تلك الصغيرة في بلاد الهلال الخصيب

تلك الصغيرة في بلاد الهلال الخصيب

تلك الصغيرة تحدثت عن طفولتها التي قضتها في مدينة ما تقع في أرض الهلال الخصيب والذي تصفه بالأتي: هناك في هذا الهلال شيء غريب، ربما هو ينير حياتنا بطريقة ما ويربطنا به بطريقة كأنه السبب في استمرارنا، ربما له ضوء يجذب اعيننا. هناك علاقة طردية بين انتمائنا له وبين الألم الناجم عن الإنتماء له، كلما زاد الإنتماء زاد الألم. وربما كان شعورنا جميعا بالملكية له سبب الإنتماء… وربما تأثيره السحري.

هناك في مكان ما في الهلال الخصيب كُنَّ هُنَّ حديثات السن تتراوح أعمارهن بين التاسعة والحادية عشرة، وأما الصغيرة فكانت تبلغ تسعة أعوام فقط. بعدما انتهين من درس القرآن جلسن على سور المسجد من جهة باب الرجال وكان ارتفاع السور ما يقارب المترين والنصف. هي تنظر إلى جهة الشارع وقد اعتلى وجهها شيء من استغراب يضاف له حزن حيث كان الناس يتدافعون أمام باب المسجد طالبين المؤن الموضوعة في صناديق كرتونية تحتوي دقيقا وسكرا وزيتا وشيئا من المعلبات. اعتلت مشاعر الصدمة على وجه الصغيرة واستغربت أيْما استغراب، لأول مرة كانت تشهد على حدث فيه توزيع للمساعدات! لقد كانت تتساءل لما يقف الناس هكذا؟!… لما يذلون أنفسهم هكذا؟! يقفون لساعات طوال في الهجير ومن أجل ماذا؟! من أجل قنينة زيت وكيس طحين!… على رغم صغرها إلا أنها لم تدرك أن الناس في حالة فقر يرثى لها والجوع يؤرق أمما في حيها. لطالما كان هذا همًا ثقيلا على كاهلها وكأنها حملت هم جوع العالم على كتفيها… لتستنتج فيما بعد أن مقولة لا أحد يموت من الجوع صحيحة ولكن جملة لا أحد يذل من الجوع غير صحيحة! هل هي أخضعت الموقف بالكامل لمفاضلة بين الذل و الموت!؟

ماذا لو كان العالم أقل جوعا؟ ماذا إن كان العالم أقل عوزا وفقرا؟ هناك في مكان ما في الهلال الخصيب هي تحمل المسؤولية كونها مختصة التبضع الوحيدة في العائلة. كانت أمها تعطيها ورقة الحوائج يرافقها مبلغ من المال فهي تنبغ في الحساب نبوغا سابقا لسنها وتعرف كيف تتحدث الى الكبار جيدا. كانت تتبضع الخضار من عند البائع، هناك عند البائع مكتوب على اللوحة فوق كوم الطماطم الكيلو ب 15وكما هو مكتوب على لائحة الحوائج، بدأت بتعبئة كيلوين من الطماطم في كيس ثم مدت للبائع 30 قطعة نقدية، تفاجئت برد البائع: اعطني بزيادة 10قطع لتجيبه علام عشر قطع؟ ليجيبها بدوره أن الكيلو بعشرين… أنت بعتها “للعم” الكبير الآن ب 15 لما لي تسعيرة أغلى؟! هاتِ النقود وخذي بضاعتكِ يا صغيرة. المؤسف أنها استنتجت أن الأمر ليس كما قالت أمها: إن الكبار دوما على حق؟! ليس جميع الكبار يا أمها على حق حتى الكبار يمكن أن يكونوا مخادعين وغير أخلاقيين، صدمة من العيار الثقيل اخذتها تلك الصغيرة كان ذلك السوق بمثابة تربية عن الأخلاق واللأخلاق في نفس الوقت ولا نعرف كيف! إنما هو الواقع. مع مرور الوقت اكتشفت أن الفساد موجود ولكن مفهومه كبر قليلا ليشمل عامل النظافة والتاجر والمزارع والمهندس والطبيب واستاذ المدرسة وغيرهم.

ماذا لو كان العالم أقل فسادا ماذا يضيرهم لو كانوا أصدق؟ ماذا يضيرهم لو كانوا أنقى؟ هناك في مكان ما في الهلال الخصيب كأنها البارحة في الصف الرابع تجلس بين زميلاتها في المقعد الأخير لقد كانت هادئة نوعا ما. هي لا تعرف الخداع، كانت ذكية بما يكفي لأن تستوعب المواد الدراسية، العلوم والرياضيات واللغة العربية، كانت تلقطها وهي طائرة. قليلة الكلام و منبوذة بطريقة ما ولها صديقة واحدة وفية وطيبة. عندما حان وقت حصة العلوم التي تلت الإمتحان الأول، بدأت المعلمة بتسليم أوراق الإمتحان: سارة… مريم… تلت المعلمة أسماء الصف وهي تقول العبارات التالية: جيدة.. حسني نفسك… لماذا لا تدرسين جيدا… إلى أن وصلت لأخر ورقة… قلبها يدق بشدة وكأن تسليم الورق كان في تلك اللحظة التي تحدثت بها إليّ… ها قد توترت… المعلمة تقول: من هي (وذكرت اسمها)… أنا أنا… للحظة اعتقدت هي أنها حصلت على علامة سيئة!؟

اتضح هذا من التعبير الذي ارتسم على وجه المعلمة… قالت لها المعلمة: تعالي… وما إن وصلت للمعلمة: أأنتِ التي حصلتي على علامة كاملة؟! – نعم، إنه أنا التي حصلت على علامة كاملة- حوار في عقلها لكنها لم تقله خوفا- المعلمة: لماذا لا تشاركي؟… استغربت أنك الوحيدة اللي حصلت على علامة كاملة، لم تتحدثي طوال الفصل ولم تكتبي واجباتك وبدلا من ذلك كنت تلعبين!؟ تعود الصغيرة خائبة إلى مقعدها وقد حملت خيبة وحزنا. ربما كلمات كهذه ستترك أثرا عميقا في ما بعد لتدرك بأن مجتمعها بحاجة إلى جهد جهيد وطاقة فوق الطاقة لكي يستثمر عقلها حق الإستثمار… ربما هذا هو المثال الأبسط لندرك أن دعم العقول النيرة واستثمارها صعب و غير مستحب في مجتمعاتنا. إن الذكي والمجتهد يعامل كأنه حالة غريبة يصعب على الناس تقبله كما هو كما يصعب على الناس تشجيع هذه الفئة من الأذكياء لأسباب عدة أهمها الجهل والحسد.

هل يمكن أن يستثمر مجتمعنا العقول النيرة كما يجب؟ هناك في مكان ما في الهلال الخصيب: خايف من الحسد، العين هسا بتطرقك تحكيش… عشان ما توجع راسك تحكيش… الأحسن تضلك ساكته مشّي الوضع؟ تحكيش… هذا ما كانت تسمعه من محيطها…

هل من المعقول انه قد رُبِيَ الناس على الكتمان… اكتم تسلم، إن الصمت أصبح ثقافة وليس مجرد إمتناع عن نطق الكلمات… أصبح ثقافة منتشرة بين الناس أنفسهم. الثقافة تسود بأن الصمت هو أنجع الحلول وأكثرها أمانا. هي تذكر جزء الحوار الخاص بالسيدتان اللتان تحدثتا في حفل ما… قالت احداهما: “الله لا يجمعني فيه بالآخرة مش بكفيني دنيا منكد عليّ” لترد الأخرى باستهجان “ليش يا بنت الحلال؟” “أنا صبرت عليه مشان الولاد”، الكثير من عدم الإتفاق والمشاكل وعدم التكافؤ حاصل لكن أيّا من طرفي الصراع الأسري لا يريد ترك الأخر هو يفعل وهي تصبر “بس عشان الولاد!”. ماذا فعل الأولاد بنا وبسلامنا؟ أَجَعَلونا خاضعين أكثر مثلا؟ لتدرك فيما بعد أن الصمت هو الحل “وخلي الحياة تمشي”. ثقافة الصمت امتدت خارج البيوت إلى الحي وإلى المجتمع وإلى الدولة بطريقة ما. لا يريد أي منا أن يسمع أو يتكلم أو يرى من المهد إلى اللحد.

هناك في مكان ما في الهلال الخصيب ذهبت إلى السوق، رأت رجلين كبيرين في السن بلحيتين وشاربين. الأول يجلس على رصيف مليء بالغبار أما الآخر فيجلس على كرسي مربع حديدي قد رُصِفت قاعدته بحبال مهترئة لحمل ثقله. لكن هي لا تذكر بالتحديد، ربما كانا يتحدثان عن حرب العراق 2003. أو ربما كانا يتحدثان عن الإنتفاضة الفلسطينية عام 2000 أو ربما كانا يتحدثان عن الحرب في سوريا 2011. المهم بالأمر أن الحرب التي كانا يتحدثا عنها أثرت بالصغيرة على نحو كبير ليس فقط هما يتحدثان.

كل المدينة تتحدث، الجميع رفع أعلاما سوداء حدادا على الأسطح لقد كان إحساسا قوميا بجدارة. عندما تشاهد الأخبار يظهر الأطفال يشبهونها تماما يتحدثون لغتها لكن الفرق بينهم وبينها أنهم كانوا يعانون المر وويلات الحرب حرفيا. أما هي فقد كانت تعاني الخوف من الحرب, حتى لو كانوا ببلد اخر مجاور، ان التهديد لا يزال موجودا على الاقل بالنسبة لطفلة في هذا العمر… أيمكن ان يعيش هؤلاء الأطفال بسلام مثلما تعيش؟ أم يتعين عليها عدم التعاطف معهم؟ عدم إحسان جوارهم والاكتفاء بأن تكبر خلف مرآة لا تريها إلا الموضة والمسلسلات المدبلجة! إن هذه الصغيرة ككل الصغار الذين ولدو في الهلال الخصيب لا تنفك خصوبة الأرض عن جلب الحرب لهم حتى في أمنهم النسبي حرب، حرب باردة ضمنية بلا اسلحة تأخذ جزءا من إنسانيتهم وتجعلهم أكثر عرضة للهموم والحزن والغضب لكنهم بتفاؤل يحلمون بمدن فاضلة يجدون فيها سلاما.

ايمان ابومقرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *