يعد الإنسان لغز محيرا ويصعب علينا حل هذا اللغز أو القبض علية، فالإنسان كائن مركب ومتعدد الجوانب، ولعل أكبر ما يميز وضعه عن غيرة، هو كونة مفارقا بإمتياز، فعندما يلقى في الوجود يجد نفسه بين برزخ المتناقضات، فإذا كان هو ذلك الضعيف المهدد بالموت دائما فهو ذلك القوى المجابه للموت، وإذا كان خيرا طيبا كان ذو نازع ملائكي، وإذا كان شرير وسفاك للدماء كان ذو نازع شيطاني، وإذا كان فردانيا عاشقة لـتميز والتفرد والاستقلال فهو جمعاني يحمل في جوفه المجتمع كلة ولن يستطيع الحراك دونه حتى لو قيد، إذا يصعب علينا وضع الإنسان في إطار محدد فهو نقيض، بالاضافة الى ذلك نجد أن الانسان خلال مساره الحياتي يخضع للعديد من الاكراهات، لكن في نفس الوقت هو المجابة للظروف غير مستسلم لها والقادر على تجاوزها. ولكن بفضل ما لديه من وعي وتفكير، يجعلها أكثر تميزا مقارنة بالكائنات الأخرى. وهو ما قاله العالم ” بليز باسكال” بأفضل تعبير عندما قال: “ما الإنسان إلا عود قصب، أضعف عود في الطبيعة، ولكنه عود مفكر”. لكن علينا توضيح بعض المفارقات المهمة الحتمية والحرية وتوضيح ملامح كل منهما، فـ الحتمية هي الإكراه، فكل ما يشترط في حياة الإنسان يدخل في مجال الضروريات والحتميات، فعندما أقول أن هذا الأمر مجتمع على، أي انه مفروض ولا أستطيع تغيير أي شيء فيه، فلا أستطيع تخطية، لتوضيح الفكرة أكثر نأخذ مثال النحلة، فالنحلة تصنع خلية سداسية الشكل ولن تقدر على صنع شكل ثماني مثلا، فالأمر ليس أمرها بل هو أمر الغريزة والفطرة، فهي منزوعة الحرية وما تفعلة ليس من ملء خاطرها بل من الطبيعة. الإنسان العكس لا يسلم لهذه الضروريات التى تمنع من حركته أو من إتخاذ قراراته، لكن من الممكن تحديد الإكراهات و الحتميات التي يجب يجلبها الإنسان في حياته وهي كالتالي:
- الحتمية الوجودية: وهي تتمثل في عدم إختيار القدوم إلى الوجود، فإننا مقذوفين بطريقة لا إرادية، ونغادر الحياة بعد الموت، فعليا نحن محاصرون بين بين غيب قبلي أي ما قبل الولادة وغيب بعدي أي ما بعد الموت.
- حتمية بيولوجية: أي أن كل من اللون والبشرة والطول واللون والصوت والأمراض الوراثية، كلها أمور مفروضة من طرف الشيفرة الوراثية DNA، فإننا محكومين به.
- حتمية سيكولوجية: تتشكل لدى الطفل من مؤثر خارجي، من والدية ومن المجتمع الذي حوله، فهي رواسب مدفونه، تصبح بمثابة الخزان اللاشعوري الذي يتحكم بالشخص عندما يكبر بشكل خفي ولا شعوري، وربما تكون هذه الرواسب تكون على شكل ايجابي أو بشكل سلبي.
- حتمية اجتماعية: بأن يولد الإنسان ويجد نفسة محاط في مجتمع لم يختر، هذا المجتمع له ثقافته وبتالي سوف يتشربها و يدمجها في كيانه دون خياره، فعندما يكبر يجد نفسة بلغة ودين وعادات وتقاليد مترسخة متغلغلة في أعماقه ولن يستطيع الخروج منها، فالمجتمع هو عبارة عن قالب تم صهره ينا ونحن صغار، وقد تناولت في مقالي السابق “وهم العالم ” بأن الإنسان يتشكل معه قناع والذي ورثه من المجتمع ويصعب عليه التخلص منه بسهولة فهو الذي يتحكم في قراراتنا.
- الحتمية الإقتصادية والسياسية: ربما قد يولد الشخص في أسرة غنية أو فقير، وأيضا يولد في مجتمع في نظام ديكتاتوري، أو مجتمع فيه حكم ديمقراطي.
إذا الحرية هي القدرة على الإختيار بين البدائل والإمكانات، والتصرف دون موانع أو قيود، فكلمة التحرر أي التحرر من الحتميات، فعلى الرغم من كون الإنسان يعيش ضمن مجموعة من الحتميات كما وضحنا أعلاه، فهو تحديدا عكس الحيوان، فالإنسان يظهر عناد منقطع النظير اتجاه الأمور، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يقول” لا” للظروف ويجابهها ويتصدى للحتميات بإستمرار التى لا يقدر عليه بقية الحيوانات مثلا في الحتمية البيولوجية هناك: المجابهة بالطب، وعمليات التجميل..الخ، الحتمية الاقتصادية كم من الأفراد خرجوا من الفقر الى الغنى. ولكن نستنتج مما سبق أن الإنسان يتأرجح بين الحرية والحتمية، فهذا قاد العلماء ويقودنا نحن أيضا الى أن الإنسان يعيش حتمية مطلقة، وذلك حسب العالم اسبينوزا .
إذا لا نستطيع الخروج عن اّلة الطبيعة الخاضعة للقانون والسببية، فهذا العالم لا شىء يتحرك بإرادته، بل يتحرك بفعل خارجي ربما نجهله، الاعتقاد بالحرية حسب العلماء هو مجرد وهم، فالطفل مثلا يعتقد بأنه يشتهي الحليب بحرية، والسكير أيضا يظن أنه يقوم بقرار حر منه والامر كذلك للذي يتحدث كثير، البعض الآخر يرون ويعتقدون بأنهم يتصرفون بحريتهم و بوعيهم، وانهم لا يخضعون لاي إكراه، لكن هم مسيرون بقوى إجبارية إذا لا يوجد إرادة تسلك من تلقاء نفسها. لكن يبقى دائما هناك أمل للـتحرر من الحتمية إذا تم إدراكها ومعرفتها، إذا أي اننا نستطيع ضبط الامور في حال تمكنا من معرفة الأسباب بالتلي نستطيع التحكم والتوجيه، دعونا نوضح الفكرة أكثر بمثال كالتالي: لنتخيل شخص مريض بالسكري وهو يجهل بأنه مريض، إذا المرض سوف يعبث به ويتحكم في مسار حياته ولكن بمجرد أنه إكتشف المرض والعلة سيبدأ بالعلاج وأخذ الأنسولين ومن ثم التحكم بالمرض فـ التحكم هنا هو حرية، اذا هو تحرر وتحكم في الطبيعة.
لنتحدث قليلا عن وجهة نظر العالم سارتر، وهو يعد أحد المدافعين عن فكرة كون الإنسان كائن حر له الحرية المطلقة، فالإنسان هو مهندس مشروع حياته. فهو يعتقد بأن الإنسان قادر على تجاوز الحتميات المحيطة به. فالذات خلقت لتكون حرة فهي قادرة على صنع لنفسها وضعا جديدا في كل مره، فـ ماهية الإنسان ليست ثابتة ومنتهية فهي تصنع وتتغير بالتدريج، وبالتالي نستطيع فهم العبارة التالية بأن ” الوجود سابق على الماهية” فمثلا عندما أولد لا أمتلك ماهيتي بل أقوم بصناعتها، فوجود الفرد هو مشروع بحد ذاته وينتهي فقط عند الموت، فالفرد يصنع ذاته بإستمرار.
الحتمية والسلام
الحتمية والإرادة الحرة: يقال أنه من الحماقة تكرار الشىء ذاته أكثر من مرة وتوقع نتائج مختلفة، لكن هل يمكننا توقع نتائج كل شىء، وهل يمكن أن يؤذي السبب ذاته الى نتائج مختلفة لا تحكمها إلا الصدفة، معظم الفيزيائيين من نيوتن الى اينشتاين يرفضون ذلك، فمن وجة نظرهم أن كل سبب يؤدي إلى نتيجة واحدة محددة مسبقا من قبل قوانين الطبيعة التى تحكم الكون حكما مطلقا، فأما الصدفة والاحتمالات فلا لها دور في الطبيعة كمال قال عنها اينشتاين في مقولته الشهيرة ” الله لا يلعب النرد في الكون”.
لكن اّمن العديد من العلماء أمثال نيوتن واينشتاين بأن الكون يعمل تماما مثل الساعة، أي بقوانين محددة ودقيقة جدا وما علينا سوى اكتشاف هذه القوانين حتى نستطيع التنبؤ بالمستقبل تنبؤا” دقيق ويطلع على هذا الاعتقاد الحتمية السببية، وهو “الاعتقاد بأننا نستطيع إستنتاج المستقبل بالاعتماد الكامل على الحاضر وقوانين الطبيعة”. ربما نتسائل هل هو فعلا مهم جدا في حياتنا اليومية فهو يتعلق المسؤولية الأخلاقية، فهل يجب أن نعاقب المجرم إذ لم يكن الجرم الذي ارتكبه نابعا من إرادته، هي نتيجة حتمية لقوانين الطبيعة؟ هل أيضا يمكننا تفادي قرار خاطىء اتخذته في الماضي أو ان هذا الخطأ محتوم. لكن كل هذه الحتميات الموجودة في حياتنا والعنف والقتل والحروب والنزاعات والكراهية ما هي إلا سبب للوصول إلى حتمية السلام.
أحمد أبو حميد