في ظل ثورة تكنولوجيا الإتصالات والمعلومات، اصبحت عملية التواصل بين الناس، وتبادل المعلومات والمعارف والخبرات أكثر سهولة، وخاصة مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي؛ فيس بوك، واتس آب. اذ اصبح الناس يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي في عرض معلوماتهم؛ متى ولدوا، أين عملوا، أين تطوعوا، في أي معاهد ومدارس درسوا، انجازاتهم، وخبراتهم، أو حتى ابداء رأيهم “تعليق” على منشور ما، أو حتى وضع صورتهم على صفحة “الفيس بوك” الخاصة بهم. وهذه المعلومات قد تكون أشياء نعرفها نحن عن انفسنا ويعرفها الآخرون عنا، أو معلومات لا نعرفها عن أنفسنا ويعرفها الآخرون عنا، أو معلومات نعرفها نحن عن أنفسنا ولا يعرفها الآخرون عنا، أو حتى معلومات نجهلها عن أنفسنا ويجهلها الآخرون عنا.
هذا ما يتحدث عنه العالمان”جوزيف لوفت” و”هارينغتون انغهام”، في نافذة “جوهاري”؛ والتي هي عبارة عن نموذج افصاح، نموذج تغذية راجعة، نموذج للوعي الذاتي، كما تعتبر أداة لمعالجة المعلومات. كما تكمن أهميتها في تحسين وعي الفرد بذاته، اكتشاف ذاته أكثر، ولتحسين علاقة الفرد مع نفسه ومع الآخرين. من خلال النافذة يجب على الفرد أن يعرف ما يجب الإفصاح عنه للآخرين، ومما لا يجب الإفصاح عنه. وتعتمد نافذة جوهاري على اكتساب ثقة الآخرين من خلال الكشف عن معلوماتك لهم، والتعرف على نفسك من خلال ملاحظات الآخرين. تتضمن النافذة أجزاء مختلفة، وتمثل الأجزاء المعطاة في الاتجاه الرأسي جزءًا معروفًا وغير معروف للآخرين. بينما يمثل الجزء الأفقي الجزء المعروف وغير المعروف لنفسك.
تحوي نافذة “جوهاري” على اربع مناطق مهمة يعبر فيها الفرد عن مشاعره، معلوماته الشخصية، ودوافعه الخاصة. المنطقة الأولى: المنطقة المفتوحة: (Open Area)؛ والتي تقع أعلى يسار النافذة، وفيها معلومات تعرفها أنت عن نفسك، والآخرون ايضا يعرفونها عنك، وتشمل سلوكك، ومهاراتك. يجب في نموذج “جوهاري” أن نزيد حجم المنطقة المفتوحة؛ وذلك من خلال: الإفصاح عن الذات، قبول تلقي التغذية الراجعة، اعطاء فرصة لنفسك لاكتشاف نفسك أكثر والآخرين. ذلك كله يزيد من وعيك الذاتي بنفسك ويعطي فرصة أكبر للناس بأن يكتشفوك. المنطقة الثانية: المنطقة المغمضة: (Blind Spot)؛ والتي تقع أعلى يمين النافذة، والتي تمثل أشياء لا تعرفها أنت عن نفسك؛ أي معمى عنها، والآخرون يعرفونها عنك.على سبيل المثال، من الممكن أن تكون ماهر في شيء ما، وأنت لا تدرك ذلك، ولكن الآخرون يدركون هذه الميزة لديك. المنطقة الثالثة: المنطقة المخفية (Hidden Area)؛ والتي تقع أسفل يسار النافذة، وتمثل هذه المنطقة أشياء تعرفها أنت عن نفسك، ولا يعرفها الآخرون عنك. مثال ذلك، مخاوف الفرد ومعتقداته التي يعرفها الفرد عن نفسه، ولا يعرفها الآخرون عنه. المنطقة الأخيرة من نافذة جوهاري، هي المنطقة المجهولة (Unknown Area)، أي المنطقة المجهولة أو الغامضة؛ وتمثل هذه المنطقة اشياء لا تعرفها انت عن نفسك، ولا الآخرون. من الممكن الكشف عن غموض تلك المنطقة، عن طريق القيام بأشياء لم نفعلها من قبل، وبذلك نكون قد اكتشافنا أنفسنا وتعرفنا على نفسنا أكثر، وبإمكاننا مشاركة ذلك مع الآخرين.
نافذة “جوهاري” مهمة على الصعيد الشخصي والمهني؛ اذ أنها تضمن لك عمل أفضل ضمن مجموعات العمل. ذلك أنك عندما تتواصل مع الأخرين، وتقبل بإستمرار تعليقاتهم، والتغذية الراجعة منهم، انت بذلك بنيت علاقة جيدة معهم، وعملكم اصبح أكثر فعالية وكفاءة في المؤسسة. هذا بالضبط ما ينطبق عليك شخصيا، عند قبولك التغذية الراجعة من الآخرين فأنت هنا تبني علاقة قوية. كما ينظر جوهاري إلى نهج يمكن من خلاله تطوير وتنمية أنفسنا على الصعيدين الشخصي والعملي؛ ذلك أن معرفة نفسك جيدا، معرفة نقاط القوة وتعزيزها لديك، او حتى معرفة نقاط الضعف لديك ومعالجتها، هذا من شأنه أن يطورك، وتقبلنا لملاحظات الآخرين يساعدنا كثيرا على الارتقاء بنفسنا أكثر وتطويرها. نموذج “جوهاري” يساعدنا على حل المشاكل التي تقع بين مجموعات العمل وذلك من خلال جلوس الفريق مع بعضهم، وايضاح اسباب المشكلة، لكي لا يبقوا في مناطق جوهاري المغمضة والمجهولة والمخفية، وأن ينتقلوا للمنطقة المفتوحة. من الممكن أيضا الإستفادة من “جوهاري” في حل مشاكلك الشخصية.
كما تساعد “جوهاري” على تطوير مهارات التواصل والحوار بين أفراد الفريق وحتى كشف الغموض بين الفريق، وذلك أن حديث افراد الفريق مع بعضهم، ومعرفة بعضهم أكثر، من شأنه تحسين فهم العلاقات أكثر فيما بينهم وزيادة جودة الاتصال فيما بينهم. علاوة على ذلك، نستطيع الإستفادة من “جوهاري” في تحسين مهارات التواصل والحوار في الأسرة وبين أصدقائنا. في نموذج جوهاري، نستطيع التعبير عن مشاعرنا وعن ما يسعدنا، وعن ما يغضبنا، وعن ما يقلقنا. بذلك نكون صريحين وواضحين في عملنا، في بيتنا، أو حتى في حياتنا الإجتماعية، وليس هناك مما قد يخرب وتيرة عملنا. تبني “جوهاري” آواصر الثقة متبادلة بين الاشخاص، سواء في بيئة االأسرة، العمل أو في البيئة الإجتماعية؛ وذلك أن الشفافية والوضوح في جميع العلاقات، هي مفتاح الثقة. كما ينظر إلى “جوهاري” كفرصة لتبادل الخبرات، خاصة عند الجلوس مع الآخرين والحديث معهم، والتعرف على خبراتهم وتجاربهم في الحياة.
تؤكد نافذة “جوهاري” على أننا كلما أفصحنا عن أنفسنا أكثر أمام الآخرين، كلما اتسعت المنطقة المفتوحة أكثر. لكن، ليس علينا الإفصاح عن جميع الأمور، فلا بأس أن يتضمن الإفصاح عن الذات بعض المعلومات السطحية عنك؛ مثل: طعامك، ما تفضل مشاهدته على التلفاز من برامج وافلام. تلك الأمور عادية، لا تشعر بالخطر اذا افصحت عنها، او حتى اذا حاول الآخر استخدامها ضدك. هنا يجب أن نشير إلى الإفصاح الحكيم عن الذات؛ اذ ان هناك معلومات الإفصاح عنها، قد يفيدنا في بناء ثقة بين الناس ويشجع الآخرين على التعرف عليك أكثر ومشاركة المعلومات معك. من جهة اخرى، قد يجلب لك الإفصاح مخاطر، اذ انك لا يجب عليك الإفصاح والتحدث بشكل حر وعفوي والتمتع ببعض الحكمة حينما تتحدث، اذ اننا في احيان كثيرة، عندما نفصح عن أمور لا يجب التحدث يها، قد يستخدمها الآخرون ضدنا؛ مثلا: عند الإفصاح عن مخاوفك، قد يستخدم الآخرون هذه النقطة في تهديدك وابتزازك.
لذلك عند افصاحنا عن انفسنا، يجب علينا أن ننتبه إلى ما نقوله ونكون حذريين في الرد على الآخرين. التمهل، التمهل، التمهل؛ قبل أن تتكلم، وتتبادل الإحاديث مع الناس. ذلك أننا في احيان كثيرة، لا نراعي قول الشيء المناسب في الوقت المناسب. أيضا يعتبر الإصغاء مفتاح من مفاتيح الإفصاح الحكيم عن الذات؛ وذلك أن الإصغاء الجيد يساعد الفرد على قول الشيء المناسب. ويقال “خير الكلام ما قل ودل”. حاول عند حديثك مع الآخرين ان يكون كلامك قليل ومفيد، ذلك أن الكلام اذا كان طويل، من الممكن أن تفصح فيه عن أمور لا يجب أن تفصحها. لذا فإن الحكمة ضرورية في نافذة “جوهاري”؛ اذ يجب علينا الإنتباه إلى ما نقوله، إلى ما يجب على الناس أن يعرفونه عنا، أو لا يعرفونه عنا، ويجب علينا أيضا معرفة أنفسنا جيدا، نعرف ما نحتاج لنطوره في أنفسنا، ومعرفة ما نحتاج إلى تعديله وتقويمه فينا، لأن نافذة “جوهاري” هي نافذة لتكوين الوعي الذاتي للفرد، ونافذة لتطوير أنفسنا.
سلام عثمان