حاول الإنسان منذ الأزل أن يبحث عن طريقة للتواصل مع محيطه ومع أقرانه منذ فجر التاريخ والإنسان يبحث عن الطريقة الأمثل للتواصل مع أخيه الإنسان ليتمكن من إيصال الأفكار والمعتقدات. الإنسان الأول صاحب الحضارة الأولى استخدم الرسم والنحت قبل أن يعرف الزراعة؛ بحث عن التعبير عن ذاته أولاً قبل أن يفكر بان يرقى بكل شيء أخر. وكان الإنسان البدائي حريصا على تدوين نجاحاته وإنجازاته ومعارفه البسيطة التي يكتسبها أولا بأول وتسجّيلها داخل مساكنه الأولى في الكهوف، فإذا نجح في تحقيق صيد مميز مثلا كان يقوم برسم هيئة يحمل بإحدى يديه رمحا ويجر بيده الأخرى غزالا أو دبا. هذه كانت الطريقة الوحيدة التي استطاع التعبير بها عن نفسه في ظل عدم وجود مفاتيح الكلام. كان الفرعوني يستخدم الحيوانات والرموز البسيطة للتعبير عن رأيه الحقيقي في أصحاب العروش والقضايا المختلفة المحيطة به وتوثيقها. من ثم بداء الإنسان المصري القديم يُظهر عيوب مجتمعه عن طريق رسمها أملاً في إصلاحها، في واحدة من(الأوستراكا الشقفات الفرعونية القديمة) نرى تصويرًا كروكيًّا لصراع بين القطط والفئران لتعبير عن حال المجتمع آن ذاك.
على مر العصور حافظت هذه الطريقة من التعبير عن الذات على أهميتها كونها بسيطة وتعبر بطريقة فعالة عن غايتها ومن هنا كانت شرارة فن الكاريكاتير في العالم إذ يعد قدماء المصريين هم أول من تنبه إلى هذا الفن. الكاريكاتير اسم مشتق من الكلمة الإيطالية “كاريكير Caricare” والتي تعني “يبالغ، أو يحمَّل مالا يطيق”. يعد الكارياكتير من أحد فروع الرسم واتجاه من اتجاهات الفن التشكيلي الذي يمثل الأشياء أو الأشخاص إما بطريقة بسيطة جدا أو مبالغ فيها وذلك للتعبير عن خاصية أو أكثر تتسم بها الشخصية أو الشيء، وعادة ما يتم تقديم الكاريكاتير بطريقة ساخرة لنقد السلبيات أو لمدح الإيجابيات.
يعد الكاريكاتير بمثابة لغة عالميه يمكن فهمه والاستمتاع به على مستوى سكان الكرة الأرضية باختلاف لغاتهم وثقافاتهم ليعبر عن حالة او حدث واقعي يبقى مفهوماً على مر العصور متى ما كان متقناً. فن الكاريكاتير له القدرة على النقد بما يفوق المقالات والتقارير الصحفية أحيانا. يعتمد فن الكاريكاتير على رسوم تبالغ في تحريف الملامح الطبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو حيوان أو جسم ما أحياناً. تلامس الصورة الكاريكاتيرية رسالة من راسمها إلى المتلقي من خلال سياق مشترك قائم على بنية الواقع الذي يعيشونه معًا. من هذا المنطلق فإن الفكرة الكاريكاتيرية قٌسمت إلى أنواع منها الكاريكاتير الاجتماعي، والكاريكاتير السياسي، والكاريكاتير الرياضي، والشخصيات، والتلفزيوني، والقصص الكاريكاتورية.
صدرت أول صحيفة هزلية مصوَّرة في العالم تعتمد الكاريكاتير مادة أساسية فيها عام 1830م على يد الصحافي الفرنسي المشهور شارل فليبون، وسمَّاها الكاريكاتور. يُعِدُّ الكثير من المؤرخين ليونارد دي دافنشي أبًا لفن الكاريكاتير في إيطاليا، هذا عن جذور ذلك الفن الذي استطاع في طياته مخاطبة الآخر بالطريق الأسهل وإيصال الرسائل التي تحمل أسمى المعاني واستطاع أن يكون خطابا راقيا ومقنعا بين الشعوب وبصمة حضارية لكل مراحل حيات الإنسان منذ البداية إلى اليوم عن طريق محاورة الروح والوجدان.
في ظل الظروف المحيطة بكوكبنا الذي لا يهدءا أبداً يخرج من حرب إلى مناكفات إلى حرب باردة، كل هذه الأحداث التي لا يخرج خاسراً منها سوى الأبرياء. حاول العالم الوصول الى طرق سلمية للتعبير عن غضبهم واستياءهم عما يدور من حولهم لكي لا يتكرر السيناريو القديم لويلات الحرب و بقي رسم الكاريكاتير الوسيلة الثابتة دائماً وأبداً.
ليرتفع منك المعنى لا الصوت فان ما يجعل الزهر ينبت ويتفتح هو المطر لا الرعد – جلال الدين الرومي.
بقي للكاريكاتير تأثيراً كبيراً على واقعنا فالضحك نزعة غريزية لها قيمتها في حفظ حياة الفرد والمجموعة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف الفكاهة ويتفنن في صنع الضحك. تطورت هذه النزعة من ضحك تثيره مواقف وأمور عارضة إلى ضحك تثيره أمور ومواقف مقصودة فهو يتجاوز السخرية إلى تعليم الناس وإقناعهم بالثبات على مواقفهم، ويحاول أن يعيد إلى ‘المتلقي’ الحقائق المفقودة، يمكن القول انه كوميديا سوداء. الكاركاتير يعد شكل نوعي من أشكال الوعي الاجتماعي والنشاط الإنساني، يعكس الواقع في صور فنّية، وهو واحد من أهم وسائل الاستيعاب والتصوير الجمالي للعالم.فن الكاريكاتير كالتمثيل الهزلي، الهدف منه ليس هو الضحك والإضحاك فقط، بل في كثير من الحالات هو تقويم وتهذيب وإصلاح ونقد، وذلك من خلال نقد أشكال من القبح أو النقص داخل المجتمع، لكن يشترط في هذا النقد آلا يجرح كما يجرح الهجاء. تكمن أهمية الكاريكاتير في سهولته وبساطته وسرعة وصوله إلى عقل كل إنسان باختلاف ثقافته أو وظيفته أو وضعه الاجتماعي. لتسكن ذهنه وتجبره على التفكير فيما داخل دائرة الواقع وتدعوه إلى تشكيل الدائرة من جديد بفكر وعقل جديدين من أجل واقع أفضل،هذا هو هدف فن الكاريكاتير.
“انه رسم بسيط لفكره كبيره وتعليق ساخر قصير لقصة طويلة “
نرى أن الكاريكاتير يلعب دورًا أساسيًّا في الدفاع عن حقوق الإنسان كما قال الأديب الروسي مكسيم غوركي:
فن الكاريكاتير ذو قيمة اجتماعية نافعة، يعكس أشياء مختلفة غير منظورة بوضوح لنا، وبأسلوب بسيط، يعكس لنا وجوهاً وأنماطًاً جديدة معينة لتصرفات أناس يعيشون بيننا، عدا عن الطرق التي يخوضها فنان الكاريكاتير بتشكيل الملامح والوقائع المجتمعية والسياسية والتي عادة ما تكون لأشخاص معروفين أو لمرشحين أو رؤساء أو وجوه لمواطنين.
شكل فنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي حالة فنية لن تتكرر، فهو الفنان الوحيد الذي كرس قلمه وموهبته لفلسطين فقط دون سواها من القضايا والهموم كانت همه الأكبر. تميز بالنقد اللاذع الذي يعمّق عبر اجتذابه للانتباه الواعي من خلال رسومه الكاريكاتورية، ويعتبر من أهم الفنانين الفلسطينيين الذين عملوا على ريادة التغيّر السياسي باستخدام الفن. حنظله هي أشهر الشخصيات التي رسمها ناجي العلي في كاريكاتيراته، ويمثل صبياً في العاشرة من عمره، أدار ظهره للقارئ وعقد يديه خلف ظهره عام 1973م. أصبح حنظله بمثابة توقيع ناجي العلي كما أصبح رمزاً للهوية الفلسطينية. كما ظل رمزاً للهوية الفلسطينية والتحدي حتى بعد استشهاد مؤلف الشخصية. الى يومنا هذا بقي حنظله بمثابة إمضاء لناجي العلي وكل ثائرٍ على الظلم.
الفنان عماد حجاج شكل قاعدة شعبية واسعة مماثلة لتلك التي شكلها ناجي العلي. حجاج يتميز بأنه رسام ملتزم بقضاياه الوطنية والقومية والأخلاقية، ولم يبتعد يوماً عن التعبير عن حاجة المواطن وإيصال همّه إلى المسؤول، بحيث جعل من بطله “أبو محجوب” صورة عن معايشة المواطن العربي والأردني، للمستجدات الاقتصادية والسياسية التي تجعل من حياته مسرحية هزلية طويلة العرض. لكن حجاج الفنان الذي أبتكر أبو محجوب عام 1993 يتمتع بحس سخرية فطري، ويمرر رسائله الغاضبة المتهكمة على المجتمع والسياسيين عبر شخصية أبو محجوب الرجل النحيل صاحب الذقن الطويل والبذلة المخططة (تجسيداً لشخصية والده بالحقيقة). ليست مهمة الفن تقديم الشكل الخارجي للأشياء، وإنما تقديم المدلول الداخلي لها – أرسطو
زين الصبح