إنه الفنان المثير للجدل، رسوماته تحاكي العديدين، هي تعبر عن كل قضية شهدتها ويشهدها العالم. في كل رسمة تخبئ في باطنها رسالة، رسالة حقيقية من بين الشّوارع أينما كانت، في أي حي، في أي منطقة في هذا العالم. مع كل هذا الضوضاء التي تثيره الشّوارع تجد له رسمة تصوّر حياة الناس بواقعها بطريقة فنية رائعة، إنه الرّسام الجرافيتي المتخفي بانكسي. بانكسي الفنان والرسام مجهول الهوية، وجهه غير ظاهر للعلن ولكنه مرسال السلام وحامل قضايا البشرية على قدمٍ وساق. الحرية والأطفال والبيئة موجودة في أغلب رسوماته، يعبر من خلالها رسالة مفهومها تختلف من وجهة نظر إلى آخر، لكن في نهاية المطاف هي رسالة تحارب في طياتها الشّر والظّلم، تناصر الإنسانية وكل مظلوم في جميع بقاع الأرض.
القضيّة الفلسطينيّة كانت محط أنظار بانكسي، تجد على جدران البيوت والأحياء في فلسطين له رسومات عديدة ومن أهم أعماله وجدت على الجدار الفاصل وبما يسمى بالجدار الفصل العنصري، وهو جدار شيده الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2002 ليعزل الفلسطينيين في الضفة الغربية. يتراوح طول الجدار حوالي 700 كم ويتراوح ارتفاعه بين 4.5 و 9 متر. حيث وجدت الكثير من رسومات على هذا الجدار خصوصا على الجدار الذي يفصل بين بيت لحم عن القدس المحتلة التي تعبّر عن ظلم الاحتلال الإسرائيلي والتّدخلات السياسية منذ وعد بلفور إلى تاريخنا هذا والتي حرمت الشعب الفلسطيني من استمرار حياته بكل حرية بسبب هذا الجدار العائق الذي وضعه الاحتلال.
من الأمور المثيرة للإهتمام والتي لم يسبق لأي أحد التفكير بها أو أن تخطر على بال أحد، مشروع الفندق الذي قام به بانكسي وسمي بThe Walled off Hotel. تم وصف هذا الفندق ب “الفندق صاحب أسوأ إطلالة في العالم” فهو على بُعد ثلاثة أمتار فقط عن الجدار الفاصل. لقد زيّن هذا الفندق برسومات وديكورات عملها بانكسي بنفسه مستوحاة من الواقع الفلسطيني ومعاناته مع الإحتلال الإسرائيلي بطريقة فنية و ممتعة بطريقةٍ ما. له تصميم وطابع خاص هذا الفندق حيث أنه يجمع بين الفنون والفخامة بشكل مميز في مكان غير مؤهل لوجود كمثل هذه الفنادق. باعتقادي وجود هذا الفندق في مثل هذا المكان لاستقطاب السّياح من مختلف بلدان العالم ولفت انتباه العالم بأكمله لتجربة ورؤية معاناة الشعب الفلسطيني الحقيقية عن قرب هو أمر ذكي جداً وإبداعي ويتطلب جرأة كبيرة. وجود مثل هذا الجدار كمعيق للحياة اليومية للفلسطينيين والوصول إلى سبل العيش بكل صعوبة كالكهرباء، والماء، والذهاب إلى العمل إلى الشق الآخر من الجدار كافٍ ليجعل هذا المكان من الصّعب العيش فيه بكل بساطة وأريحية. لكن، وجد بانكسي الحل بفنه ليزيل البؤس ويبث الأمل قدر الإمكان في وضع لمساته الفنية الجميلة لتواسي السكّان القاطنين هناك.
في قضية أخرى تولّاها بانكسي وهي قضية الصّحفية والرسامة التركية زهرة دوغان، التي حكم عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات تقريباً لنشرها رسمة لها. في هذه الرسمة مشهداً لبلدة نصيبين التركية، التي كانت تشهد حظر التجول بسبب القتال بين الجيش التركي وحزب العمل الكردستاني. رسم بانكسي على جدار يمتد على عشرين متراً في مدينة مانهاتن في نيويورك، وتظهر زهرة دوغان خلف القضبان محاطه بسلسلة من الخطوط المشطوبة كالتي يرسمها السجناء على جدران السجن لتعداد الأيام التي يمكثها في السجن وكتب بانكسي في أسفل الرسمة FREE ZEHRA DOGAN، حرروا زهرة دوغان. وضع أيضاً في أعلى الرسمة اللوحة التي رسمتها الفنانة زهرة والتي سُجنت من أجلها. دعمه للفنانين من كافة أنحاء العالم ومناصرة ودعم لحرياتهم لمجرد فقط تعبيرهم عن آرائهم من خلال اللوحات التي يرسمونها هو بحد ذاته شيء إنساني يستحق التقدير. كتبت الفنانة زهرة دوغان رسالة لبانكسي ردّاً على الرسمة فوصفت له الوضع في السجون والمعاناة اليومية التي تواجهها هي وأصدقائها في السجون وكتبت له في الرسالة أيضاً: “في لحظة من التشاؤم، جعل دعمكم لي ولأصدقائي هنا في سعادة هائلة. بعيداً عني وعن شعبنا، كان أفضل رد على النظام المعوج الذي لا يستطيع أن يحتمل لوحة مرسومة”.
https://www.youtube.com/watch?v=BZ9PAoKvqX8&feature=emb_title
في آخر حدث للفنان بانكسي في أكتوبر من عامنا هذا (2018) حيث أنه بيعت إحدى لوحاته وتدعى “لوحة فتاة البالون” في المزاد سوذبيز الشهير في لندن بمبلغ 1.37 مليون دولار. في لحظة إعلان بيعها مُزقت اللوحة بنفسها من خلال آلة التمزيق التي وضعها بانكسي أسفل اللوحة المخبأ خلف الإطار قبل عدة سنوات في حال إذا بيعت اللوحة، ليثبت للعالم مجدداً أن فنه العابر للقارات لا يباع ولا يشترى ليس لأنه لا يقدر بثمن بل لأن الرّسالة التي تحملها لوحاته يجب أن لا تحتكر لأحد وأنّ على الجميع مشاهدتها وأنّ الفن له قيمة معنوية أكبر وأعظم من القيمة المادية. لم يقم بانكسي مسبقاً بعرض لوحاته الفنية في أي معرض، لأي أحد يجد معرض أينما كان للوحات بانكسي ويتقاضى أيضاً أجر تذكرة دخول، اعلم أنه ليس له علاقة بالفنان بانكسي، بالنسبة له لا يتقاضى الأجر من الناس لرؤية رسوماته الفنية.
من الجدير بالذكر أن بانكسي إنسان متعدد المواهب وله أفكار مميزة وفريدة من نوعها. عدا عن الفندق الذي يمتلكه وصمّمه الذي ذُكر سابقاً، هو لديه فيلم وثائقي في عام 2010 أخرجه بنفسه اسمه “خروج من خلال متجر الهدايا “ Exit Through The Gift Shop. كان مرشحاً لجائزة الاوسكار لأفضل فيلم وثائقي، ومن أهم أعماله في عام 2015 نشر بانكسي مقطع من دقيقتين الحياة في غزة يحتوي على مقاطع تصويرية خلال تجواله في غزة ورسمه على جدران البيوت المهدّمة التي تعبّر عن الواقع الأليم التي تشهدها غزة وسمي الفيديو ب Make this the year YOU discover a new destination، اجعل هذه السنة أنت اكتشاف وجهة جديدة. هناك العديد والعديد من أعماله من بدايته في عام 1990 ومازالت مستمرة بإدهاشنا بكل تأكيد.
إخفاء بانكسي وجهه وهويته هو أمر غير عادي ولا يحدث بالعادة، ولكنه برأي هو لا يسعى للشهرة ولا هدفه أن يجني الكثير من المال بل أراد فقط أن يضع الرسومات التي تعبر عن المواضيع التي نحن لا نريد مواجهتها وأن ننطق بها بصوتٍ عالٍ. ذهب إلى أماكن تفتقد الحرية فأشاد بفنّه الحريّة والأمل والمواساة لهم، جعل من الجدران العتيقة المغبرّة رونق خاص من خلال رسوماته كأنما وجد في قبح الوجه جمالُ. عّبر عن الظلم والحرية والسلام بطريقة مختلفة في أماكن كثيرة غير اعتيادية في العالم. لتنحني لك جميع القبعات يا بانكسي.
جمان الحديد