كيف نشعر بالسلام؟

كيف نشعر بالسلام؟

ظهرت عبر التاريخ الكثير من النظريات والفلسفات والمفاهيم المتعلقة بالسلام. قد نادى بها العديد من المفكرين والعلماء ومن أشهرهم الروائي الروسي “ليو تولستوي” في روايته (الحرب والسلام). كذلك العالم والباحث الاجتماعي النرويجي المختص في علوم السلام “يوهان غالتونغ” المعروف بـ (أبا السلام). يبدأ السلام من سلام الإنسان مع نفسه قبل سلامه مع الآخرين، فعندما يكون الإنسان متصالحا مع نفسه فكريا واجتماعيا بالضرورة أن ينعكس على سلامه مع الآخرين ونظرته لهم، فالسلام سلام روح وعقل قبل أن يكون سلام مفردات وكلمات تزين الحوارات والمناظرات. ومن سلام الإنسان مع نفسه يتحقق الانسجام بين مختلف الفئات الاجتماعية فتتميز حينها ببعدها عن العنف أو الصراع بين السلوكيات وتتحرر من الخوف والعنف، وتظهر محاولاتها الحقيقية في المصالحة وتحقيق المساواة والأنظمة السياسية في العمل الذي يخدم المصالح الحقيقية للجميع.

لطالما تنازعت الشعوب والأمم قديما ولا تزال حول السلطة والمال والدين، وكان الصراع قائما ليفوز به الأقوى، فتتزعزع نتيجة لذلك أعمدة السلام وتختل موازين الأمن والأمان والاستقرار في الأرض. هذا ما يجعله مؤخرا مطلبا وغاية ملحة تطمح لبلوغها جميع المجتمعات البشرية بكل تكويناتها. هو قضية تحظى باهتمام كل الدول، وهدف تتصارع عليه المنظمات والتحالفات الدولية. وإن ثقافة السلام تعنى بمجموعة الأنماط السلوكية الحياتية والمواقف المختلفة التي تدفع الإنسان إلى احترام إخوانه من بني البشر ورفض الإساءة إليهم وقبول الاختلاف بين الناس. وتبني التآلف بين الناس مهما اختلفوا في آرائهم ووجهات نظرهم، وتجمعهم على الخير والمحبة، وتساهم في التطور الإجتماعي للشعوب وتحقيق الأمن والعافية والاستقرار والإزدهار وكل ما يوجب تقدم الحياة، سواء كان من ناحية صحية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية أو عسكرية. هي قيمة نبيلة تقوم عليها الحضارة الإنسانية جنبًا إلى جنب مع الحرية والعدالة على عكس الحروب التي لا تأتي إلا باندثار الأمم والحضارات.

تكمن أهمية السلام أيضا في الحفاظ على البيئة، الحروب لا تأتي إلا بالدمار والخراب وهدم التربة وحرق البشر والغابات واستنزاف المياه وحقن فضلات الأسلحة والصواريخ والرصاص بداخلها. كما تكثر في الحروب والنزاعات الأورام والأمراض ويتفشى السرطان الذي يفتك بالناس وتنتشر الأوبئة والفيروسات ويعم التلوث البيئي، ناهيك عن ثقب الأوزون الذي يتهافت العلماء وأصدقاء البيئة للإشارة إليه. السلام أصبح في هذه الأيام العصيبة حلم يراودنا بين الحين والآخر نحن المضطهدين على الأرض المتعطشين للحرية والأمان، الباحثين عن العدالة والتقدم، المؤمنين بأنه ليس من شيم الإنسان أن يسلك مسلك الوحوش. وبأن الأخلاق التي تليق بكرامة الإنسان هي الأمانة والتسامح والرحمة والألفة مع البشر أجمعين. البشرية تأن متلهفة لتحقيق الإتحاد والاتفاق وإنهاء استشهادها الذي امتد عبر العصور. يبدأ هذا الاتحاد من العائلة إلى القبيلة والمدينة فالدولة، فوق كل ذلك يأتي الهدف الأعلى والأسمى وهو اتحاد العالم بدوله وشعوبه والذي تسعى لتحقيقه البشرية المعذبة.

كيف نشعر بالسلام؟ وهل السلام سلام في الحروب أم يذهب إلى أبعد من ذلك؟

سؤال المقهورين من الشباب غير القادرين على تكاليف الدراسة، وأمنيات المرضى المثقلين من عبء تكاليف العلاج الباحثين عن أمل لتسديد فواتير الأدوية والمشافي، والبطالة المتفشية في المجتمع ومعدلات العنوسة المتزايدة، وعزوف الشباب عن الزواج، وإضراب بناة المجتمع من المعلمين من شدة الفقر والضنك الذي يعيشونه. وشعب بين الحياة والموت، فهو بالكاد يتنفس، وبالكاد يستطيع على لقمة العيش. وجريمة بين اليوم والأخر تهز الشارع، وحوادث طرق مميتة نتيجة لبنية تحتية أكل الدهر عليها وشرب، بلدان نامية يعيش أفرادها تحت خط الفقر فيها سرقات وتوزيع غير عادل لفرص العمل.

بالمقابل تعيش بلدان عظمى حالة من الرفاهية الكاذبة، دخل مرتفع جدا يقابله ضرائب مضاعفة، فيعيش الفرد ويموت قابعا داخل الدوامة. تضخم وارتفاع في أسعار العقارات والسلع والسيارات بما يخدم سياسات البنوك ورأس المال، تفريق في الحقوق بين المواطنين الأصليين ومن هم قانطين داخل الدولة. الإعلام الفاسد على مستوى العالم من كل مكان و”البروباغاندا” العالمية الكاذبة التي تسيِر الأحداث والمظاهرات والانقلابات بما يخدم مصالحها. هيئات عالمية تستغل حاجة الدول للمال من خلال تقديم القروض طويلة الأجل والتسهيلات مقابل التغلغل والتحكم في القوانين والقرارات الداخلية. ومجموعات متطرفة تزهق أرواح العديد من البشر في شتى بقاع الأرض مرتدية عباءة الدين فتمارس القتل والتنكيل باسمه.

جميع هذه التساؤلات تدفعنا للتفكيربما هو أبعد من فكرة السلام القائم على مجرد غياب العنف والنزاعات وانخفاض معدلات الجريمة وحجم الإنفاق العسكري في الدولة، وما يرتبط به من نوعية الأسلحة المتوافرة فيها وحجم العاملين في مؤسساتها العسكرية، فكل ذلك نختزله تحت مسمى (السلام السلبي). أما السلام الإيجابي وهو جوهر الحديث والأمل الذي تتطلع إليه المجتمعات الباحثة عن التحضر الإنساني الحالمة بالعدالة والحريات يتمثل بالسياسات والمؤسسات والمبادرات التي تتبناها الحكومات من أجل رفع مستوى السلام في مجتمعها ويتم قياسه من خلال كفاءة وفعالية الحكومة والتوزيع العادل للثروات والموارد، والتدفق الحر للمعلومات، والعلاقات الجيدة مع دول الجوار، ومستوى عنصر المال البشري، وانتشار ثقافة قبول حقوق الآخر ووجود بيئة خصبة للعمل، وانخفاض معدل الفساد، وقدرة الدولة والمجتمع على امتصاص الأزمات وتطوير آليات التعامل معها. وهذا ما أشار إليه المفكر والباحث الإجتماعي “يوهان غالتونغ” وهو المؤسس الرئيسي لمعهد بحوث السلام (أوسلو) في عام 1995.

يعد الفساد آفة تعيق المجتمعات والدول من تحقيق السلام الإيجابي، ومن أشكال الفساد:

  1. الفساد السياسي: ينبع من احتكار بعض الأشخاص والهيئات للقرار السياسي بدون انتخابات نزيهة حرة ديموقراطية، واتخاذ قرارات سياسية منفردة وخاطئة تنعكس سلبا على الدولة.
  2. الفساد الاجتماعي: العادات والتقاليد المبنية على جهل بالتطور والإنسانية والذي ينعكس على سلوك الناس، فالأشخاص الذين يحتكرون العادات والتقاليد فقط في التعامل مع الآخرين يعيقون تحقيق السلام الاجتماعي.
  3. الفساد الاقتصادي: فالتوزيع غير العادل للثروات والموارد وعدم تكافؤ فرص العمل، والانصياع للدول الأخرى ينعكس سلبا على الافراد والمؤسسات والمجتمعات، فالدول الغارقة في الديون عالميا لا تحقق الاستقرار الاقتصادي.

 

إن الإجابة عن ماهية شعورنا بالسلام تعد مسألة نسبية تعتمد على واقع الظروف التي نعيشها وما هي رؤيتنا اتجاهه. الذين يتصورون السلام بأنه غياب الحرب باعتبار الحروب هي الأساس هنا سيقى السلام ثانويا، مع أن غياب العنف لابد منه وهو سمة أساسية للسلام، لكنه للأسف يعكس ما أسماه الفلاسفة بالسلام السلبي. أما السلام الإيجابي فهو أحسن طريقة للشعور بالخير والأمان وهو فرصة للتعارف والتلاقي واستثمار الثروات وإخماد العنف، وهو قوة محفزة في حل النزاعات، ويشعر الفرد بكرامته وبالتكريم وبالعدالة والغنى والاحترام وأن لحياته ووجوده في المجتمع قيمة أساسية وغاية لابد للآخرين من تقديرها. السلام لا يولد في المؤتمرات الدولية بل في قلوب الناس وأفكارهم حينما تؤمن به، ولا يكفي الإيمان به بل يجب أيضا العمل لأجله بدءا من الفرد داخل الأسرة ثم في أرجاء الحي بين الجيران، وفي جلسات الحوار مع الأصدقاء، وينمو ليطال المجتمع بأكمله فالدولة وأخيرا سلام على مستوى العالم.

نجوى أبو زهرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *