انعِكاسُ المَرايا

انعِكاسُ المَرايا

“لا يُمكِنُكَ الاعتِمادُ على لونِ بَشرتِك وكَيفَ تَبدو حتَّى تشعُرَ بالثَّباتِ والثِّقةِ بِنفسِك. ما هو جميلٌ في الأَساسِ هو أن يَكونَ لَديكَ رَحمةٌ لِنفسِكَ ولِمن حَولَك”. عادةً ما يَرتَبِطُ الجَمالُ بِالنِّساء؛ النَّظرةُ الأولى لِلمرأةِ هي نَظرَةُ تَقييمٍ لِجمالها، لا يُنظَرُ إلى عِلمِكِ، ثقافتكِ ولا مستوى معرفتكِ. يُنظَرُ بدايةً إلى لونِ عينيكِ، لونِ بَشرتكِ، ملامِحمكِ، ومن ثمَّ يأتي دورُ مُحتوى هذا الجسدِ وما يحويهِ من مَعرِفة. في أيِّ مَحفلٍ كُنتِ، وتَحت أيِّ ظَرف، جمالُكِ هو المقياس. لا أُعمِّمُ طبعاً، لكن هذه هي النَّظرةُ الغالِبةُ التي يَنظرُ فيها العالَمُ إلى النِّساء. وعلى الرَّغمِ من ذلكَ لم يستَطِعنَ النِّساءُ الخلاص؛ إذ وصَلَت إلى مَنصِبٍ جيِّدٍ في عَملِها وكانت جَميلةً فَيُنسبُ جُهدُ هذا الوصولِ إلى جَمالِها وتُوضَعُ شهاداتُها وكفاءاتُها على الرَّف.

الجمالُ نِسبي؛ العربُ يتَغنُّونَ بِجمالِ عُيونِ العّربيَّاتِ وبِلونِ البَشرةِ الحِنطيِّ المائِلِ للسَّمارِ كَلونِ رِمالِ الصَّحراءِ وحِنطَةِ مَدينَتِها. وعلى عَكسِ ذلكَ في الغربِ مثلاً كان يُقاسُ مستوى جَمالِكِ بِكم تَقتربينَ من لونِ الثَّلج، وكم تَكونُ عيناكِ قريبةً للونِ البَحر. لا نُنكِرُ أهمِّيَّةَ جمالِ المرأةِ ولا حتَّى نُنكِرُ بديعَ خلقِ خالِقِ الجَمال، فأوَّلُ من اتَّصفَ بِالجَمالِ المُتَّفقِ عليهِ الطَّاغي على المعاييرِ هو سيِّدُنا يوسف عليه السَّلام. لكن ما نُنكِرُه هو المعاييرُ التي تُقَيِّدُ وتُقيِّمُ وتُؤطِّرُ الجَمالَ تحتَ مقاييسٍ مُعيَّنةٍ خاصَّةٍ في ظِلِّ زمنِ جُنونِ الكَمالِ وأطبَّاءِ التَّجميلِ وإعادةِ التَّصنيعِ والنُّسخِ المُكرِّرة. جميعُنا يجبُ أن نَحصُل على ذاتِ الأنف، وذاتِ القَوام، وأن نَخرجَ من ذاتِ القالبِ لِنُصبِحَ جميلاتٍ ونُكرِّرَ أيقوناتِ جمالِ هذا العصر. غابَ مفهومُ الإيمانِ بِالجمالِ المُريحِ لِلعين؛ الجمالُ الطَّبيعيُّ أو حتَّى جمالُ الرُّوحِ الطَّاغي على جَمالِ السَّطحِ أحياناً.

“النِّسبةُ الذَّهبيَّة وهي نسبةُ 1.6 وتُستخدَمُ في حِسابِ وتَحديدِ نسبةِ تفاصيلِ الوجهِ بِشكلٍ مِثالي، فهي مُعادَلةٌ يونانيَّة قديمة واستخدمها الباحثونَ لِتحديدِ أجملِ 10 نساءٍ في العالَمِ واستَخدموا ملامِحهُم في عملِ الوجهِ المِثاليِّ الذي يَجمعُ كلَّ النِّسبِ المِثاليَّةِ لِلجمال“. من المُتناقِضاتِ الغّربيَّة في الحياةِ أنَّنا نعرِفُ جمالَ روحِنا قبلَ أن نَعرِفَ جمالَ أجسادِنا عبرَ انعكاسِ المرايا، أو انعكاسِ صوَرِنا في عيونِ الآخرين. لَطالما رغِبنا بأن نرى شَكلَنا من الخارجِ كما يرانا غيرُنا. يُقالُ بأنَّ من يَمتَلِك الجَمال يَمتلِك مِفتاحًا لِكلِّ شيء… لكن عن أيِّ جمالٍ نَتحدَّث!؟. مَن الذي يُحدِّدُ أنَّ هذهِ المُقوِّمات هي مُقوِّماتُ المرأةِ الجَميلةِ وكُلُّ ما دونَ ذلكَ أشباهُ جَميلات؟ من الذي قرَّرَ أنَّك بِلونِ بَشرةٍ داكنة؟ فأنتِ في آخرِ الصَّفِّ أو ربَّما لن يَصلَ إليكِ العد حتَّى من الذي قامَ بِفرزِ كُلِّ إناثِ الأرضِ إلى بارِعاتِ الجمالِ ومُتوسِّطاتِ جَمالٍ وعديماتِ جمال!

كُلُّنا نرى الجَمالَ بِعينِنا نحنُ لِذلكَ ليسَ لأحدٍ الحَقُّ بِتَقييمِنا. نحنُ جميلاتٌ بِقدرِ ما نرى أنفُسَنا بعينِ أنفُسِنا جميلاتٍ وكفى. عانت النِّساءُ على مرِّ العُصورِ واختلافِ المُجتمعاتِ منَ الأذى الجَسديِّ والنَّفسيِّ بِسببِ النَّظرةِ السَّائدَةِ لِلجمالِ ومُحاوَلةِ تأطيرِهِنَّ بِإطارِ الجَمالِ السَّائدِ في مُجتمَعِهنَّ كما كانَ سائِداً في بَعضِ المُجتمعاتِ الإفريقيَّة . “معاييرُ الجمالِ في إفريقيا أحياناًً تكونُ غريبةً بِالمُقارنةِ مع باقي المُجتمعاتِ بسببِ اختِلافِ الموروثِ الشَّعبيِّ من مُجتمعٍ إلى آخر”. الجَمالُ كَلمةٌ فَضفاضة، وما يَعتَبِرهُ هذا المُجتَمعُ عيباً جماليّاً قد يراهُ مُجتَمَعٌ آخرٌ ميِّزة. مثلاً، تَرى بَعضَ الشُّعوبِ الإفريقية أنَّ الفجوةَ بينَ الأسنانِ أو بروزِ الأسنانِ الأماميَّة ميِّزة، في وقتٍ تَعمَدُ نساءٌ أٌخرياتٌ إِلى تَركيبِ قِطعٍ من الخَشبِ والطِّينِ في شِفاهِهِنَّ السُّفلى لِتُصبِحَ مُتدلِّية وكبيرةَ الحجم. كذلك، هُناكَ شعوبٌ تَعتَبرُ أنَّ الرَّقبةَ الطَّويلةَ والأكتافَ العريضَةَ والشَّفتانِ المَشقوقتانِ ميِّزاتٍ لا يَتمتَّعُ بهِنَّ غير الجميلات.

يُقالُ أيضاً أنَّ السُّمنةَ كانَت أحَدَ أبرزِ مُقوِّماتِ الجَمالِ في إفريقيا فَكانَت السَّيِّداتُ آنذاكَ تَتبعُ سياسةَ التَّسمينِ حيثُ أنَّ ارتباطَ الجمالِ التَّقليديِّ بِالسُّمنةِ لهُ جذورٌ تعودُ إِلى البيئَةِ والعاداتِ السَّائدةِ سابِقاً. وبِحسبِ التَّقاليدِ القَبَليَّةِ في البِلاد، لا تَتَزوَّجُ المَرأةُ إلَّا في حالِ وصلَت إلى دَرجةٍ مُعيَّنةٍ من السُّمنة. يَلفِتُ إلى أنَّ السُّمنةَ ميِّزةٌ تَزيدُ من حُظوظِ المرأةِ في العُثورِ على زَوج. أمَّا في الصِّينِ فَقد اشتُهرَ عُرفاً من أكثَرِ أعرافِ الجَمالِ ألماً وأذى وتشويهاً، وهوَ الحِذاءُ مُقيِّدُ الأقداممن علاماتِ الجَمالِ في الصِّينِ هي القَدمُ الصَّغيرة، ولِتَضمنَ العائِلاتُ جمالَ بناتِهنَّ وتزويجِهنَّ يَقُمنَ بِتَقييدِ أقدامِهنَّ من خِلالِ حذاءٍ يَمنعُ نُموَّها وهُنَّ في سنٍّ صَغيرة.

في غينيا الجَديدةِ وعَددٍ من البُلدانِ الإفريقيَّةِ تُعتَبرُ النُّدوبُ زينةً بالنِّسبةِ لِلنِّساء، إذ يملأنَ وجوهَهُنَّ وأجسادَهُنَّ بِها بطريقَةٍ فنيَّة. وتُشيرُ هذهِ النُّدوبُ إلى الجَمالِ وحُسنِ القَوام. في أحدِ قُرى بورما المُسمَّاة «قريةُ النِّساءِ الزرافات» تَضعُ المرأةُ في عُنقِها أساوِرَ وحلقاتٍ حتى تَبدو رَقبَتُها طويلةً جدًّا. حيثُ إِنَّهُ في هذهِ القريَةِ صاحبةُ الرَّقبةِ الأطولِ هيَ الأكثرُ جمالًا. ووِفقًا لِلحكاياتِ والأساطيرِ الشَّعبيَّةِ الخاصَّة. تَحصُلُ الطِّفلَةُ الصَّغيرَةُ على حَلقَتِها الأولى وهيَ في عمرِ 5 سَنوات. أمَّا في اليابانِ فأساسُ الجَمالِ عِندَهُم هي الأسنانُ المِعوجَّةِ والمائِلةِ ويُطلِقونَ عَليها اسم “Yaeba” ويَعتقِدُ عامَّةُ الشَّعبِ اليابانيِّ أنَّ من تَمتلِكُ أسنانًا مِعوجَّة تَكونُ الأجمل، لِذلكَ تَذهَبُ النِّساءُ إلى أطِبَّاءِ الأسنانِ لِتغييرِ شكلِ أسنانِهِن. من خِلالِ النَّظرِ إلى كوريا الجنوبيَّةِ يُعتبر الحُصولُ على وجهٍ قلبيٍّ أي على شكلِ قلبٍ من سِماتِ الجمالِ والحُسنِ إذ تَتمُّ تِلكَ العَمليَّةُ بِكَسر عِظامِ الفكِّ لِثلاثِ قِطعٍ وإزالَةِ الجُزءِ الأوسَطِ ودمجهِم معاً لِتشكيلِ ذَقنٍ أكثرَ تَحديداً، ولكن بَعدَ فترةٍ مُعيَّنةٍ منَ العمليَّةِ هذِهِ يُصبِحُ الإنسانُ غيرَ قادِرٍ عَلى أكلِ الطَّعامِ الصَّلبِ إطلاقا.

على الرَّغمِ من اختلافِ مقاييسِ الجَمالِ من مُجتمعٍ إلى آخرٍ لكنَّ المقياسَ العالميَّ لِلجمالِ كانَ هو لونُ البشرةِ بِدايةًً. وفي مُحاولةٍ منَ المُجتمعِ الدَّوليِّ لِلمُساهمةِ في تَغييرِ النَّظرَةِ السَّائدَةِ لِمفهومِ الجمالِ عالَميّاً فَيُعَدُّ ما جرى بِحفلِ تَتويِج ملِكَةِ جمالِ الكَونِ لِهذا العامِ أحدُ أبرزِ المُؤشِّراتِ على كَسرِ القوالِبِ النَّمطيَّةِ الأُنثويَّةِ في مُسابقاتِ الجَمالِ العالميَّة. حيثُ أنَّهُ ولِلمرَّةِ الثَّانيةِ مُنذُ حوالي الأربعينَ عامٍ تُتَوَّجُ فتاةٌ سمراءٌ بِهذا اللَّقب. يأتي هذا التَّتويجُ بعدَ عامٍ من تَتويجِ المَكسيكيَّةِ ذاتِ البَشرةِ السَّمراء أيضاً بِلَقبِ ملكَةِ جمالِ العالم، وهي المُسابَقةُ الثَّانيةُ الكُبرى حولَ العالم. كما شَهِدت الولاياتُ المُتَّحِدةُ واقِعةً غيرَ مَسبوقَةٍ هذا العالم، وهي أنَّ الفائزاتِ بِمُسابقاتِ مَلِكةِ جمالِ الولاياتِ المُتَّحدة، وملِكَةِ جمالِ المُراهِقاتِ الأمريكيَّات، كُنَّ جميعُهنَّ من الفتياتِ ذواتِ البَشَرةِ السَّمراء.كما وتأتي مَلكاتُ الجمالِ الجُددِ صاحباتُ البَشرةِ السَّمراء، ليتّحدَّينَ معاييرَ الجمالِ “الكلاسيكيَّة”، التي لَطالما صُنِّفت الشَّقراواتُ وذواتُ البَشرةِ البَيضاءِ الأجمَلِ في العالَم. بالإضافَةِ إلى الأخذِ بِعينِ الاعتِبارِ الجمالَ الدَّاخليَّ والمَعرفَةَ التي تَمتلِكُها المُتسابِقاتُ ومدى نشاطِهنَّ بِالأمورِ الاجتِماعيَّةِ والنَّسويَّةِ ومدى التَّغييرِ الذي يَطمحنَ لِصُنعِهِ والمساعدةَ بِحدوثه.

لا يُمكنُ الحديثُ عن النِّساءِ والجمالِ بِمعزِلٍ عن دورِهنَّ السِّياسيِّ الحالي، فمن ضِمنِ المُتغيِّراتِ التي باتَت لِصالِحِ النِّساءِ هي حُكومَةُ فنلندا الَجديدَةِ التي تَرأَسُها أَصغَرُ رئيسَةِ حُكومَةٍ في العالَمِ مُلقينَ الضَّوءَ على جَمالِها وعُمرِها البالِغِ 34 عامًا لِتُصبِحَ أصغرَ قادةِ العالَمِ سِنًّا. “نَجوبُ العالَمَ بَحثاً عنِ الجَمالِ ولا نَدري أنَّنا يَجِبُ أن نَحمِلَهُ بِداخِلنا وإلَّا لن نَجِدَهُ أبداً”. في ختامِ أمسِيَةٍ تَمحورَت حولَ حقِّ المرأةِ في تقريرِ مَصيرِها تُوِّجت ملكةُ جمالِ جَنوبِ إِفريقيا «زوزيبيني تونزي» مساءَ الأحَد 8 ديسمبر/كانون الأول 2019 في وِلايةِ جورجيا الأمريكيَّة، مَلِكةً لِجمالِ الكونِ في خِتامِ أُمسيةٍ تَمحورَت كثيراً حولَ حقِّ المرأةِ في تقريرِ مَصيرِها. هي ناشِطةٌ اجتماعيَّةٌ تُدافِعُ عن حُقوقِ المَرأةِ وناشِطةٌ اجتماعيَّةٌ تتعاوَنُ مع الجمعيّاتِ لِتُدافِعَ عن حقوقِ المرأةِ ومُساواتِها مع الرَّجلِ وتُشارِكَ في فعاليَّاتٍ تُكافِحُ العُنفَ القائِمَ على الحالَةِ الاجتماعيَّة.

“نَشأتُ في عالمٍ لم يَعتبر المرأَةَ مِثلي، بِنَوعِ بَشرَتي ونوعِ شَعري، أبداً جميلة… أعتَقِدُ أنَّ الوقتَ قد حانَ لِيتوقَّفَ هذا اليوم، أُريدُ أن يَنظُرَ الأطفالُ إليَّ ويَروا وجهِيَ وأريدُهُم أن يَروا وجوهَهُم تَنعكِسُ فيّ. سأبذُلُ كلَّ ما في وِسعي لِتشجيعِ الفَتياتِ على الوُثوقِ بِأنفُسهن، إنَّ أهمَّ شيءٍ يَجِبُ أن تَتَعلَّمَهُ الفتياتُ هو أن يَكُنَّ قياديَّات. إنَّهُ شيءٌ تَفتَقِرُ إِليهِ النِّساءُ والفَتياتُ لِفترةٍ طويلَةٍ لِلغاية، ليسَ لأنَّنا لا نُريدُ أن نَفعلَ ذلك، ولكن بِسبَبِ ما دعى المُجتمَعُ النِّساءَ إِليه. نحنُ أقوى الكائِنات في العالم. لِتُبذَلَ الجُهودُ في إطارِ تَشجيعِ الحِوارِ حولَ العُنفِ القائِمِ على النَّوعِ الاجتماعيِّ في هذا البَلدِ الذي تَنتشِرُ فيهِ مُمارساتُ القَتلِ والاغتِصابِ التي تَستهدِفُ النِّساء.

جَمالُ المرأةِ لا يُقاسُ بِمواصَفاتِها القياسيَّة 90-60-90… بَل يُقاسُ بِحسبِ ما تَمتَلِكهُ من روحٍ جميلَةٍ وثِقَةٍ بِالنَّفس.

زَينْ الصُّبحْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *