الحكم المسبق كالآفة مترسخة في أدمغتنا والعقول البشرية كأنها مبرمجة على ذلك، ليس من السهل التخلي عنه ولكن بالتأكيد ليس بالأمر المستحيل. في العلاقات الإجتماعية بطبيعة الحال تأخذ وقت طويل لمعرفة شخص جيداً لذلك من البداية الحكم المسبق يضع لنا حواجز يحول دون معرفة شخص جيداً. أليس حينها يعتبر غير عادل أن نستبق الأحداث وأن نحكم على الشخص -أقصد الحكم المسبق السلبي- قبل معرفته؟.
وجد الباحثون في جامعة ويك فوريست في الولايات المتحدة في عام 2010، أن التصورات العقلية التي يتخيلها الشخص عند وصف الآخرين يعد مؤشر مهم على سماته الشخصية. يمكن أن تكون وسيلة جيدة للتعريف عن هذا الشخص، عندما يميل الشخص لمشاهدة الآخرين بشكل إيجابي فهذا يدل على أن لديه سمات إيجابية في شخصيته. اكتشفوا أيضاً بأن هناك ارتباط قوي بين مدى سعادة الشخص، وطيبته، وثباته عاطفياً وحكمه على الآخرين بشكل إيجابي. في المقابل، ترتبط التصورات الشخص السلبية للآخرين بمستويات أعلى من سمات النرجسية والسلوك المعادي للمجتمع.
مجموعة ضخمة من سمات الشخصية السلبية ترتبط بمشاهدة الآخرين بشكل سلبي داست وود، أستاذ مساعد في علم النفس/جامعة ويك فوريست
أعتقد أن هذه الدراسة جمعت بين علمين في آن واحد، علم النفس وعلم الإجتماع حيث أنها تفسر سلوكياتنا كبشر في العلاقات الإجتماعية من الناحية النفسية. بنظري أيضاً أنه لا يمكن فصل وتقسيم تصرفات الشخص الخارجية، أو حتى ما يفكره به ونفسية هذا الشخص من الداخل. إذا كنت مثلاً في صحبة أصدقائك وهناك أحدهم قد انضم معكم وكنت تشعر في ذاك اليوم بحزن ومزاجك سيء فإنك تلقائياً لن تتقبل الشخص الجديد ويمكن أن ترتسم تصورات سلبية عنه خصوصاً وإن كان مظهره الخارجي مختلف عما أنت معتاد عليه، والعكس صحيح. عالم النفس الاجتماعي هنري تاجفيل أضاف في هذا المجال نظرية مهمة جداً سميت ب “نظرية الهوية الإجتماعية” تحدد الأفراد من ضمن مجموعات، تبدأ عند الفرد عدما يبدأ بالبحث على مجموعة تشبهه، وهذه المجموعة يمكن أن تنتمي تحت تصنيفات مختلفة سواء كانت جنسية البلد، الدين، العرق، أو حتى في الأمور الحياتية. هذا التصنيف يؤدي للمجموعة بعدم تقبل المجموعات الأخرى التي لا تنتمي لتصنيفهم ويصبح لديهم تحيز لأفراد مجموعتهم، مما ينشأ لديهم هذا المفهوم وهو في ــــــــ المجموعة وخارج ــــــــ المجموعة (نحن ضد هم).
أمثلة على (في ـــــــــــــ المجموعة) ضد (خارج ـــــــــــــ المجموعة):
- كرة القدم: ريال مدريد وبرشلونة
- طبقة الاجتماعية: عمان الغربية وعمان الشرقية
- التخصص الجامعي: تخصص الطب وتخصص الآداب
لكن هناك تساؤل يدور في عقلنا الآن، كيف يتم هذا التصنيف للأفراد في مجموعات؟. أجاب تاجفيل وزميله ترونر على ذلك، ووضعوا عملية تصنيف البشر التي تندرج تحتها ثلاث خطوات وهم:
- التصنيف الإجتماعي: نرى ونحكم نحن كبشر الأمور بطبيعة الحال يا أبيض أو أسود، ونقع في هذا الشيء خصوصاً عندما نريد أن نصنف أنفسنا ونصنف ما حولنا وأن نضع الأشياء ضمن صنفين فقط أنا أحب وأنا أكره، أتفق ولا أتفق. دائما نبحث على المجموعة التي تتماشى مع معتقداتنا وشخصيتنا وحتى الأشياء التي نفضلها والاشياء التي لا نفضلها. باعتقادي هنا يبدأ الحكم المسبق على الآخر فإننا نحدد الآخرين من خلال مشاهداتنا من الناحية الخارجية فقط وعقلنا تلقائياً مبرمج بأن هذا مع أو هذا ضد دون النظر إلى هذه المشاهدات إلى ما هو أعمق وأدق أكثر.
- تحديد الهوية الإجتماعية: بعد ما يتم التصنيف تأتي هذه الخطوة الهامة وهي أن نجعل للمجموعة التي انتمينا لها هوية خاصة، ويتبنى الفرد حينها التصرفات والسلوكيات التي يتم تحديدها والاتفاق عليها كمعايير للمجموعة. هذه الخطوة تشكل أهمية عاطفية للفرد فسيشكل احترام الذات والفخر مرتبطاً بعضوية المجموعة التي تنتمي لها.
- المقارنة الإجتماعية: هنا الخطوة الأخطر والحرجة أكثر، فبعد تحديد الهوية الاجتماعية للمجموعة، تبدأ المجموعة بسلسلة من المقارنات مع باقي المجموعات الاخرى، وهذه المقارنة تؤدي إلى المنافسة بالصورة السلبية والعداء، باعتقاد المجموعة أن هي الأفضل وتتعزز الثقة بالنفس للأفراد أكثر فأكثر ضمن المجموعة ويشكّل بالتالي نوع من التحيز الذي يقود بالتأكيد إلى المشكلة الأعظم والاصعب وهي العنصرية.
في بداية هذه العملية في مرحلة التصنيف الإجتماعي عندما نكون أكثر إدراكاً ووعياً عند مشاهدة الاخرين ووضعهم في إطار وتصوّر معين فإننا حينها لن نقع في الحكم على الأمور بإما هذا أو هذا ولن تستمر العملية بخطواتها الباقية وبالنهاية تأتي بنتائج وخيمة. أن تجد مجموعة تتفق معهم بنفس الاهتمامات هو أمرٌ جيد وطبيعي، ولكن عندما تتحول هذه الاهتمامات لمنافسة ضد مجموعة أخرى لا يشاركونك بنفس الاهتمامات، ويصبح هناك عداء وعنصرية بين المجموعات والإعتقاد بأنه من الصعب التعايش مع الآخر، هنا تكمن الخطورة فهي بالتأكيد ستهدد بنية المجتمع ككل وأمنه وسلامه.
إذاً، الآن ما هي الخطوات التي تساعد لتخطي الحكم المسبق السلبي حتى لا نقع في تسلسل الخطوات التي ذكرت سابقاً لتجنب النتائج السلبية؟. شاهد نفسك الوعي الذاتي للنفس من خلال مراقبة الأفكار والتصورات التي تنبثق فور لقاء شخص جديد ولفت النظر إلى المشاعر التي هي عامل من عوامل التحكم بالتفكير. إعمل وقوف مؤقت عندما تبدأ التصورات العقلية بالتصاعد ثم راجع أفكارك وابدأ بطرح الأسئلة على نفسك. اخلق للآخرين أعذار نعم، اخلق لكل شخص أمامك عُذراً. هناك الكثير من المواقف التي تمر بنا شبه يومياً في الحياة، نحكم على الآخرين بطريقة سلبية ولا نعي تماماً ما يخفي هؤلاء في نفسهم في الحقيقة! لذلك وقعوا بالفعل في الظلم بسبب أحكامنا السيئة. تغيير البشر ليس مهمتك في الأساس تقبل الآخر كما هم عليه، إنك لن تستطيع أن تجعل كل الأناس من حولك أن يرتدوا كملابسك وأن يتصرفوا ويتكلموا مثلك. لعلّ هذه الخطوات تمنعنا لحدٍ ما إطلاق الاحكام المسبقة على الآخرين وأن نكون أكثر تفهماً وإدراكاً للأفكار والمشاهدات فهي الأساس في الحد من هذه الظاهرة. هناك الكثير من الأشخاص الذين وقعوا ضحية الحكم المسبق واتخذوا قرارات ضرت بحياتهم. فيجب علينا أيضا الحذر من هذه الناحية.
جمان الحديد