المغالاة في تفضيل الحياة المادية القابلة للقياس بتفصيلاتها والتأكيد على أنها الأكثر أهمية لحياة أفضل جعلنا نتجاهل نداءات داخلية لا نفهمها. في عام 1931 انتشر الحديث عن الحلم الأمريكي الذي أعرب عنه جيمس تراسلو آدامز؛ بقدرة الناس على تحقيق “حياة أفضل وأكثر ثراء وسعادة”، حيث أن المجتمع الأمريكي تعامل مع الموضوع كمزيج من الخيال والمستقبل المبهم المترقب، ومع انتشار العولمة أصبح الموضوع رائجاً بشدة. همش الإنسان قدرا كبيرا من مشاعره وأثرها على نفسه وزعزع فيه القدرة على إيجاد فهم شامل لما يحدث. الكون والطاقات المحيطة بنا بطبيعتها تسعى نحو الإستقرار الكامل. سنة الله في مخلوقاته وطاقاتها لم تجعل الإنسان جزء منفصلا عما يحيط به من تراكيب ففي ثمانينات القرن الماضي حين بدأ الإنسان بمحاولة فهم المشاعر وربطها بفهم عصبي واعي كان سعيه الأول أن يعم السلام روحه ويطمئن. وكان سعيه الأكبر لفهم كيف يمكن أن ينتقل بحاجة فطرية لمبدأ التعلم كي يتسنى له فهم نفسه والآخرين.
في عام 1980 حاول العالم بولتشيك إيجاد مرجعية نفهم منها مشاعرنا وقام بتضمين المشاعر الأساسية التي يمر الإنسان بها في حياته وربط هذه المشاعر بالسلوكيات الأساسية التي يتصرف بها الإنسان وفقا لشعوره مع تضمين الجذور النفسية لكل شعور. قسم بولتشيك العجلة لقسمين أساسيين تضمن كل منهما ثلاثة مشاعر قابلها بمشاعر متعاكسة معها في الجزء الاخر. على مر السنين عرَف الإنسان السلام بمصطلحات كالإتزان، السكينة والطمأنينة وتعتبر بعض الثقافات السلام الداخلي نوع من الوعي أو التنوير. اختلف المفهوم تبعا للمنطقة الجغرافية وثقافات الشعوب لكن ما علينا أن نعيه جميعا أن السلام لا يعني البقاء في حالة من السعادة. عرف السلام أنه مفهوم التناغم المجتمعي في غياب العداء والعنف وعرف أنه عدم وجود نزاع نفسي والتحرر من المشاعر المقيدة للإنسان أو الجماعات. اكتساب السلام الداخلي للإنسان يساهم في فهم نفسه وانعكاس هذا الأثر على من حوله.
قسم بولتشيك الجذور النفسية للسلام لستة أقسام وهي الرضى، التهذيب، الحميمية، الثقة، الأمل والمحبة. حسب بولتشيك، تصرف الإنسان المحب الذي يشعر بالسلام له جذران هما السكينة والعطف. توصف السكينة بأنها شعور روحاني بالتكافل بين القيمة المادية الملموسة والمشاعر الغير ملموسة. عرفت الشعوب الحب منذ قديم الزمان وحاولوا ايجاد تعريف له في الأمثال الشعبية؛ فيرجل مثلا يقول “الحب ينتصر على الجميع” وفرقة البيتلز تقول أن “كل ما تحتاجه هو الحب” ويعرّف القديس توما الأكويني على غرار أرسطو الحب على أنه “إرادة خير شخص آخر”، وقال الفيلسوف جوتفريد ليبنيز أن الحب هو “أن يسعد بسعادة الآخر”. بينما يعرّف عالم الأحياء جيريمي جريفيث الحب بأنه “إيثار غير مشروط للذات”.
قد تنشأ المحبة لإنسان آخر أو ربما تنشأ لقيم في النفوس وأحيانا تنشأ لأشياء كالطبيعة وتفصيلات بسيطة. وقد تنشأ لمكان أو زمان. الإمتنان على الصعيد الآخر هو شعور بالتقدير يشعر به الشخص بايجابية مماثلة للتي أظهرها متلقي اللطف من الهدايا أو المساعدة أو الخدمات أو أي أنواع أخرى من الكرم تجاه مانح الهدايا. إن الإمتنان ببساطة هو تجلي التواضع والتقدير لما قد تم من ما سبق؛ فكل لطفٍ هدية وكل تقدير ورغبة الخير هو امتنان وحب وما يجمع بين كل هذا يؤدي بنا للطمأنينة التي هي السلام.
في أحد أيام نوفمبر الماطرة كنت أنتظر الحافلة لتقلني من أمام الجامعة في طريقي للمنزل. كان شعور الإستياء يهيمن علي فقد تأخرت الحافلة عن موعدها وهذا ردائي قد تبلل والرحلة العلمية المقررة قد تأجلت وما زاد الطين بلة حينها سقوط أوراقي في الوحل المبلل. كنت أقف في طابور الانتظار ولا أذكر أحدا فيه لم يكن يشتكي من تعثر حظه وسوء هذا اليوم. حين وصلت الحافلة كانت المشاعر السيئة تسيطر على المكان. أذكر ابتسامة السائق واعتذاره عن تأخره وأنه اضطر إلى مساعدة سائق آخر تعرض لحادث مروري وتنظيم السير كي لا يفع حادث آخر في هذا الجو. صعدنا إلى الحافلة والجميع يشتعل ويتنافر. قبل انطلاق الحافلة سأل السائق عن رغبتنا في سماع الموسيقى واقترح أحدهم واحدة.
بدأ السائق بالحديث بعد أن انتهت الأغنية عن أشياء لم نلحظها. كالمطر الغزير الذي طالما انتظرناه المحاصيل التي ستروى لعد أن جفت وعن النعم التي نمتلكها دون أن نشعر ثم بدأ بسرد الأخبار التي مرت على المدينة اليوم. لم ألحظ خبرا سيئا في كلامه، وبدأ بعدها بالتحدث عن المحال التجارية التي تقدم عروضا لليوم وعن الأصدقاء الذين استفادوا من عرض مقدم. اقتربت الحافلة وقتها لأول محطة ينزل فيها الطلبة. كان السائق يتبسم لكل طالب يغادر الحافلة، شيئا فشيئا بدأنا نشاركه الأحاديث ونبتسم. وصلت إلى المحطة التي سأنزل فيها والسعادة تملأ قلبي. يا إلهي ما الذي فعله هذا الرجل البسيط وعظم أثره! هذا الرجل مثال على الشخص الذي هذب السلام روحه فأكسبها معان لا ترى لكنها تحس، وهو دائم الحضور في ذهني؛ كان يستطيع الاستياء عن الحادث المروري أو حتى التجاوز عنه حتى. وكان يستطيع الصمت حين قدم إلينا لكنه لشعور ما في داخله تصرف عكس هذا تماما.
الحب والإمتنان مفهومان متأصلان في الفلسفة، الدين والعلم، ونجد أن كل من حاول فهمهم سعى لتعريفهم من منظوره. هي بالنهاية مجموعة مشاعر تلقائية يسعى الجميع لتحقيقها. الحب والإمتنان هما وسائل يهرب إليهما المرء حين يشعر بقصر الوقت، ويشعر أنه لا محالة إلى هلاك. تجده يخاف من كل ما في حياته ويتجلى بما يسمو به لشعور لم يعتده فيسعى لسلامه. قد وضع عالم النفس الشهير ماسلو ما يسمى بهرم الإحتياجات، حيث أكد على أهمية تلبية احتياجات الإنسان الأولية من طعام وشراب، قبل أن نصعد إلى درجة أعلى وهي تلبية احتياجاته العاطفية ورغباته في تأكيد ذاته. من هنا ربما تجاهلنا نداءاتنا الداخلية لنسعى في حياة نشبع بها ما نراه ولا نفهم ما نحسه.
بشتى الأحوال فإن ما نتفق عليه جميعاً أن الإنسان بكل ما فيه هو كيان ساعٍ للنجاة، باحث عن الطمأنينة لتحقيق الغاية، فإن كان العلم التجريبي غير مشروط الأثر بالتعلم فقد وجب علينا ممارسة فهم أنفسنا ومراجعتها وسعينا في إدراك الاحتياجات العامة والسلوكيات لا انتقادها، رغم اختلافنا كبشر إلا أن هناك ما نشترك به حميعا وهو كيف نشعر ولماذا نشعر. لا يمكن لقواعد معينة تأطير الجوانب الإدراكية لدينا ولا يمكننا رسم قواعد رياضية نخرج بها فهما واحدا لمواقفنا، لكن يمكننا التوقف دائما والتفكير بما حدث لنساعد أنفسنا ومن نحب. إن الفهم الحقييقي للشعور ينطوي عليه قيمة منع البنية المجتمعية من التفكك ومنع حالة عدم الإرتياح المجهولة الأسباب.
ختاماً، السعي للطمأنينة بجذورها هي عملية فطرية بنزعة بشرية لا إرادية منا، الأصل فينا تهذيبها وتنميتها وتعظيمها بأنفسنا لما لها من عظيم الأثر على الفرد والمجتمع. ابدأ بطفلك بتربيته على الشكر والإمتنان والحب وأثر الهدية والكلمة واللطف في نفسه أولا وعلى من حوله ثانيا. حين تصبح الأسرة قاعدة التربية لإنتاج أفراد قادرين على إخراج أجمل ما في المجتمع قد نتسامى يوماً لما يشبه “اليوتوبيا” أو المدينة الفاضلة، لتلك اللحظة ابدأ بنفسك وعائلتك ومن تحب.
مريم رمزي