المُخلِصُ لَك

المُخلِصُ لَك

عزيزي المعني،

لا أريد تفاخرًا في هذه الرسالة إلا أني أود طمأنتك على حالي. أستميحك عذرا إن أطلت. أحيطك علما بأنه يمكنني الآن أن أختار. ههه نعم يمكنني أن أختار كل شيء أريده… يمكنني أن أختار ملبسي… كل يوم ألبس حسب لون السيارة أو بالأحرى أختار السيارة حسب لون الملابس. كل يوم أذهب إلى “الجيم” قبل العمل الجميل الرائع، فطور خفيف وفنجان قهوة فاخر. العمل الذي حصلت عليه بسهولة فائقة بمؤهلاتي الخاصة، روعة لا أقول لك، الاحترام متبادل بين الجميع والزملاء في المكتب طيبون ومن دون أسافين أو شيء من هذا القبيل. حتى المدير، المدير… واه أماه كم هو لطيف يعاملني كأني قيمة، كأني إنسان ويقدرني لأجل عملي المتميز والجاد ويتقبل الأفكار الجديدة. ليس هناك بيروقراطية ولا مأسسة قديمة رجعية، لا أبدا، المدير يعطيني إجازات سنوية بحق الله. الراتب جيد جدًا لا أحتاج للدين في منتصف الشهر مطلقا، أكفي عائلتي ملبسًا ومأكلًا ومشربًا.

في كل يوم عندما أعود للمنزل وأنا مرتاح من كل شيء، تصطف الأشجار على جانبي الطريق. الهواء النظيف ينعشني فلا تلوث ولا غبار ولا نفايات. النفايات يعاد تدويرها طبعا. حدائق عامة وممشى رائع. الهواء والنسيم يضرب شعري الحريري والمغسول بالشامبو غالي الثمن. وعندما أعود إلى البيت الذي أجده رائعا، كل شيء يستحيل الى راحة، المكيف يحميك من برد الشتاء وحر الصيف. الكهرباء لا تنقطع نهائيا والمياه كمياه نبع صافٍ دون فلاتر تحليه وحياتك.

أبنائي يدرسون في مدرسة رائعة. المعلمون ملهمون ويعملون بجد مثلي تماما. في المدرسة يخصص منهج لتربية الأطفال على المبادئ والأخلاق. أطفالي تعاملهم رائع نتاج العملية التربوية. النظافة في المدرسة تتعدى كل المقاييس، ومناهج التدريس حديثة، لا صراخ ولا تعّنيف. الأسوار عادية ليست عالية، ليسوا بسجن، لعب وتّعلمٌ بذكاء لا تلقين ولا كبح للأفكار نهائيا. الأطفال… لو رأيت الأطفال، مؤدبون وغير متنمرين ولا يلعبون في الشارع، والأهم أنهم متميزون في دراستهم.

عندما كنت في الجامعة، كانت الحياة جميلة، لا ندفع فيها رسوما نهائيًا. حتى أن طعام الجامعة مدعوم ورخيص الثمن. الأساتذة رائعون لا يحملونك ذنب أنهم درسوا الدكتوراه نهائيا ولا يحملونك وزر دراستهم. لا يعايرونك بجهلك أبدا، كل ما يريدون هو تعليمك بالشكل الأفضل، مكاتبهم مفتوحة لك وأينما ذهبت هم يدعموك. أنهم يتحملوا جهلك الآني، إنهم يقدرون قدراتك الفردية وتطويرك للنظريات المختلفة والأهم من ذلك، انهم يتقبلون النقد منك. يؤمنون بمقولة “كم من تلميذ غلب أستاذه”. في الجامعة هناك مختبرات مفتوحة ليلا نهارا فقط لتختبر نظرياتك وأفكارك.

إن الجميع في وطني مرتاحون، لا احد يشتكي الفقر، لا أحد معوز. أريد أن أتبرع بالفائض من أموالي المكدسة في البنك لكن، لا أجد أحدا اتبرع له بهذا المبلغ لذلك أنا مستاء. أيعقل ان لا أحد يشعر بالجوع,؟ أين الناس أين العالم! الكل محقق لرفاهه، نعمة من ربنا والحمد لله.

عندما أمرض وأذهب الى المشفى، المستشفيات… أواه على المستشفيات كم هي نظيفة، كم هي رائعة. الممرضون رائعون وكذلك الأطباء، خيال. رعاية فوق الريح، معاملة ولا أجمل، لا يوجد مرضى آخرون في الغرفة سواي، لا أحتاج أن أقرع الجرس فالجميع فوق رأسي، الطعام في المستشفى وكأني في مطعم، لكن الفرق أن الطعام في المشفى يكون صحيًا وملائما لطبيعة الدواء والشفاء… تخيل ذلك.

الأمن في منطقتي مستتب لا مشاكل بين الجيران والقلوب صافية. لا عنف بين الناس، لا يوجد تعريف للقّنوات والأسلحة البيضاء أبدًا أبدًا. والنساء يمشين في الشارع دون معاكسات. النساء، لا يُعنفن ولا تُستغل أموالهن ويُحترمن بشكل كبير. والأولاد لا يعنفون جسديًا ونفسيًا، لا يلعبون في الشارع لأن لديهم ملاعب خاصة. لم نسمع عن حالات انتحار ولم نسمع عن ضياع شباب المجتمع، أنهم لا يتعاطون المخدرات خصوصا الجوكر والحشيش وانهم ليسوا ضائعين بين اللحى والشوارب والرؤوس.

الجميع في وطني يُسمع صوته، الجميع بلا استثناء والنواب قائمون على الشعب خير قوّامة ولا يأخذون راتبا. لم يقوموا بمشكلة من أجل ضمان اجتماعي، مثلوا الشعب خير تمثيل حتى أنهم بصف المطالب الشعبية دوما. ليس هنا واسطة ولا محسوبية حتى أن الشباب لا يؤمنوا بعلاقات “ضبط وضعك، أتعرف فلان” لا لا لا… وصل الشباب إلى مواقع المسؤولية فالوزراء يضمون شبابا من الفئة العمرية العشرينات والثلاثينات والأربعينات. الوضع لوز… والأمور تمشي على هدى وتقدم. أما الإقتصاد، يا عيني على الإقتصاد… بالصابون وبالمية، يا سلام… يا سلام. تتدفق الملايين وكل ذلك من عائدات الزراعة والصناعة والتجارة. في النهاية، أود أن تكون حالك جيدة وأود أن كل شيء بخير؛ الصحة والأبناء والأهل جميعا بخير. سوف أزورك إن أتيحت لي الفرصة لكني مشغول برفاهيتي حاليا. لا تقلق عليّ، فالحال عال العال. أستودعك السلامة إلى اللقاء. – المُخلِصُ لك

بينما كان الجو باردا شتويا والسماء ملبدة بالغيوم وبلا أمطار، طَرق الباب رجل يبدو أنه يعمل في مشفى المدينة، استغربت وجوده عند الباب قائلا: هذا الرسالة لك، استغربت جدا وقلت من الذي بقي يبعث رسائلا ورقية لغاية الآن؟! هذه الرسالة لك، أنا مُستخدم في المستشفى وقد أسر لي الرجل أن أبعث بهذه الرسالة لك. لقد كتبها على ورقة وصف المريض من الخلف ويبدو أنه لم يجد ورقة ليكتب عليها. لقد توفي كاتبها بعد أن عانى من المرض، الأرجح انه أصيب بنوبة قلبية نتاج الألم. لم يأتي أحد لرؤيته أو الإطمئنان عليه بل كان المحتاج للكلمة الطيبة بدلا من الضحك الذي أصاب الطاقم الطبي حتى بعد موته. الأرجح أنه فقد أمانه الإنساني بالكامل ولم يتحمل ذلك فآثر الموت. امتعضت واحترت وجلست على عتبة بيتي أقرأ الرسالة بينما كنت أقرأ أصبت بنوبتي ضحك وبكاء معًا! يبدو أن ريح الشتاء تعصف ببيتي وبالشارع وبالحي وبالمدينة وبالوطن وتذكرت قول الشاعر: إن حظه كدقيقٍ فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه صعُبَ الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه إن من أشقاه ربى كيف أنتم تُسْعِدُوه

إيمان أبو مقرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *