كثيراً ما نظن أنه عندما نخفي ما بذواتنا عن الآخرين، سنشعر براحة نفسية تغمرنا إلا أن العكس صحيح. يسهم إخفاء الذات بصورة جليّة واستثنائية في التنبؤ بالقلق والإكتئاب والأعراض الجسدية. درست الأبحاث اللّاحقة آثار إخفاء الذات على الرفاه الذاتي والمجاراة ووجدت أن الإكثار من إخفاء الذات مرتبط بالضيق النفسي والأعراض الجسدية المُبلغ عنها ذاتيًا، والقلق، والإكتئاب، والخجل، وتقدير الذات السلبي، والشعور بالوحدة، والإجترار، وسمة القلق الإجتماعي، والقلق الإجتماعي، وإنكار الذات، والتناقض الوجداني في التعابير الشعورية، وتعديل المزاج غير المتأقلم، والألم الحاد والمزمن. إن الأفراد الذين يعانون من مشاعر الدونية المتزايدة لديهم نزعة أعلى نحو إخفاء الذات، ما يؤدي بدوره إلى زيادة الشعور بالوحدة وغياب السعادة. يعرف كبح الذات على أنه إخفاء الذات أو كتمان الذات. هو حالة نفسية تعرّف على أنها ميل شعوري فعّال لإخفاء معلومات عن الآخرين يدرك المرء أنها حزينة أو سلبية.
يُصنّف كتمان مشاعرنا الداخلية (الأفكار، أو الأحاسيس، أو النشاطات، أو الأحداث) ضمن مفهوم التكافؤ على أنه سلبي، وله ثلاث ميّزات، مجموعة فرعية من المعلومات الشخصية، وأخرى يمكن الوصول إليها بإدراكنا، وأخرى نخفيها عن الآخرين. لإخفاء ما بذاتنا دور سلبي على صحتنا النفسية. عندما تحاول السيطرة على ذاتك كثيرا، غالبا سيتملكك الشعور بالحيرة والإضطراب النفسي، السيطرة على الذات ليست سهلة؛ لأنها تحتاج الكثير من الطاقة المبذولة وتوخي الحذر الشديد من الآخرين. عندما نخفي ونكتم أسرارنا نحن في الواقع نتألم، لإخفاءنا معلوماتنا الشخصية وهذا مزعج و سلبي. تنشط مستويات عالية من دوافع إخفاء الذّات لمجموعة من السّلوكيات محدّدة الأهداف على سبيل المثال؛ كتم الأسرار، وتفادي السّلوكيات والكذب. واستراتيجيات غير فعّالة للتنظيم الإنفعالي تعمل على إخفاء المعلومات، الشّخصيّة السّلبية والمحزنة.
يصاحب إخفاء الذات جلد الذات، أي التقليل من الشأن وعدم التوقف عن لوم النفس. لإيضاح المعنى سأحكي لكم قصة قد تكون قريبة من الواقع. في وقت ليس ببعيد عاشت شابة جميلة أيامها كما يعيش الجميع، يوم يتبعه يوم آخر كما لو كانت الأيام مطلية بلون واحد فقط، تمضي الأيام وهي غارقة في العمل أحياناً. وأحيانا أخرى عاجزة عن فعل أي شيء نتيجة للألم والحزن والإحباط. الأيام تتوالى على اختلافها يجمعها شيء مشترك يظهر في خلفية المشهد كموسيقى عازف بيانو حزين، يبث آلامه عبر نغمات موسيقية حالمة. إلى جانب هذا العزف سمعت صوتاً يهمس حيناً ويزمجر غضباً حيناً آخر، يشدو ساعة كعصفور مع موسيقاه، ويضرب بالسيف في معظم الأحيان. صوت أليم يلاحقها صباحاً ومساءً حتى وإن خفتت الأصوات وأظلمت السماء ظل صاحبه متيقظاً كأنه لا يعرف النوم. لا يعجزه زحام العالم أو يملّ من وحدته معها، لا يكترث بانشغالها في شيء ما أو يعبأ بأحوالها. حاضر دائماً كموسيقى خلفية تُدار بالتوازي مع مشاهد الحياة المكررة، كل يوم تسأل نفسها من أين يأتي هذا الصوت وكيف عرف طريقه إليّ؟
صوت يعبر صداه السكون كقرع الطبول، ظنت أنها أصيبت بالجنون فهي تسمع أصواتاً لا يسمعها أحد حتى وإن حاولت أن تشرح لمن يكترثون لأمرها. كانت تجد منهم صداً وعزوفاً كأنها تحكي عن شيء خيالي، فقررت أن تختار الصمت، أن تستسلم له، أو أن تدعي الإستسلام لعلها بذلك تمثل له خضوعاً مزيفاً يُسهّل عليها اكتشافه. ظلت أياماً طويلة تسمعه، حتى اتخذته رفيقاً مقرباً أنساها أنها حين بدأت كانت تريد أن تعرف ماهيته، غرقت في أكاذيبه، لم تكتشف أن قسوته مبالغ فيها، وأن رحمته هي أقرب ما يكون من غيرها أبعد ما يكون عنها. ذلك الجلاد الذي سيطر على أيامها دون أي إرادة منها، يسلب منها القوة والإرادة شيئاً فشيئاً. تفقد الشباب والرونق فتصبح بعمر الستين، وتعجز عن حب الحياة، عن حب نفسها قبل كل شيء آخر، إنه صوتك الذي سيمنعك دائماً، مستخدماً أشد الأسلحة إذا حاولت أن تثبت لنفسك أنها تستحق الحب.
صوتك الداخلي: جلاد أم صديق؟
جلد الذات هو مرض نفسي يتسم بمبالغة الشخص في القسوة على نفسه ولومها على سلوكيات سليمة، لكنه يبالغ في تضخيم أخطائه في نظر صاحبها، نتيجة للإفراط في التقليل من النفس والشعور بالدونية بسبب تعرّض الإنسان لمواقف حياتية مختلفة وعلاقات مؤذية أدت إلى صورة ذاتية مشوّهة. يصبح لدى الشخص دوافع تجعله يفرط في إيذاء نفسه وتعذيبها في محاولة فاشلة منه لتصحيح سلوكها وتقويمه دون حاجة فعلية لذلك. إلا أن هناك اعتقاداً شائعاً بين كثير من الناس أن الإنسان يجب أن يستخدم الشدة إذا ما تعامل مع نفسه، ذلك نتيجة لتصور خاطئ أن نجاح الإنسان في حياته وتحقيقه لأهدافه يتناسب مع تطبيقه الحزم مع ذاته. هذا مثال واضح لاختلاط مفهوم الإلتزام والإنضباط مع مفهوم جلد الذات، هل يحتاج الإنسان أن يكون رقيباً على نفسه إلى حد القسوة كما لو أنها ستبالغ في الوقوع في الخطأ أو أنها مجبولة على الفساد؟
أرى أن البعض يبالغون في الرفق إذا ما كانوا في موضع من يقدم النصيحة والعون لأحدهم، يسمع ويتفهم، يرحم إذا لزم الأمر ويلتمس الأعذار. لكن كيف إذا كانت الضحية هي نفسك؟ تلك التي تتألم لحادثة ما أو تتعافى من موقف سيئ ألمّ بها. كيف يسيطر الشك على نفس الإنسان حتى يشك في ذاته التي هي نفسه شكاً قاسياً يدفعه للوقوف معها بالمرصاد، هل تهون الحياة وتحلو في ظروف تعظم المعصية وتعمى عما في الإنسان من خير؟
المبالغة في إيذاء النفس جريمة في حق الذات
يظن البعض أن إيذاء النفس قد يخفف من حدة شعوره بالذنب. لكن هل يعرف الإنسان حقاً متى يجب عليه أن يشعر بالذنب من شيء ما أم يختلط عليه الأمر ويصبح أبسط الأشياء ذنباً بشعاً لا يغتفر؟. يغفر الله لعباده إذا أذنبوا، تُفتح أبوابه دائماً بالرحمة والسعة والمغفرة بينما يقف الإنسان عاجزاً مع نفسه لا يقدر على أن يستوعب ضعفها الإنساني الطبيعي. البشر يخطئون بشكل طبيعي لأنهم لم يخلقوا ليتصفوا بالكمال ولكن حينما يتوقع أحدهم الكمال من نفسه يصبح كل شيء وأي شيء جريمة تستحق العقاب وكأنه يغسل نفسه من الذنب أو يكفر عن أخطائه في صورة يصبح فيها الجاني والمجني عليه شخصين في جسد واحد. تعظيم الخطأ وتضخيمه قد لا يقتصر على الإيذاء المعنوي الذي يهدم الصحة النفسية للإنسان ولكن في بعض الظروف قد يقدم الشخص على أن يتسبب في إيذاء نفسه مادياً بأساليب مختلفة إرضاءً للصوت الذي بداخله الذي يخبره أنه يستحق ما يقع عليه من سوء دائماً وفي كل الظروف ويمنعه من دخول أي باب يسمح له بالرفق مع نفسه.
من أين جاء هذا الصوت؟
يشترك معظم الناس الذين يعانون من هذا المرض النفسي في أنهم تعرّضوا للإيذاء من قبل شخص آخر، كأن يكونوا ضحية للوالدين. الكثير منا يتعرف على المفهوم الأول للعقاب في فترة الطفولة وتتبعها فترة المراهقة، حيث يكون العقاب نتيجة يحصل عليها الطفل من الوالدين أو المدرسة أو المجتمع إذا قام بشيء مخالف لما هو متعارف عليه في الأخلاقيات العامة. هو بهدف الإرتقاء بسلوك الطفل وإنشاء روابط ذهنية بين السلوك السيء والحصول على العقاب. قد يكون هذا الأسلوب جيداً في مواضع معينة إلا أنه يتسبب في ألم وأذى نفسي يتراكم في نفسية الطفل حتى يظل معه بقية حياته. عندما ينتظر الأبوان الكمال من طفلهما، أو يبالغان في القسوة والشدة بدافع التربية على الإلتزام وتقويم السلوك ينتج عن هذه الصور إفراط في استخدام العقاب فيصبح نتيجة لأي تصرف حتى وإن كان تصرفاً بسيطاً لا يستحق المبالغة في رد الفعل. حتى تنعكس المشكلات النفسية التي يعاني منها الأب والأم بسوء تصرفهما على نفسية الطفل لينشأ ضعيفاً هشّاً يسعى بكل ما يملك من قوة لكي يكون طفلاً جيداً في نظرة الأبوين غير السوية، لأنه لا يحصل على الحب والاهتمام إلا إذا فعل سلوكاً جيداً بينما يلقى عقاباً قاسياً شديداً إذا خالفت تصرفاته ما ينتظره الوالدان والمجتمع.
ماذا تسمع من نفسك؟
إنه صوت تسمعه الآن بينما تقرأ هذه الكلمات، هل يخبرك أنك تستحق العطف والحب دائماً وأبداً وكل يوم؟ أم يبحث عنهم في الآخرين. ينتظر أن يرى انعكاس صورته في عين أحدهم ليدرك أنها تلمع وتستحق، أو أن يقع فريسة لمرآة مشوّهة تعكس ذاته بحقد وقسوة فتدمر ما تبقى من تقديره لنفسه. هل الإنعكاسات دائماً ما تقدم نفعاً أم أن الإنسان يحتاج لأن يكون له مرآة خاصة لا يتحكم أحد في انعكاسها أو يسيطر عليها. أن تكون حيادية مخلصة لصاحبها في المقام الأول قبل أن تكترث لآراء الجميع. قد يتأثر صوتك فيسمع أصواتاً قاسية تخبره من يكون، أصواتاً لا يهمها ما تعيشه أنت كل يوم نتيجة للظلام الذي يفرضه هذا الصوت على روحك وعالمك دون أي رحمة. إنه يجب أن يكون انعكاساً لك أنت وحدك دون أي شروط، أن تصدق نفسك وتحبها في جميع الإحتمالات.
لماذا يجب أن تحب نفسك؟
قال أحدهم إن ما تراه من نفسك تنعكس صورته أمام الآخرين. أتمسك دائماً بهذا الاعتقاد رغم صعوبة تفسير السبب الذي يؤدي إلى حدوثه، إلا أنه عندما تقّدم حباً خالصاً لنفسك وهي الأجدر بالحب، ينعكس عليك وعلى حياتك بأكملها. قد تظن أن محبتك لنفسك قد تفسدها، إلا أن تشجيعك لنفسك ومحاولتك الدائمة لدفعها نحو ما تحبّ هي السبب الأول والأهم لتحيا حياة طيبة. كيف تنتظر من الآخرين حباً وتعاطفاً وتشجيعاً تظن أنك لا تستحقه؟. كيف تقدمهم للآخرين بقلب صادق وأنت تبخل على نفسك بالكلمة الطيبة؟ حتى إن كنت أسوأ شخص على هذه الأرض وهو افتراض غير قابل للحدوث إلا أن الإنسان يستحق أن يحب نفسه على كل حال من الأحوال. أن تظل قيمته ثابتة راكزة مهما حدث ومهما انتهت به الطرق إلى الفشل. يظل إنساناً مكرماً له قيمة، لا تستسلم لصوتك ولا تركز على عيوبك فالجميع لديهم عيوب وكل يشغله تقويم عيبه لا أن يلتفت إلى نواقصك، أجبرْ صوتك على أن يتحدث بلغة واعية جديدة يوماً بعد يوم. ستستيقظ في يوم ما لتفاجأ بأن ذلك الصوت اختفى وجاء محله صوت رفيق يحبك وتحبه في خلفيته لحن موسيقاك الداخلية التي ستصبح عزفاً يُقدم على الحياة.
نوال مسعود