لم تبالغ عالمة النفس تاشا يوريش حين قضت سنين عدة لدراسة الوعي على الذات ودوره المتميز في التأثير على السلوك التنظيمي، فهذا عنوان مهم له بالغ الأثر على حياتنا ويستحق الاهتمام والدراسة وترجمة هذا العلم بسلوك نقوم به في حياتنا اليومية. الوعي على الذات ليس مصطلحًا جديدًا، على مر الأزمان كان القادة الأكثر نجاحًا دائمًا مهووسين بمعرفة المزيد عن أنفسهم. حتى أن القائد العسكري الصيني صون تزو مؤلف الكتاب الشهير (فن الحرب) قال: “إذا استطعت معرفة نفسك وعدوك لا تأبه من نتيجة مئات المعارك التي ستواجهها”. يعرف الوعي على الذات على أنه: “أن تكون على دراية دقيقة لكل من مهاراتك وقدراتك وحتى نقاط قوتك ونقاط ضعفك”، وهذا بدوره ليس سهلًا أو هينًا فأكثر المشاكل التي تواجهها المؤسسات أنها لا تعرف عن أفرادها أ حتى أن الأفراد نفسهم لا يعون على ذاتهم وهذا سينتج كل من النقاط المبهمة والإفتراضات والثقة الزائدة التي ستعيق تقدم الأفراد والمؤسسة ككل. لذا سيصح القول القديم: “إن أعظم خدمة يمكنك أن تقدمها للعالم هي أن تعرف نفسك أكثر”.
تؤكد تاشا يوريش السابق ذكرها وصاحبة كتاب البصيرة “Insight”، أن الوعي على الذات هو أهم مهارة من أجل النجاح والتميز في القرن الواحد وعشرين وسيكون المكتسبين لهذه المهارة هم الأنجح والأكثر ثقة وسيبنون علاقات أفضل وسيكونوا قادة فاعلين كما أنهم سيستطيعوا تجنب الكثير من العادات السيئة. كلما كان الفرد أوعى على عقليته وسلوكاته كلما كان أكثر تجنبًا للعادات السيئة كالتسلط في الحوار وعدم الإهتمام أو الإكتراث لكلام الآخرين والغرور والغطرسة ومحاولة فرض وجهات النظر. حتى أن نتائج الأبحاث والدراسات العلمية أكدت على ما قالته يوريش. حسب بحث لمشروع The Potential Project، إن الوعي على الذات له تأثير إيجابي على مهارة القيادة أكثر من درجة الماجستير في إدارة الأعمال أو ما يعرف بال MBA. استهدفت هذه الدراسة أكثر من ألف قائد في أكثر من 800 شركة حول العالم، وأظهرت النتائج أن الوعي على الذات يجعلنا نقود أنفسنا بأصالة ونزاهة وبالتالي سنستطيع قيادة الآخرين بشكل أفضل. وفي دراسة أخرى أجرتها كلية إدارة الأعمال في جامعة ديبول لفهم العلاقة بين الوعي على الذات وأداء الفريق اتضح أن الفرق التي أفرادها أكثر وعيًا على ذاتهم يتخذون قرارات أفضل ويتفاعلون بفاعلية أكثر مع بعضهم البعض ويسيطرون على التوترات التي تحصل بينهم بشكل أفضل.
من الواضح أن الوعي على الذات يحقق تقدمًا كبيرًا في المؤسسات، خاصة ما إن استطعنا أن نوجد أفرقة واعية على ذاتها ويكون ذلك بطرق يمكننا إتباعها مثل:
- كن حاضرًا لتزيد إنتاجيتك (ركز): في هذا العصر بات التشتت أحد أسوأ أعداء التقدم حتى أن التركيز أصبح نادرًا. العديد منا يحضر الإجتماعات أو المؤتمرات بجسده دون ذهنه وهذا سيعيق تقدمك لذا أفضل ما تقدمه هو أن يكون ذهنك حاضرًا. يزيل التركيز التشتت ويعزز الوعي الذاتي. لذا من المهم أن تذكر الفريق بالتركيز.
- أضئ ما هو مظلم: ما تجهله قد يوقعك في مشاكلك وكل ما لا تعرفه قد يعيقك، لذا حاول أن تضيء على كل من معرفة وأفكار ومعتقدات ومشاعر من حولك وهذا سيمنع القرارات الخاطئة والتقييمات غير الدقيقة والمبالغة وعكرسة التعاون.
- تنمية ثقافة الوضوح والشفافية بين الفريق: فقد التواصل هو السبب الرئيسي وراء معظم التوترات الجماعية. عدم القدرة على مناقشة الأمور بصراحة يزيد التوتر بدلًا من أن يزيله. كلما زاد عدد الأشخاص الذين يعرفون بعضهم البعض أكثر كلما كان بإمكانهم التفاعل بما بينهم بشكل أفضل. الوضوح لا يساعد الأعضاء الحاليين فقط على التعاون بل سيحفز الأعضاء الجدد على التعاون بسهولة أكثر. وبالطبع يتطلب الحوار المفتوح وردود الفعل الصريحة مساحة آمنة؛ لذا تعتبر السلامة النفسية ضرورية للناس ليتحدثوا دون خوف من تجاهلهم أو انتقادهم أو معاقبتهم.
- حول الوعي إلى عادة جماعية لا تقف عند أحد: أن يلعب الفريق بأكمله على ذات القواعد يوازن الملعب، بينما إن كان لدى البعض وعي ذاتي مرتفع وآخرون جهل بذاتهم ستستمر المعاناة بالفريق. لذا شجع فريقك على الانخراط في طقوس الوعي الذاتي كل يوم وقدم لهم تعقيبات وتعليقات على ما يقوموا به حتى يشعروا بأن ما يقوموا به مهم ويستحق الاستمرار بالعمل من أجله، وبالطبع أشركهم بالعملية واجعل كل فرد منهم إلى مدرب في الوعي على الذات.
- تعمق في الوعي على الذات ولكن وازن ذلك: يدور الوعي الذاتي في فلك إعادة الاتصال بالطبقات المتعددة لهوية الفرد. يعد التدريب على الوعي على الذات مهمة حساسة – فهي تتطلب تطبيق اليقظة والتأمل والتركيز- ومع كل ذلك من الممكن أن يتشتت الكثير لذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه من الضروري أن يغادر الجميع الغرفة وهم في حالة مزاجية رائعة. لذا علينا أن ندمج النشاطات والتمارين والألعاب لنوازن ذلك.
- شجع على التطور الذاتي وليس على الوعي بالذات فقط: تطوير الفريق هو عمل باستمرار ولا يأتي مرة واحدة مستمرة، وليست لمرة واحدة فقط. بينما الوعي على الذات لن يتغير كثيرًا ما إن وصلنا إليه. لذا خذ بعين الاعتبار أن تكون عملية تطوير وتنمية مهارات وقدرات فريقك مستمرة ولا تتوقف أبدًا وهذا بدوره يعزز الوعي على الذات ويضيف لرحلتهم العملية معنى.
مهما كانت الخطط التي لديك لزيادة الوعي الذاتي لفريقك، إن المتابعة أمر بالغ الأهمية. يتطلب تطوير الوعي الذاتي التحضير لذا خصص وقتًا للتدريب. الجيد في الأمر أنك لا تحتاج إلى إشراك بالأمر. جهز فريقك بالأدوات والأساليب التي يمكنهم تنفيذها بمفردهم وبإظهار فوائد الوعي على الذات في حياتهم. قم بإشراك فريقك من بدء الرحلة؛ فلا يمكن فرض الوعي الذاتي، فهم بحاجة إلى امتلاكه.
ولكن ما علاقة نافذة جوهاري بالوعي على الذات؟ بعد ما عرفنا على أهمية الوعي على الذات بكل من المستوى الفردي والتطور المهني والمستوى المؤسسي والتقدم للمؤسسة صار ضروريًا أن نشرح إحدى أهم التمارين التي تهدف لزيادة الوعي على الذات ألا وهو تمرين نافذة جوهاري. نافذة جوهاري هي أداة ابتكرها كل من عالمي النفس جوزيف لفت وهارينغتون أنغهام وجاء اسم جوهاري من المقطع الأول لكل من اسميهما، وهذه الأداة يمكن اعتبارها تمرين ينفذ بشكل جماعي لزيادة الوعي على الذات وتعزيز اكتشاف النمو الشخصي ووكل هذا من أجل أن نكون أصيلين النفس، حقيقيين، صادقين وواضحين.
سميت نافذة كون هذه الأداة كما النافذة تتكون من أربع مربعات: اثنين بالأعلى واثنين بالأسفل. يجب أن تملأ المربع الأعلى من اليسار: ما تعرفه عن نفسك وما يعرفه الآخرون عنك على حد سواء، ثم المربع الأعلى من اليمين: ما لا تعرفه عن نفسك ويعرفه الآخرين عنك، ثم المربع الأسفل من اليسار: ما تعرفه عن نفسك لكن لا يعرفه الآخرين عنك، وأخيرًا المربع الأسفل من اليمين الذي عليك أن تملأ به ما لا تعرفه عن نفسك ولا يعرفه الآخرين عنك. بالطبع تختلف أحجام المربعات السابقة حسب المعطيات خلال تنفيذ النشاط وهذا بدوره يقودنا لأن نكون وعلاقاتنا أعمق وأكثر نضجًا، وأرى أن ما قام به العالمان في خمسينات القرن الماضي من جهد في تنفيذ هذه الأداة يدفعنا لأن نكون أكثر حرصًا على وعينا بذاتنا لنصل للأفضل.
ضحى خالد أبو يحيى