روزنبيرغ والتواصل السمح الذي سعى لإيصاله

روزنبيرغ والتواصل السمح الذي سعى لإيصاله

عل أكثر ما يميز البشر عن باقي الكائنات الحية هو التواصل بين بعضهم البعض ولا نستطيع إنكار أنه أحد الأسس التي تبني وتشكل حياتنا، وما أن أردنا أن نتطور ونقدم واجبنا أمام البشرية يجب أن يكون تواصلنا جيد وفاعل. سعى من أجل ذلك الكثير من علماء النفس وعلماء الإجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا حتى نصل لنمط حياة وعالم أفضل. من هذه الشخصيات عالم النفس الأمريكي مارشال روزنبيرغ الذي كان معلمًا وصانع سلم ويسعى لأن يكون التواصل بأرقى حالاته بين أفراد المجتمع. أسس روزنبيرغ بداية ستينات القرن الفائت ما يسمى بنهج التواصل اللاعنفي أو ما أحب أن أسميه التواصل السمح. كرس روزنبيرغ حياته من أجل تمكين فكرة آمن بها وسعى لنشرها والتوعية بها عبر وسائل وطرق عدة من التأليف والتوضيح وعقد الجلسات وتقديم التدريبات في كل أنحاء العالم وحتى في ثمانينات القرن الفائت أسس مركزًا للتواصل اللاعنف nonviolent center وهو منظمة دولية غير هادفة للربح وعمل بها مديرا ومطورا للخدمات التعليمية. يدفعنا كل هذا الجهد الذي بذله روزنبيرغ لأن نستوضح التواصل اللاعنفي في مقالنا.

قد يكون أتم وصف للتواصل اللاعنفي (NVC) على أنه لغة التعاطف، وأداة من أجل التغيير الاجتماعي الإيجابي، وممارسة روحية في آن واحد. يمنحنا التواصل اللاعنفي الأدوات والوعي لفهم ما يدفعنا للأمام، وتحمل مسؤولية ردود أفعالنا، وتعميق علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين، وبالتالي نقل استجاباتنا المعتادة هذه للحياة. في نهاية الأمر يصحب ذلك تغيير جذري في طريقة تفكيرنا في الحياة ومعناها. يعتمد التواصل اللاعنفي على مبدأ أساسي: دائمًا ما يكون وراء جميع السلوكات والتصرفات الناجمة عن البشر احتياجاتهم التي يسعون إلى تلبيتها، وفهم هذه الاحتياجات والاعتراف بها من الممكن أن يخلق أساسًا مشتركًا للتواصل والتعاون والشراكات وكله يصب في الوصول للسلام العالمي. إن فهمنا لاحتياجات بعضنا البعض يخلق ترابط عميق على المستوى الإنساني؛ لأن أوجه التشابه بين بنو البشر تفوق الاختلافات وهذا الفهم سيؤدي إلى زيادة التعاطف بيننا. عندما نركز على الاحتياجات، دون تفسير أو نقل النقد أو اللوم أو المطالب، يظهر إبداعنا الكامن، وتظهر الحلول التي كانت غير واضحة لنا من قبل. تبعًا لهذه النتيجة سنتمكن من حل النزاعات وسوء الفهم بشكل أسهل.

كما سبقنا الذكر أن التواصل السمح يعد لغة تعاطف؛ لذا سيكون تعلمه شبيهًا لتعلمنا لغةً او مهارةً جديدة أي يجب أن نتعلمه خطوة بخطوة تفسح له وقتًا كافٍ من أجل الممارسة وممارسة التواصل السمح كممارسة اللغة كلما زاد إتقاننا لها. هذا يوصلنا إلى أننا نحتاج لبعض الوقت حتى نصل للطلاقة في ممارسة التواصل السمح. بالطبع كما يصحب تعلم اللغة تغييرات كثيرة داخلية وفي علاقتنا مع أنفسنا وطرق تعبيرنا عن الأشياء يصحب تعلم التواصل السمح كل ذلك. نستطيع أن نجزئ لغة التواصل السمح إلى جزئين: الأول أن نعبر عن أنفسنا بصدق للآخرين، والآخر هو أن نستمع للآخرين بتعاطف وإنصات. ونستطيع التعبير عن كلا الجزئين بأربع مفاهيم: الملاحظات، المشاعر، الحاجات والطلبات وبهذا يكون التواصل السمح يعتمد على التعبير عن المشاعر والإحتياجات. بالطبع يتضمن التواصل السمح تمييز المفاهيم السابقة عن الأحكام والتفسيرات وتضمين الوعي في كل الرحلة من أجل أن نعبر عن أنفسنا ونسمع الآخرين بشكل أفضل وبهذا سنعزز التواصل المبني على الفهم ونساعد كل من هو حولنا بتلبية احتياجاتهم ونتيجة لذلك سينمو بنا العطاء وسنفهم مشاعر الآخرين ونصبح اكثر تعاطفًا معهم وسنكون أكثر حرصًا بسلوكاتنا واستجاباتنا وما نقدم عليه.

مكونات التواصل السمح:

  • الملاحظات (ما وراء استجاباتنا): هي كل ما نراه أو نسمعه أو نعلمه ويسبب ردود أفعالنا؛ لذا يهدف التواصل السمح بأن نصف ما نتفاعل معه بشكل ملموس ومحدد وحيادي كما هو أو كما تصور الكاميرا اللحظة، وهذا يساعد على الوصول لأرضية مشتركة مع الطرف الآخر. السر في الملاحظات هو فصل أحكامنا أو تقييماتنا أو تفسيراتنا عن وصفنا لما حدث. على سبيل المثال، إذا قلنا لأحدهم بعد انزعاجنا من أنه لم يؤد التحية عند الدخول: “أنت غير لبق” سينزعج الشخص بينما إذا قلنا: “عندما دخلت لم أسمع منك كلمة مرحبًا”، وبهذا سيتضح للشخص اللحظة المقصودة. حين نكون قادرين على وصف ما نراه أو نسمعه بلغة الملاحظة دون أن نضع تقييماتنا أو أحكامنا، فإننا سنزيد من احتمالية أن يسمع الشخص لنا دون الرغبة في الاستجابة على الفور وسيكون أكثر استعدادًا لسماع مشاعرنا واحتياجاتنا. إن تعلمنا لأن نترجم أحكام والتفسيرات إلى لغة الملاحظة ينقلنا بعيدًا عن التفكير الخاطئ ويساعدنا على تحمل مسؤولية ردود أفعالنا بانتباهنا إلى احتياجاتنا كمصدر لمشاعرنا بدلاً من الشخص الآخر. بهذه الطريقة، تنشأ الملاحظات – التي تمهد الطريق نحو تواصل أكبر مع أنفسنا ومع الآخرين – باعتبارها لبنة أساسية نحو تحول عميق في الوعي.
  • المشاعر: تمثل المشاعر تجربتنا العاطفية والأحاسيس الجسدية المرتبطة باحتياجاتنا لبيت أو لم تلب. هدفنا في التواصل السمح تحديد هذه المشاعر وتسميتها والإرتباط بها. مفتاح تحديد المشاعر والتعبير عنها هو التركيز على الكلمات التي تصف تجربتنا الداخلية بدلاً من الكلمات التي تصف تفسيراتنا لأفعال الناس. مثلًا: تصف عبارة “أشعر بالوحدة” تجربة داخلية، بينما تصف عبارة “أشعر بأنك لا تحبني” تفسيرًا لما يشعر به الشخص الآخر. حين نعبر عن مشاعرنا، إننا نستمر بتحمل مسؤولية ما خضناه، مما يساعد الآخرين على سماع ما نريد فعلًا إيصاله مع احتمالية أقل لسماع النقد أو لوم أنفسهم وهذا سيزيد من احتمالية أنهم سيستجيبون بطريقة تلبي احتياجاتنا.
  • الإحتياجات: تمثل احتياجاتنا الرابط الأعمق لما نشترك به كبشر. وعلى سبيل الذكر لا الحصر يشترك جميع البشر في الإحتياجات الأساسية للبقاء: كالماء والغذاء والراحة والمأوى والتواصل. نتشارك أيضًا العديد من الإحتياجات الأخرى على الرغم من تباين درجة احتياجنا لها. في سياق التواصل السمح، تشير الإحتياجات إلى ما هو أكثر حيوية فينا: قيمنا الأساسية وأعمق أشواق الإنسان. يساعدنا فهم احتياجاتنا وتسميتها والترابط معها على تحسين علاقتنا مع أنفسنا، فضلاً عن تعزيز التفاهم مع الآخرين، لذلك من المرجح أن نتخذ إجراءات تأخذ بعين الاعتبار احتياجات الآخرين. المفتاح لتحديد الاحتياجات والتعبير عنها والتواصل معها هو التركيز على الكلمات التي تصف التجربة البشرية المشتركة بدلاً من الكلمات التي تصف ما يوصلنا لتلبية تلك الإحتياجات. عندما نقوم بتضمين شخص أو موقع أو إجراء أو وقت أو كائن في تعبيرنا عما نريد، فإننا نصف استراتيجية وليس حاجة. مثلًا: قد تكون عبارة “أريدك أن تحضر إلى حفلة عيد ميلادي” استراتيجية خاصة لتلبية حاجة الحب والتواصل. في هذه الحالة، لدينا شخص، وإجراء، ووقت وموقع ضمني في ذلك. وحين نتحول داخليًا من التركيز على استراتيجية محددة إلى التواصل مع الإحتياجات ذاتها سنحصل على الشعور بالقوة والتحرر.
  • الطلبات: كي نلبي احتياجاتنا لا بد لنا أن نقدم طلبات لتقييم مدى احتمالية حصولنا على تعاون لأجل تلبية احتياجاتنا. هدفنا في التواصل السمح هو تحديد والتعبير عن إجراء محدد نعتقد أنه سيوصلنا لهذه الحاجة بطريقة سليمة، ثم التحقق من الآخرين المعنيين ولديهم الاستعداد للمشاركة في تلبية احتياجاتنا بهذه الطريقة. التواصل بلا شك إحدى أهم مقومات الحياة السليمة وكل من ساهم بتطويره وجعله أفضل وأسهل هو شخص مهم وجب تقديره ونشر أفكاره، وهكذا مارشال روزنبيرغ لذا كان لا بد أن نضيء على نظريته “التواصل اللاعنفي”.

ضحى خالد أبويحيى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *