عند البحث في مفهوم القيم الإنسانيَة عند كل شخص، سنجد هناك العديد من التّعاريف نظراً لاختلاف وجهات النّظر الطبيعية بين البشر. لكن في النهاية هناك بضع أساسيّات لتعريف القيم الإنسانيّة متفق عليها، فلو وُجّه هذا السّؤال لي مثلاً وأردت أن أعرّف القيم الإنسانيّة، سأجيب على أنه المبادئ التي وجدت لكي تميزنا نحن كبشر عن باقي المخلوقات خصوصاً عندما نتعامل مع بعضنا البعض في هذا الكيان، من احترام للآخر، والتسامح، وأن كل شخص منّا أن يتعامل بأخلاق حسنة. ما يخطر في بالي أيضاً وهو الأهم، أن يكون الانسان إنساناً بتعامله، سواء كان تعامله مع الأشخاص في المجتمع أو غير مجتمعه (العيش في بلاد أخرى)، والبيئة، وألّا يتصرف بأنانية والتفكير فقط بنفسه ومصالحه دون الأخذ بعين الإعتبارومراعاة وجود الآخرين من حوله. الأهم من هذا كله أن يبدي المساعدة دائماً للغير في جميع أشكالها، وأن يحرص على ألّا يؤذي إنساناً، ولا حيوان، ولا نبات، ولا أي شيء موجود في هذا الكيان.
القيم الإنسانيّة مهما اختلفت معناها من بلد إلى آخر، من ديانة إلى ديانة أخرى، أو من مجموعة إلى مجموعة أخرى. هناك بالتأكيد اتفاق بأنها وجدت كضوابط تقودنا كبشر نحو حياة أفضل ويتعزّزالأمن والسّلام من خلالها، لأنها باعتقادي غير مشروطة بمعتقد ديني أو حضارة أو ثقافة مجتمعيّة فقط. إنها قيم جاءت من باب الإنسانية، خُلقنا على هذه الأرض لنعيش سويّا ونبني هذا العالم سويّاً بسلام ومحبة، دون تدمير وخراب ودون التّعدي على الآخر فقط لأننا نبدّي أنفسنا ومصلحتنا الشّخصية على الغير وهذا بالتّأكيد سلوك سلبي وعمل غير أخلاقي.
عندما بدأت بالبحث عن مفهوم أعمق للإنسانية ومحاولة توضيحه للأخرين أيضاً، وجدت أن هناك أنواع للقيم منها: القيم الاجتماعيّة، والقيم الاقتصاديّة، والقيم الجماليّة، والقيم الدينيّة، والقيم الشخصيّة. لا غنى بالتأكيد عن أي نوع من هذه الأنواع ليكون مفهوم القيم الإنسانيّة متكاملاً بحد ذاته، ولكن لو نريد أن نرتّب هذه الأنواع من المهم فالأهم، بالنسبة لي ستحتلُّ القيم الاجتماعيّة بالتأكيد المرتبة الأهم. القيم الاجتماعية وهي القيم التي تقوم على أسس التّعامل في العلاقات الاجتماعيّة من الفرد إلى المحيط الذي يدور حوله من الأقرب إلى الأبعد – العائلة، الأقارب، الأصدقاء، الزّملاء إلى المحيط الخارجي وهو المجتمع الذي تعيش من ضمنه – لماذا القيم الاجتماعية هي الأهم؟. لأن المجتمع الذي نعيش فيه واحتواءه على كمّ هائل من هذا التنوع والاختلافات بين بعضنا البعض من جنسية، والجنس، والديانة، والعمر، وهلمّ جرّا، لا يصلح بأن نعيش ضمن منظومة فرديّة دون الجماعة؛ لأن هذا سيجعل من الصّعب استمراريّة العيش مع بعضنا البعض بشكل طبيعي. كفرد في هذا المجتمع الكبير كيف ستتعامل مع المحيط الذي حولك مع كل هذا التّنوع والاختلاف الموجود؟ هل الإحترام سيكون التّصرف الأساسي التي ستقوم عليه علاقاتك وتفاعلك مع الآخرين؟
القيم الإجتماعيّة هي التي تكفل حياة سليمة ومتكاملة للمجتمع، عندما يكون الاحترام وتقبل الآخر والتّعاطف هو أساس التعامل بين الأفراد، ولا ننسى التعامل مع البيئة والممتلكات. أيضاً، سيرتقي المجتمع وسيكون المحرّك الذي سيقود المجتمع نحو التّحضر والتّنمية المستدامة على جميع الأصعدة. إذاً لو أمعنّا في حال الأمم الآن والأمّة العربية خاصةً نجد أنّ ما يجعل التراجع في التطور الإجتماعي الإنساني والمشكلات التي تتفاقم بين الحين والآخر ووجوه العنف التي نشهدها يوماً بعد يوم وانتشار لا حصر له لخطابات الكراهية في العلاقات الواقعية الملموسة والافتراضية – على وسائل التواصل الإجتماعي المختلف – من مسببات الرئيسية هي انحدار القيم الإنسانية، ورويداً رويداً إنها تُفتقد في السّلوكيات الفردية في المجتمع للأسف.
السؤال الذي يراود الأذهان دائماً ويستدعي لتفكّر عميق هو أنّ ما هي العوامل التي أودت بنا إلى هذا الإنحدار؟ هل الأسباب تعود إلى العائلة أم التعليم أم وسائل الإعلام أم المصالح الشخصية والطّمع المتأجّج في النّفوس؟! أو أنّ هناك أسباب أخرى أنا شخصياً أجهلها؟. برأي الخاص الأسباب كثيرة والعوامل عديدة، لكن فقدان المسؤولية وأخذ مشاعر الآخر من المسلّمات هي التي أدّت لأنانية الفرد وسوء تعامله مع الآخرين، نحن خُلقنا بالفطرة على الحب والسلام والرّحمة، لكن التدخلات المحيطة هي التي صقلت الإنسانية إلى شكلاً معاكس عمّا هو طبيعي، ومن أهم هذه التدّخلات هي العائلة ودورها في غرس القيم والأخلاقيات أكثر في نفس الطفل أو اقتلاعها. لو أنّ الأهل قاموا بتنشئة الطفل على القيم الإنسانيّة ورُبّي في بيئة مسالمة ومحبة ويكون الأبوان القدوة الحسنة لأطفالهم على ذلك، فإنه من الصّعب بعد ذلك مع مرور الوقت عندما ينضج ويكبر الطفل أن تمسح منه بكل هذه البساطة وتصبح في محض النّسيان، أي نعم أنّ هنالك أيضاً مسببات وتدخّلات تجعل الفرد ينحرف عن طريقه ويفقد القيم وينساها كأنها لم تكن، سواء كان من البيئة المدرسية أو الجامعية الخ، لكن أعتبر أن هذه في العادة مسألة مؤقتة ثم يعود على ما هو عليه في الأساس.
العامل الثاني والذي يشكّل منه جانب خطر وهي وسائل الإعلام المختلفة الترفيهية منها على وجه الخصوص، المحتوى الموجود في المسلسلات والأفلام والبرامج المختلفة التي تساهم وبشكل فعّال ومؤثر على المشاهد من تجرّده للقيم الإنسانية. جمعينا نرى الآن المسلسلات مع اختلاف مصدرها من عربي وعالمي فهي تشّجع على التصرفات اللاأخلاقية وتهميش دور العائلة وتفكيك الروابط الإجتماعية، وتسلّط الضّوء على إشباع رغبة النفس بأي وسيلة كانت بغض النّظر على شرعية الوسيلة. كما ذكرت سابقاً أنّ الأسباب كثيرة والعوامل عديدة، وكل منّا يرى أسباب هذا الانحدار من زاوية مختلفة عن الآخر مبنية على البيئة التي نشأ منها والتّجارب التي مرّ بها في حياته. في نهاية المطاف قضيتنا الحقيقية بأنه كيف نستطيع أن ننقذ قيمنا من الزوال؟ وهل باستطاعتنا حقاً أن نقضي على العوامل التي أدت بنا إلى هذا الحال؟
جمان الحديد