يمر الإنسان في حياته بمشاعر متعددة، يحاول فهمها مرارا وربطها بأحداث حياته كلها ليصل إلى صورة أفضل منه في تعامله مع نفسه والآخرين. حاول العالم بولتشيك التعبير عنها فيما سماه عجلة المشاعر. قام بتقسيمها وفقا لشدة الشعور وربطها بشدة اللون المرتبط به. محاولا التعبير عنه في نفس المتلقي لتمثل خارطة ينتقل فيها الإنسان في رحلة تعلمه وفهمه لنفسه ومن حوله لتؤسس لعلاقات صحية وأكثر حبا. احتوت عجلة المشاعر على المشاعر الأساسية، جذورها وكيف يتصرف الإنسان وفقا لها. ضمت مشاعر الخوف، الكبح والإهمال والتي وفقا لبولتشيك صنفت أنها مشاعر تتسبب بالعار. تقابلها مشاعر القوة، الطمأنينة والفرح لينتقل الإنسان فيها بين مشاعر سلبية إلى مشاعر ايجابية تسبب الحب في روحه عن طريق التسامح.
يقال أن المشاعر الأساسية تطورت في الإستجابة للتحديات البيئية التي واحهها الإنسان الأول، هذه المشاعر هي فطرية، تلقائية، وتوصف أنها المحفز الأول للبقاء وتتطور بتطور الإنسان ما حيي. يوصف شعور القوة بأنه إدراك شخصي للمرء بأنه هو المسؤول عن تنفيذ وتحكيم أفعاله في حياته. يصف هذا الشعور بأن الإنسان لديه السيطرة وشعور الإمتلاك لحياته. مثلا يشعر الإنسان الطبيعي بالقوة إذا استطاع اتخاذ قرارات حياته بدءا من لون قميصه إلى أعتى قرارات حياته وأعقدها. الإنطباع الأول لهذه الكلمة ينطوي على معنى الإنتصارات الجمة والجلية في حياة الفرد. لكن المعنى يمكن أن يكون أوسع وأشمل.
تعد القوة المقدرة على معرفة ذاتك بشكل مستقل وبوصفها عامل السلوك وتلعب دورا مهما في دعم قدرات العقل؛ إذن الإدراك هو المتطلب الأول للقوة. توصف المشاعر على أنها تجربة تتميز بنشاط عقلي. تم إجراء تجارب مختلفة على عدة أشخاص لتحديد الجذر العلمية والتشريحية للشعور بالقوة كمحفز وشعور جيد. إن معرفة ما يحدث تماما وبشكل دقيق يعد أمرا معقد، على الأقل حتى هذه اللحظة، لكن ما هو مؤكد أن هناك أجزاء في الدماغ تتدخل لينشأ هذا الشعور كالفص الجداري والقشرة الخلفية ويوصف هذان الجزءان على أنهما حلقة الوصل الأساسية للشعور التحفيزي والقيام بردات فعل تدل عما يحدث داخل مركز الشعور وتحديدا شعور القوة.
بالرجوع إلى عجلة المشاعر مرة أخرى، إن جذور شعور القوة الذي يعاكس شعور الخوف (الذي تحدثنا عنه في المقال السابق) هي الوعي، الفخر، الإحترام، التقدير، الأهمية والإخلاص. يوصف شعور الإخلاص بالصفاء وزوال الشائب عن الفؤاد ويعني صدق التوجه، ويحقق الإخلاص عموما في نفس البشر شعور الراحة لشعورهم بأن هناك مرجعا لشعورهم. يكون الانطباع الأول لكلمة إخلاص عادة هو الشعور الذ يؤدي للوفاء وينشئ قوة العلاقات بين الأسر والأفراد، تنشأ مجتمعات متماسكة الصلات وعتيدة بين أفرادها ومنشئيها. لكن المعنى الذي تنطوي عليه هذه الكلمة أعمق وأوسع؛ هناك الإنسان الملتزم في دوره الوطني، لا ينفك يؤمن أن روحه، شبابه وأيامه منذورة لوطنه الذي يحب. استطاع القائد غاندي شحذ ملايين النفوس بمعنى الإخلاص للوطن وغرس التضحية التي مدت شعبا بأكمله بقوة الإرادة وروح العزيمة التي لزمتهم للتخلص من الإستعمار البريطاني للهند. ولزيادة البعد الذي ترتكز إليه قوة النفوس، لخلق حالة إخلاص أدت لتوافقية عالية في كل الأبعاد مما عزز تماسك وقوة المجتمع ليتجاوز فكرة الإختلاف كجوهر للخلاف والخروج إلى قيمة الإنسان ولا شيء غيرها. على غرار المهاتما غاندي، قس كل إنسان نذر روحه ووقته فداءا لفكرة آمن بها وإخلص لها. من الناس من يعزي قوته ومعنى إخلاصه لوازعه الديني وانتمائه لشعور أعظم ينطوي عليه معنى الحياة الأكبر بالنسبة إليه وتجده يبذل الغالي والنفيس في سبيل شعور القوة الذي لا يجده يستمده من إيمانه.
إذا ما رجعنا إلى عجلة بولتشيك، شعور الإخلاص له جذور نفسية تؤدي لشعور المرء به. أولها أن يشعر الإنسان أن لديه الثقة بالآخرين لكن هذه الثقة تحتاج أولا شعور المرء بثقته بنفسه أولا. لتعزيز هذا الشعور على الإنسان أن يجد قوته من الداخل أولا ويشعر بتميزه وانفراده. ثم عليه ثانيا أن يسعى لمعرفة نفسه؛ إمكانياتها وقدراتها ليطورها ويسعى بها للتميز. ثم عليه أن يركز على مخالطة بنو البشر ممن يتشابهون في اهتماماته؛ ليعزز التفاعل الإيجابي معهم لزيادة ثقته في من حوله إضافة لتطوير المهارات التي يحب. لأثر الكلمة على النفس البشرية على المرء أن يتعلم التعامل مع المحبطين ممن يبثون سموم حديثهم في عزيمة الآخرين وأن يسعى ليشعر بالقوة في تجاهل كلامهم والوقوف شامخ لا يأبه به.
أما عن الجذر الثاني لإخلاص المرء حسب العالم بولتشيك فهو أن يشعر أنه إنسان يعتمد عليه. هذا الشعور يولد في النفس ايمان بأن المرء مهم في هذا العالم وأنه ليس قطعة زائدة لم يزد عليه شيء. من أجل أن يتعزز هذا الشعور في النفس البشرية، على المرء أن يسعى إلى مساعدة الآخرين ومحاولة زيادة حصيلته المعرفية لتتفتح الآفاق أمامه كي يكون محل ثقة. في عصر التغيير السريع علينا أن نراجع هوياتنا وممارساتنا لنعلم مصدر الإخلاص الذي تنطوي عليه حياتنا. الشعور بالإخلاص لمعرفة مصدر القوة أو تفسيره ربما أصبح أصعب، ويعزى هذا لنمط السرعة الذي لا ينفك يرتبط بكل إنسان. ربما تقع المهمة الأصعب في نقل هذه المعرفة للآخر بعد تمكينها في النفس. على سبيل المثال على الوالدين أن ينقلان لأطفالهما تجربة الحوار المثمر والتعبير عما يجول في بال الواحد منهم منذ نعومة أظفره.
من هنا تظهر أهمية التنشئة السوية في تربية الفرد لنفسه ونقلها لمجتمعه على معرفة وتعزيز شعور القوة بمعرفة مصادره لينشأ جيل واع، فخور بذاته ويشعر بأهميته في هذا العالم ويعرف كيف ينتقل بنفسه من ذبذبات الشعور السيء. هذا الشعور الذي انطوت عليه حكايات الفلكلور الشعبي قرونا وأزمانا وصنعوا منه أساطيرا خلفت أمجادا تذكر وتدون. وشجعانا نأخذهم مثالا يحتذى به لننمط الصورة أكثر في أذهاننا نرويها جيلا بعد جيل لتعطي انطباعا واحدا عما ينطوي عليه هذا الشعور الواسع في أبعاده. المتمكن في كل نفس بشرية وتحجم ما قد نصف به مصادره أو نبقيها حكرا عما جال في الأذهان مسبقا. غير آبهين باختلافاتنا البشرية وأهميه فهم الشعور في نفس كل واحد منا وتعزيز أهميته لينتقل بالإنسان إلى مراحل الشعور الواعي باستناداته الصحيحة.
هذه القوة التي تبقي في الواحد منا أملا يعيش فيه وقدرة على احتمال نائبات الحياة وتقلباتها إن أحسنا توظيفها وفهمها، الشعور الكامن في كل نفس تنتقل إلى ما تطمح. ردات الفعل المتباينة في كل إنسان تبعا لما يشعر به حقا. برأيي، يقع على عاتقنا مهمة حقيقية في ربط الشعور هذا في كل تصرف يعيه الإنسان ويدركه لينتقل به لمرحلة التحليل. الفهم وربط المشاعر والعواطف بكل من العقل والقلب ثم الروح. معرفة كيف يخرج الإنسان بالشعور الذي يقابله من الشعور الأول، الشخص الخائف يحتاج قوة يخرج بها من خوفه، تثري ما يعرف عن نفسه وتعلمه حذور الشعور. أن نعي أن هذا لا يتحقق في ليلة وضحاها بل يحتاج أميالا من جلسات مراقبة النفس وأن ندرك رحلة التعلم لما يحدث.
مريم رمزي
المصادر
Farrer, C., Franck, N., Georgieff, N., Frith, C. D., Decety, J., & Jeannerod, M. (2003). Modulating the experience of agency: a positron emission tomography study. NeuroImage 18, 324-333
Ruby, P., & Decety, J. (2001). Effect of subjective perspective taking during simulation of action: A PET investigation of agency. Nature Neuroscience 4, 546-550