبار أو المنشورات، فينبغي التثبّت من الوقائع ميدانياً، وهو من أسس العمل الصحافي.

فيما يلي بعض الأمثلة على أخبار شاعت وتم تبيان التحقق منها، فنشرت وسائل إعلام محلية أخباراً تتحدث عن موجة السخرية التي عصفت بمواقع التواصل الاجتماعي والتي طالت الإعلانات التي ظهرت في الشوارع عن مشروع الباص السريع، إضافة لإشاعة توزيع “كاسة” ماء وقطعة “شوكولاته” لكلّ راكب. وبعودة مرصد مصداقيّة الإعلام الأردني “أكيد” إلى معايير مهنة الصحافة وأخلاقيّاتها، يتبيّن وقوع الوسائل في عدد من المخالفات المهنيّة، ومنها:[3]

أوّلاً: ليس من أدوار الإعلام المساهمة في إثارة السخرية، أو التنفير من أيّ مشروع يخدم المجتمع، بل يمكنه تسليط الضوء على السلبيّات بطريقة رصينة وموضوعيّة.

ثانياً: تحوّلت وسائل إعلام مرصودة إلى رديفٍ لوسائل التواصل – بحساباتها المجهولة أو المعروفة – وخلطت الجدّ بالهزل، بينما تتّسم الصحافة الإخبارية بلغتها الجادة والموضوعيّة.

ثالثاً: إعادة نشر صور الإعلانات التي قام بعض أفراد المجتمع بتعديلها من خلال برامج تعديل الصور، وحملت عبارات ساخرة من المشروع عوضاً عن العبارات التحفيزيّة الأصلية.

رابعاً: نشر أخبار تحمل هذا النوع من السخرية قد تؤدي إلى تنفير المواطنين من المشروع، وإثارة مزيد من اللغط حوله.

خامساً: ساهمت وسائل إعلام في نشر شائعة “كوب الماء وقطعة الشوكولاته” وبهذا كانت مشارِكة في إطلاق الشائعات في المجتمع.

سادساً: بعد متابعة “أكيد” لتعليقات الناس في وسائل التواصل المختلفة تبيّن حدوث خلط كبير، واعتقاد البعض بأنّ الاعلانات الساخرة المعدّلة هي حقيقيّة فعلاً، ممّا أثار استهجان المواطنين عن سبب الإعلان بهذه الطريقة الساخرة من قبل الجهات المسؤولة.

وعلى جانب أخر، ارتكبت عدّة وسائل إعلام محليّة مخالفةً مهنيّةً، بنَشرهاِ خبرًا يتضمّن مقطعًا مصوّرًا لِعراكٍ بين مواطِنَين من بلدٍ عربيّ، وتمّ بالتصادم الانتقاميّ المتعمّد والمتكرّر لمركبتيهما. وأسقط مرصد مصداقيّة الإعلام الأردنيّ “أكيد” على هذه التَّغطية معايير مهنة الصّحافة وأخلاقيّاتها، والمتوفّرة على موقع “أكيد”، وتبيّن وقوع هذه الوسائل بعددٍ من المخالفات المهنيّة، أبرزها:[4]

أوّلاً: تزويد الجمهور بأفكارٍ إجراميّةٍ يمكن مُحاكاتها عند وقوع الخلافات بين أفراد المجتمع. والتي تحثّ على إتلاف الممتلكات، وإعاقة سلامة الطّرق العامة.

ثانياً: تأثّر فئةِ المراهقين والشّباب بروح الانتقام الظاهرة في المقطع.

ثالثاً: إشاعة الفوضى في المجتمع، وتسليط الضوء على الخلافات عوضاً عمّا يمكنه زيادة السّلام واللُّحمة المجتمعيّة.

رابعاً: إبراز الخلافات الشخصيّة المحدودة بين أفراد المجتمع كقضايا عامة مطروحة في الإعلام.
خامساً: تقديم عنصر التّشويق والإثارة على القيمة الإخباريّة وحقّ الجمهور في الحصول على المعلومة النافعة.

سادسًا: عدم كبح جماح الأنشطة الموجّهة ضدَّ المجتمع ونشر محتوى غير لائق لجمهور المتلقّين.

بالنهاية، أوصي وسائل الإعلام بالحرص على تزويد الجمهور بالمعلومات والأحداث ذات القيمة الإخباريّة التي تخدم المصلحة العامة، كما يُذكّر بدور الإعلام التربويّ التوعويّ الذي يهدف إلى نشر الأخلاق والفضيلة، وكبح الإجرام والعنف والرّذيلة.

فرحان الحسبان 

[1] ماذا يُقصد بـ “تدقيق الحقائقFact-checking”، مينا تشيك، https://medium.com/، تاريخ اخر مشاهدة: ١٩/١٠/٢٠٢١.

[2] تقصي صحّة الأخبار: مبادئ وطرق عمل، https://factuel.afp.com/ar/tqsy-shw-lkhbr-mbdy-wtrq-ml ، تاريخ اخر مشاهدة ١٨/١٠/٢٠٢١.

[3] “سخرية من مشروع وطني” .. غياب الموضوعيّة، أفنان الماضي، https://www.akeed.jo/ar/ ،تاريخ اخر مشاهدة ١٨/١٠/٢٠٢٠

[4] مقطع مُصوّر لعراكٍ بالأيدي وتصادم بالمركبات.. إشاعة للفوضى والعنف، أفنان الماضي، https://www.akeed.jo/ar/، تاريخ اخر مشاهدة ١٩/١٠/٢٠٢١

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *