لا شك أن هناك العديد من الأشخاص يتعرضون لكبح وتحكم من الآخرين؛ سواء تحكم الآخرين بقراراتهم، أو في توجيه سلوكاتهم، أو حتى بفرض آرائهم وإعطائهم الأوامر، وحتى لو تمادى الأمر من الممكن أن يتم التدخل في كل أمور حياتهم. في الكثير من الأحيان، نحن نتعرض للكبح والسيطرة من قبل أشخاص قد يكونون قريبين لنا، قد يكون أب، أم، أخ، أو أي فرد من العائلة. وفي أحيان أخرى، قد يكون مديرك في العمل أو أي شخص أخر ولكننا نجهل ذلك. إستغلال السلطة والسلم الوظيفي لإعطاء أوامر للعاملين هي كبح، وأيضا فرض الشخص سيطرته على الآخرين. حمل الناس على تغيير آرائها، أو حتى التدخل في أذواق الآخرين هي كبح. إستغلال الأفراد للقيام بأعمال غير مشروعة، توجيه التهديدات لهم، الترصد لهم وإخافتهم، السخرية منهم والتنمر عليهم، إبداء تعليقات لاذعة وساخرة، والإنتقاص من قيمة الآخرين بالاستخفاف بالفرد أو بإنجازاته واشعاره بأن كل ما يقوم به تافه وليس له قيمة، كل ذلك كبح للمشاعر وتربيط للفرد. يلجأ الكابح في بعض الأحيان إلى تشكيك الأفراد وزعزعة ثقتهم بأنفسهم. السعي الدائم إلى انتقاد الفرد وتجاهل حسناته، تهميش آراء الفرد وأفكاره، كبح ورفض أي شيء يقوله سواء كان حل لمشكلة أو اقتراح، هو كبح. ولكن، في الحقيقة، نحن من نكبح أنفسنا، ذلك أننا ننساق خلف أولئك الذين يكبحوننا، أو حتى لا نوقفهم عن حدهم ونبقى خائفين من الرد. وربما نشعر بالخجل عند اعترافنا أمام أنفسنا بأنه قد تم كبحنا ولا نعترف أن هناك مشكلة ويجب حلها قبل أن تتفاقم، وذلك قد يحفز الكابح على الإستمرار في كبحه لنا.
من وجهة نظر الضحية، المشهد يكون كالتالي تتعرض الضحية للكبح والتحكم، وذلك لضعف شخصية الضحية وعدم وجود إنجازات ملموسة له قد تزيد ثقته بنفسه، وعدم وضوح أهدافه. تكرار حديث المرء مع نفسه بعبارات سلبية مثل أنا فاشل، ولن أنجح، والتسليط المستمر للضوء على مواطن الضعف لديه فقط ونسيانه لمواطن القوة التي لديه والتي يجب أن يعززها ويراها في نفسه، وعدم الإيمان بقيمة ما يفعله. التعرّض للكبت في فترة الطفولة، وعدم إعطائه بعض الحقوق كإختيار الأصدقاء مثلا. استخدام أساليب سيّئة في التربية مثل الإستهزاء بالطفل، وضربه، والصراخ عليه، وتهميش رأيه وأفكاره، وتحجيمه، قد يؤدي بالشخص لفقدان ثقته بنفسه. بعد ذلك تصبح الضحية جاهزة ويأتي شخص يستغل ضعف الضحية ويهاجمها. سلوك هذا الشخص قد ينبع من ضعف شخصيته هو أيضا وشعوره بالنقص. قد يكون في صغره تم كبحه أو تحكم به أحد فأصبح يريد الإنتقام وإعادة تمثيل الدور على غيره. ونراه يتحكم بالضحية ويكبحها، والإستبداد، التسلط، التعسف، السطوة، السيطرة، والهيمنة كلها مصطلحات في قاموس الكابح.
ينتاب الشخص اللذي يتعرض للكبح والسيطرة والهيمنة من غيره مشاعر يأس إتجاه وضع الضعف الذي هو فيه. هناك شخص بالرغم عنه يتحكم به وهو لا يستطيع عمل شيء للأسف، وتنتابه الحيرة في كيفية التعامل مع هذا الكابح و التخلص من ظلمه واستبداده. يهيمن عليه في أحيان كثيرة الأرتباك من أي تصرف مفاجىء أو تخويف من الشخص الكابح. أيضا، يشعر الفرد بأنه عاجز، ضعيف، مغلوب على أمره مع وجود شخص أو أمر يحركه مثل دمية وهو ليس بيده حيلة. شعور الفرد بتحطم كيانه وانعدام أهميته ووزن شخصيته في حياته من جراء الكبح، وإرتباك الشخص وعدم قدرته على التركيز والسيطرة فيما يفعله، خصوصا عند وجود شخص يتحكم ويتدخل في عمله. يفجع الكثير من الأشخاص الذين يتعرضون للكبح بفاجعة الإكتئاب حيث ينطوي الفرد على نفسه ويصبح غير قادر على التفاعل مع أحداث مجتمعه، ذلك أن الفرديشعر بخنق الكابح له وتضييق حرية أفكاره وآرائه. ومع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، نرى أننا دخلنا في متاهة تضييع الذات وتضييع وقت من الممكن استثماره في أمور مفيدة مثل اكتشاف وتطوير الذات، واكتساب المهارات، الإبداع واكتشاف المواهب، وتوليد أفكار جديدة لمساعدة مجتمعاتنا.
في الحقيقة تظهر العديد من الدراسات زيادة معدل الساعات التي يقضيها الفرد على وسائل التواصل الإجتماعي. باالإضاف إلى ملاحظة دارسي الصحة والإرشاد النفسي دخول الفرد في إدمانه على الجلوس على الإنترنت واستحواذ شبكات التواصل على حياته وتفكيره وسلوكياته، بل وحتى وقته. ربما هذه قد صممت لتكون مفيدة في تيسير التواصل الإجتماعي بين الأفراد، ولكن أنا من منظوري لا أرى ذلك الشيء. دعونا نقيس هذا الشيء على محيط الأسرة، كم من أسر الآن مع أنها تجلس مع بعضها البعض في غرفة واحدة، لكن ترى كل فرد منهم يجلس على هاتفه ويتصفح وسائل التواصل الإجتماعي لساعات بدلا من أن يتواصل مع أسرته التي تجلس معه في نفس الغرفة؟!.
شبكات التواصل الإجتماعي تكبحنا وتهيمن وتسيطر علينا دون وعينا بذلك، إذ نقضي معظم أوقاتنا في متابعة منشوراتنا ومنشورات غيرنا، وأصبح جل إهتمامنا رؤية من تفاعل مع منشوراتنا، قام بعمل إعجاب أو عدم إعجاب، واهتمامنا بكم شخص شاهد الفيديوهات التي قمنا بتحميلها ومشاركتها، وكم شخص قام بعمل إشتراك في قنوات اليوتيوب الخاصة بنا، حتى اهتمامنا كم شخص قام بمشاركة منشوراتنا، ودخولنا المستمر لرؤية كم شخص شاهد القصة الخاصة بنا. مع ملاحظة زيادة المقارنات الإجتماعية بين الأفراد والتي قد يكون لها تأثير سلبيا على سلوكياتنا، ورضانا، وسعادتنا، وحتى قرارتنا.
ألا تشعر أن هذا كثير؟، أن هذا يكبحنا؟، يسيطر ويشغل تفكيرنا؟، أن هذا يهيمن ويسطو على وقتنا حينما نجلس لساعات وساعات على شبكات التواصل الإجتماعي؟ ألا نشعر باليأس من وضعنا هذا؟ ألا نشعر بأن وقتنا يذهب سدى في متابعة هذه الأمور؟، ألا تشعر أنك ضعيف ومغلوب على أمرك، وقتك سيفا قد قطعك!؟. ألا نشعر بأوقات عصيبة مليئة بالحيرة والضياع؟؛ مثلا، نكون منهمكين بإنجاز أعمالنا، وفجأة يأتينا أعجاب ما على منشور قد نشرناه، إذ تتشوش وتتوقف أعمالنا، لرؤية من وضع الإعجاب، وننسى الى أين وصلنا في سير العمل، هل هذا منطقي؟ كم من المرات شعرنا بالإرتباك عند قراءة تعليق لم يعجبنا؟ كم من المرات يستخدم البعض هذه الشبكات في السخرية من شخص ما أو التنمر عليه؟، أو حتى إبتزازه لكبحه وأفقاده ثقته بنفسه؟ وصلنا الى مرحلة خطيرة أصبحنا فيها خاضعين، مذعنين، مستسلمين ومسلمين أنفسنا، لإعجاب، لعدم أعجاب، لتعليق، لمشاركة، والتي يمكن أن تقلب مزاج الفرد بأكمله وتقلقه. بصورة تشبيهة بسيطة، أصبحنا دمية مقيدة بخيوط تحركنا شبكات التواصل هذه، ولا حيلة لنا.
وثائقي المعضلة الإجتماعية
نشرت الجزيرة مقالا تتحدث فيه عن فيلم المعضلة الإجتماعية، وتحفز الأفراد على مشاهدته، اذ هو فيلم درامي وثائقي أنتج في 2020، ومن إخراج جيف أورلوفسكي، أبطاله جميع من يستخدم منصات التواصل الأجتماعي؛ أنا وأنت والعائلة والأصدقاء المقربون. يخاطب هذا الفيلم مستخدموا منصات التواصل الإجتماعي، ويحذرهم من الوقوع في فخ الأدمان على تلك المنصات، وعدم قدرتهم على الإستغناء عنها. يوضح الفيلم أننا سلعة أساسية، وأن الشركات لا تحصل على أرباحها لقاء بيع المنتجات والإعلانات مباشرة فقط، بل عبر بيع المستخدمين أنفسهم، أو بمعنى أدق بياناتهم والمعلومات التي يجمعونها عنهم، وهو ما لا يحدث بصورة صريحة. كما يسلط الفيلم الضوء على وجود خوارزميات الذكاء الإصطناعي حيث يستطيع التقنيون والأنظمة المستخدمة استغلال المعلومات وليست تلك التي يسجلها الشخص عن نفسه فقط، بل المستنتجة من النمط الذي يتبعه لتصرفاته واختيارات ما يعجبه أيضا، وذلك لجذب انتباهه وإجباره على المتابعة إلى حد إدمان التواجد واستخدام الخدمات. أمر آخر كشفه الفيلم، وهو تعمد الشركات السماح بترويج الإشاعات والمعلومات المغلوطة بعد أن وجدوا ذلك جالبا للربح ربما أكثر من الإعلانات نفسها. الأخبار الكاذبة تنتشر أسرع، وهو ما يمكن استغلاله سواء للإستفادة منه اقتصاديا أو سياسيا. في النهاية يحاول الفيلم إيجاد حل أو على الأقل توعية المهووسين بتلك المنصات بالضرر البالغ الذي تحدثه في حياتهم، إيمانا منهم بأن التغيير لن ينتج، إلا إذا حدث ضغط جماهيري يهدد المكاسب المادية الطائلة التي يجنيها أصحاب تلك الشركات.
نحتاج لأشخاص تحمل خبرات وكفاءات، للتعامل مع هذه المشكلة ذات الأبعاد النفسية والإجتماعية العميقة والتي ستبقى تواجه مجتمع شبكات التواصل الإجتماعي بشكل مستمر وستتطور مع كل إضافة او استحداث لمنصة جديدة. حديثا ظهرت العديد من التخصصات التي تدرس نفسية مستخدمي منصات التواصل الإجتماعي وسلوكياتهم ومنها تخصص علم نفس الإنترنت شاملا بذلك جميع وسائل التواصل الإجتماعي، ويطلق عليه في أحيان علم نفس الفضاء الإلكتروني أو علم نفس الشبكة العنكبوتية. هو مجال يشمل دراسة جميع حالات النفس التي تنشأ عند التعامل مع التكنولوجيا. أيضا يبحث في تحليل ودراسة العقل والسلوك البشري؛ كون وجود إطار التفاعل البشري والإتصال بين الإنسان والآلة. حاليا تطور التخصص ليشمل دراسة قطاعي: الذكاء الإصطناعي والواقع الإفتراضي، ولا زال مجال علم نفس الإنترنت يفاجئنا بقابليته للتحسين والتطور المستمر؛ إذ حاليا يبحث في ارتباط الأمراض النفسية الحالية والمستقبلية بالتقدم التكنولوجي.
يتطلب هذا التخصص مهارات محترفة من قبل مطبقيه ودارسيه، مهارات مهمة في تخصص نفس الأنترنت. ويتطلب مهارات تحليلية عالية في فهم دواعي سلوكيات الأفراد ونفسياتهم وفهم كل نقرة ينقرها على جهازه الحاسوب، فهم إعجابه أو عدم إعجابه على منشور أو صورة معينة. وامتلاكه مهارات ربط واستنتاج قوية لفهم ترتيب وتسلسل الفرد في طرحه لمنشوراته؛ اذ أن هذا التسلسل يكون إما بهدف تأكيد فكرة وإحكامها في عقول الأفراد، أو منشور يكمل فكرة منشور قبله، وبالتالي يصبح الفرد هنا عالق ومسيطرة عليه مشاعر الحيرة، ما المنشور التالي. أيضا حضور مهارات الإبتكار والإبداع، التي سيحتاجها في جوانب كثيرة ومشاركة منشور يحمل فكرة معينة، وإرفاق معه فيديو يناقض هذا المنشور، بغرض جذب إنتباه مستخدمي منصات التواصل الإجتماعي. وعلى الجانب الآخر، يدرس دارسي هذا التخصص نفسيات وشخصيات الأفراد؛ اذ عليه تتبع أفعال الأفراد ومراقبة سلوكياتهم عبر منصات التواصل الإجتماعي سواء إعجاب أو عدم إعجاب على منشورات الفيسبوك، مقاطع اليوتيوب الأكثر مشاهدة، الأقل مشاهدة لكي يكون لديه تصور عن سلوكيات الأفراد وفهم طبيعتهم النفسية. كلها أمور تساعد باحثي هذا التخصص في أجراء أبحاثهم التي تتمحور حول انعكاسات نفس الفرد أثناء مغامرته في رحلة التواصل الرقمي الإجتماعي.
سلام عثمان