المرأة البيضاء التي انتصرت للأغلبية من ذوات البشرة الداكنة

المرأة البيضاء التي انتصرت للأغلبية من ذوات البشرة الداكنة

“العنصرية”… “أينما عشتم وفي أي عصركان ذلك، إن حفرتم عميقا في التراب، لوجدتم القليل من الحقيقة العائدة لهذه الحقبة”.

كانت هذه العبارة بمثابة منارة لنادين غورديمير في طريقها لمناهضة نظام الفصل العنصري الذي كان سائدا في جنوب إفريقيا و من خلال الكتابة ، بدأت غورديمير تخط كلماتها عندما كانت طفلة ذات تسع سنوات على إثر حادثة مداهمة الشرطة لعائلة خادمتها السوداء وقد لمست رضى أهلها ذوي البشرة البيضاء عن هذا الظلم… كان رضى أهلها غريبا على فطرتها أما هي فكانت واقعية ومنطقية جدا فكيف يحابى إنسان على غيره بسبب اللون!

لم تكن مسيرة غورديمير سهلة فمنعت الحكومة نشر عدد من مؤلفاتها ومنها (إبنة بيرغر) التي تحدثت فيها عن أحداث مذبحة سويتو وتم رفع الحظر عنها لاحقا، حظيت غورديمير وبسبب نضالها بإحترام وتقدير الأفارقة حيث يلقبها البعض ب(والدتنا) سعت جاهدة لنشر أعمال الكتاب السود والدفاع عن حقوقهم كما كانت قريبة من المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، كانت دائمة البحث عمن يشبهها من الكتاب فتأثرت بنجيب محفوظ فكتبت عنه في (الكتابة والوجود) وعن عاموس عوز وأتشيبي “لقد ذهب هؤلاء الثلاثة إلى مكان بعيد جدا يتخطى كل القواعد المعتادة تجاه الأنظمة والقوانين السياسية لبلادهم التي نقبوا أرضهم بأقدامهم الحافية بجلد جلودهم”.

عاصرت نادين غورديمير نظام الأبارتايد وهو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء جنوب إفريقيا من عام 1984وحتى زواله عام 1993وعلى حسب قوانين الأبارتايد تم تقسيم الأفراد إلى مجموعات عرقية حسب اللون مثلا السود والبيض وهكذا منع الأفراد من الإقتراع وتم فصل الخدمات المختلفة عنهم كالتعليم والصحة وكانت الخدمات المخصصة للسود سيئة جدا.

إستمرت بنضالها وعلى طريقتها الخاصة “الكتابة” حصلت على عدة جوائز كجائزة نوبل في الآداب عام1991 كما حصلت قبلها على جائزة جيمزتيت بلاك التذكارية عن رواية ضيف شرف عام 1970. ناضلت غورديمير من أجل قضية قديمة جديدة حيث يذكر بأن العنصرية بدأت منذ قرون خلت وتحديدا عندما غزت جماعات البدو الناطقة بالهندية الأوروبية الهند والتي تعود أصولها للآرية وقد عملت على إنشاء نظام الطبقات وهو نظام نخبوي تم فصل الغزاة عن السكان الأصليين وإنتهجو سياسة التفرقة العنصرية وفرضوا الزواج العنصري وقيد على إثره السكان الأصليين بمهن محددة، كما أن النازية في ألمانيا من أوائل من مارسوا العنصرية فحظروا الزواج من خارج العرق الآري ضد اليهود الألمان.

إرتبط مصطلح العنصرية بمصطلحات أخرى مشابهة له أو مضادة ومن هذه المصطلحات مصطلح خطاب الكراهية الذي يعني إستخدام عبارات تحريضية لتأييد الضرر بأشكاله (العنف والتمييز والعنصرية) ويستهدف غالبا هذا الخطاب الأقليات ويتضمن الإهانة والتلقيب لأفراد معينين إستنادا إلى عرقهم أو دينهم لا يقتصر خطاب الكراهية على ثقافة المجتمع المحلي أو النهج السياسي للدول بل يتعدى ليشمل أمة بأكملها مثل الخطاب الغربيّ بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الموجَّه عن المسلمين في أرجاء العالم.

الإستعراقية أو الإستعلاء العرقي/المركزية العرقية أول من إستخدم هذا المصطلح هو عالم الإجتماع الأمريكي وليم جراهام سمنر وعرفه على أنه: “النظر إلى جماعة ما على أنها مركز كل شيء وجميع الأخرين يوزنون ويرتبون بعدهم ونتيجة لإتساع نطاق ثقافة ما فإن الناس أصبحوا يرون طرق مجتمعهم بإعتبارها الطرق السليمة للتفكير والشعور والعمل ولهذا السبب فإن الإستعلاء العرقي قد لا يمكن تجنبه إنه يعطي الناس شعورا بالإنتماء والكبرياء والرغبة في التضحية من أجل خير الجماعة ولكنه يصبح ضارا إذا بلغ حد التطرف كما أنه قد يسبب التحيز والتعصب ورفض الآراء الآتية من الثقافات الأخرى بل وإضطهاد الجماعات الأخرى والتعرض للثقافات الأخرى يكسب المرء فهما ومرونة قد تقلل من رودود الفعل هذه ولكن لا يمكن التغلب عليها كليا أبدا ،إن الهوى الأيدولوجي وهوس التمركز الإثني العرقي والخيال الشخصي تقود غلى تزييف الوعي التاريخي والإستغراق في تعظيم التاريخ العرقي المصطفى على حساب الأمانة العلمية والمصداقية الفكرية “

ظهر أيضا مصطلح الدمج العرقي كمصطلح مضاد للعنصرية ويهدف إلى إزالة الحدود التي تحول دون الإتحاد وخلق فرص متكافئة للجميع دون تمييز أو تعنصر كما يهدف إلى تطوير ثقافة تحتوي على تقاليد من ثقافة الجميع في المجتمع الواحد بدلا من سحق ثقافة الأقلية والإبقاء على ثقافة الأغلبية يختلف مصطلح الدمج العرقي عن مصطلح إزالة التفرقة العنصرية فالأخير هو أمر قانوني والأول أمر ثقافي وإجتماعي أما مفهوم الإدماج الإجتماعي هو مفهوم ينشئه كل مجتمع وكل جماعة بهدف إنتقال الأفراد والجماعات من حالة المواجهة والصراع إلى حالة العيش معا هذه الآلية تمر بثلاث مراحل هي التضامن الإجتماعي والتكيف الإجتماعي و صولا إلى حالة الإندماج الإجتماعي.

صنفت العنصرية إلى أنواع منها تمييز عنصري إجتماعي، تمييز عنصري مؤسسي، عنصرية إقتصادية بالإضافة إلى التمييز المباشر وغير المباشر والمباشر هو التعامل مع شخص ما بدونية وتفضيل آخر عليه لسبب عنصري (عرق، لون، مذهب ديني) أما التمييز غير المباشر فهو قد يكون على شكل فرض قوانين وشروط بدون أسباب وتكون هذه القوانين لصالح فئة على حساب الأخرى ، بيد أن الأنواع والأسماء لا تغير من صفة الكراهية التي طغت عليها. العنصرية فعل مروع ليس فقط لأنها لا إنسانية، إنما أيضا لما تخلفه من آثار وجروح في نفوس البشر حيث تهدد الصحة النفسية للإنسان وتشعروه بالدونية والنقص وتجعله عرضة للإكتئاب والقلق الدائم كما تؤثر على شخصيته فتجعلها ضعيفة مهزوزة.

السلام لا يتحقق بوجود العنصرية والعنصرية ستبقى مرضا يفتك بنا في حال بقينا متمسكين بذات نهج التنشئة الإجتماعية المشوب بالكراهية والإستعلاء (هذا مقطع أما هذا فإبن العشيرة الفلانية، هذه كفىء لكنني سأوظف أحدا من أقاربي… ما بجوز بنتي للغريب!) نحن جيل واعِ تعلمنا وتطوعنا خضنا في غمار الحياة فغدا جليا لنا أن كل ما نقوله ونفعله يؤثر في سلوكيات أبنائنا وطرق تفكيرهم علاوة على أننا أدركنا جيدا أن لا أحد كامل وليس لأحد الأفضلية على الآخر فكلنا بني آدم، التغيير سيبدأ عندما نقوم بإتخاذ القرارلتبديل الكراهية بالتقبل، التغيير في السلوك الإجتماعي ليس سهلا البتة ولكنه ممكن. من بين كل الذين واجهو القضايا الإنسانية كافة والعنصرية خاصة جذبتني نادين ربما لأنها رفضت ظلما واقعا على إخوتها البشر ومستثناة هي منه فهي لم تثور لنفسها أو لعائلتها ولكنها ثارت ضد الأفضلية المعطاة لها على حساب الآخرين.

رحلت نادين غورديمير عام 2014 تاركة ورائها إرثا من العلاقات والمحبة وموفور من الكتب والروايات التي ستظل تحارب العنصرية بعد وفاتها محاربة فكرية ثقافية لا محاربة دموية، آخذت على عاتقها مواجهة قضية العنصرية ووجدت طريقها وأدواتها للمواجهة، أثبتت غورديمير أن للنساء دورا فعلا في صناعة وإحلال السلام، ولا يزال مشعلها مضيئا ينتظر مناضلة أخرى لتواصل النضال… فما زال العالم يعاني من العنصرية وأكبر دليل على ذلك هو سياسة العنصرية التي تمارسها الحركة الصهيونية ضد الفلسطينين.

نور هاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *