في عام 1930 أسست جامعة (ديوك) في أمريكا فرعًا خاصًا لدراسة القوى النفسية دراسة مخبرية تحت إشراف البروفيسور (راين). ألف (راين) عدة كتب لخص فيها نتائج بحوثه وأثار ذلك ضجة كبرى بالأوساط العلمية. جابه العلماء هذا الموضوع بشيء من السخرية والاستنكار أول الأمر وقاومه كثير من الأساتذة والهيئات الجامعية إذ اعتبروه نكسة في تطور العلم ورجوعًا إلى الخرافة والسذاجة والبدائية. هذا ولكن جامعة (ديوك) ثابرت على خطتها في تشجيع هذا الموضوع. أخذت الضجة ضده تخفت أخيرًا… وبدأ العلماء ينظرون إليه نظرة جدية بعد أن لمسوا نتائجه التجريبية التي تكاد لا تقبل الشك. درس راين العديد من النقاط التي تجعل منا أشخاصًا أقوى دراسةً جادة، ولم يغفل عن الوعي الذي أوضح أن المعرفة تساهم إسهامًا كبيرًا في تشكيله.
حسب معجم لسان العرب لغويًا الوعي يعني الاحتواء، أرى أن معناه الاصطلاحي لا يخالف معناه اللغوي. الوعي يعني احتواء العقل للمعرفة والفهم، المعرفة التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق التي تجري من حولنا، وذلك باتصالنا مع المحيط الذي نعيش فيه ونحتك به. بهذا ستسهم المعرفة بخلق حالة من الوعي بكل الأمور التي تجري من حولنا، ونصبح أكثر قدرة على إجراء المقاربات والمقارنات من منظور شخصي وبالتالي اتخاذ قرارات أفضل وأنجع. من جهة فلسفية ربط ديكارت الوعي بالتفكير حين قال: “أنا أفكر، إذًا أنا موجود”، التفكير بما حولنا هو أكبر دلالات الوعي، وأس التفكير هو المعرفة. كما صعب على العلم تحديد أجزاء الدماغ المسؤولة عن الوعي، لنشاط أكثر من جزء من الدماغ عبر تقنية الرنين المغناطيسي صعب قياس مقدار الوعي لدى الأشخاص إلا أن الكثير اتفق أن المعرفة كثيرًا ما ترتبط به. قد يقاس الوعي لدى الشخص بكم المعرفة وبالطبع مع مراعاة قدرته على استخدامها في حينها. القوة من منظور عجلة المشاعر، يعتبر الشعور بالقوة في عجلة المشاعر ضديد الخوف، أي أننا حين نكون أقوياء يكون تأثير الشعور بالخوف علينا أقل وطأة بالطبع، تظهر رباطة جأشنا لمواجهة التحديات في طريقنا. حسب عجلة المشاعر تظهر قوتنا في ست حالات وذلك حين نكون واعين، فخورين، محترَمين، مقدرين، مهمين ومخلصين. بهذا يكون الشخص الواعي يملك إحدى نقاط القوة ونقدم المعرفة كانعكاس للوعي وبالطبع إذا ما ارتبطت بالإقدام وأخذ فعل.
عن قوة المعرفة
أعتقد أن هناك معرفة كافية في العالم لحل مشاكلنا وهنا تكمن قوة المعرفة: بأن نستطيع حل مشاكلنا بناءً على معرفتها وتحليلها. لكن ذلك يحصل فقط إذا تعلمنا كيف نحصل على المعرفة واستخدامها في شكلها ووقتها المناسبين. إذا امتلكنا المعرفة يعني أننا نعي أكثر عما يدور حولنا وبالتالي نكرسه لجعل حياتنا أفضل. بمعنى آخر إن فهمنا للعالم ومعرفته هو مقياس القوة. لذا، نستطيع تعريف القوة بأنها “القدرة على التصرف والحل والتحليل باستخدام المعرفة”. أول من آمن بفكرة ان المعرفة هي القوة بعبارته الشهيرة: “المعرفة قوة” هو الفيلسوف (فرانسيس بيكون) المعروف بقيادته للثورة العلمية في القرن السابع عشر عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على “الملاحظة والتجريب”. شهد القرن السابع عشر تغييرات هامة في طريقة تفكير الكثيرين جعلته بمثابة ثورة وذلك راجع إلى الضغوط القوية المستحدثة التي أثرت على بناء الفكر وتطوره. قد جاءت الضغوط من عدة اتجاهات أهمها الأفكار العلمية التي أطلقها كل من العالمين جاليليو ونيوتن. ساهم عصر النهضة بإعادة إحياء قوة المعرفة، المعرفة التي تحدت السلطات التقليدية والحروب الدينية وساهمت بالثورة الصناعية والتوسع وراء البحار. خرجت هذه العبارة من إطار الكلمات وأصبحت بحد ذاتها فكرة تؤسس لكثير من التغييرات في عالمنا، فكررها الكثير لأهميتها. بعدما استاء الرئيس الأمريكي طوماس جيفرسون من رجال الدولة في إحدى الولايات قال عنهم، “إنهم لا يدركون الحقائق المهمة بأن المعرفة هي القوة، المعرفة هي الأمان، المعرفة هي السعادة”.
كيف نعرف؟ اتفقنا أن المعرفة هي أثمن شيء نستطيع امتلاكه، كل شيء آخر في حياتنا كالمال والصحة والممتلكات قد تأتي وتذهب ويمكن أن تفقد في أي وقت إلا أن الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يأخذه منا بمجرد أن نكتسبه هو المعرفة. لذا لا بد أن نتعلم بعض السلوكيات والعادات التي تحقق لنا معرفة أكثر وأفضل:
- أن تحدد ما تود أن تعرفه، العمل على الشيء الصحيح أكثر أهمية من العمل الجاد.
- رتب أولويات ما تود معرفته بشكل صحيح.
- استخدم الأدوات المتاحة لزيادة معرفتك، كمواقع التواصل الإجتماعي وغيرها من الأدوات التي نقضي عليها بعض الأوقات.
- شارك المعرفة مع غيرك باستمرار وباستخدام السبل المتاحة.
بالتأكيد هنالك مصادر متجددة وكثيرة للمعرفة، ويمكن تلخيصها تبعًا لآلية تلقيها لأربع تصنيفات:
أولاها، المعرفة التي تأتي من القراءة، دائمًا ما تعرف القراءة على أنها المصدر الأول للحصول على المعرفة. لذلك علينا المداومة قراءة الكتب أو المجلات أو المقالات. ثم يأتي الإستماع. الإستماع لكل من الأصدقاء والزملاء والإحترافيين أو البودكاست والكتب الصوتية أو حتى حضور المؤتمرات والإستماع للخبراء مصدر معرفي لا يستهان به. بالإضافة إلى استخدام التكنولوجيا كمصدر للحصول على المعرفة عبر متابعة القنوات واستخدام محركات البحث. بالطبع لا استغناء عن الطريقة التقليدية للحصول على المعرفة وهو التسجيل بالكليات أو النوادي أو المنظمات والتفاعل مع طاقمها.
أمثلة من حولنا، كيف تحولنا المعرفة لأناس أوعى، قد يواجه أحد الموظفين مشكلة في إنشاء تقرير ربع سنوي في العمل، وكثيرًا ما يخرج بتقارير دون المستوى. بملاحظة الخلل بأدائه ومعرفة نقاط الضعف به. يبدأ يحاول معرفة ما الذي يجعل المهمة صعبة عليه، ويدرك أنه يواجه مشكلة في أداء الإحصاءات التي تدخل في التقرير وعليه أن يخرجها بشكل متماسك وواضح. يستطيع هذا الموظف إصلاح هذا الخلل عبر الحصول على المعرفة التي تحسن قدرته على تحليل، وإنشاء نموذج قابل لإعادة الاستخدام للتقارير المستقبلية، فبذلك المعرفة جعلت منه موظفًا أوعى.
قد تعاني إحداهن من تدني احترام الذات، مما يسبب لديها بأعراض الاكتئاب. بحيث لا تشعر بالرضا الكافي عن نفسها، ولا تقبل الفرص التي تتاح لها بسبب ذلك. عرفت أن حل مشكلتها يكون خلال طبيب نفسي؛ لذا بدأت زيارة طبيب نفسي لمساعدتها على بناء الوعي الذاتي. في المرة التالية التي ستتاح لها فرصة، ستعتقد أنها لا تريد القيام بذلك وتقرر في البداية رفضها؛ ولكن بمساعدة الطبيب النفسي ستدرك أنها توهم نفسها فقط أنها لا تريد القيام بذلك بسبب خوفها من أنها لن تكون جيدة بما فيه الكفاية. المعرفة جعلتها تذكر نفسها بأنها جيدة بما يكفي وتحول أفكارها إلى “ماذا لو نجحت؟” بدلاً من “ماذا لو فشلت؟”. تقبل الفرصة وتواصل استخدام الوعي الذاتي وحب الذات لتحسين فرصها في النجاح. بهذه الأمثلة وغيرها بالتأكيد لا نقصد المعرفة الساكنة التي لا تدفعنا للعمل، بل يلزم اقتران المعرفة بأخذ فعل لاستخدمها بحل مشاكلنا.
أخيرًا، المعرفة كقوة ومثال من التاريخ، كثيرًا ما يخطر لي كيف كانت القوة الوحيدة للفيلسوف والمؤرخ الفرنسي من القرن العشرين ميشيل فوكو هي المعرفة وكيف استخدمها لضخ أفكاره وترسيخها. كرس ميشيل حياته للنقد الصارم للسلطة في الدولة البرجوازية الرأسمالية الحديثة. كل ما يتبعها من شرطة ومحاكم وسجون ومشافي وكان يهدف لأن يفهم كيفية عمل السلطة لأجل استخدام هذا الفهم في محاولة الوصول للمدن الفاضلة بلا مبالغة. رأس ماله الوحيد بذلك هو معرفته ورغم قضاء جل وقته في المكتبات وقاعات الدراسة ويترقى في السلم الأكاديمي الفرنسي إلا أنه كان شخصية قيادية ثورية ملتزمة ونال قوة وشعبية هائلة بين النخب الفكرية الباريسية، ولم يزل لأفكاره صدى وجدال واسع وذلك فقط عبر المعرفة.
ضحى خالد أبو يحيى