إن التظاهر اليوم بأن الأمور جميعها على ما يرام أصبح عادةً متأصلةً فينا كأفرادٍ وجماعات التظاهر بأننا نقبل الآخرين والواقع الذي نعيشه، نقبل الضرائب، وضياع الفرص، نقبل الظلم، بمختلف الأشكال والصور، لا لشيء، عدا أنه أصبح شيئاً روتيناً بحتاً. لكن ما زالت هنالك آلاف المكنونات الداخلية التي تشعرنا بعدم الراحة وفقدانها يجعلنا نفكر في أفعالنا وإن كانت صحيحة أم لا. إستجابة لهذا النوع من المشاعر تترتب أفعالنا المستقبلية بالهجوم أو بالتقبل. تظهر هنا مشاكل التطرف والعنف، نتيجة رئيسة لعدم الرضى، والإستعداد للهجوم، أو ظهور مجتمعات ضعيفة ومضطهدة يتغلغل بها الفقر والعوز، ويتخلخل في جذورها الكراهية والحرمان. في كلتا الحالتين، هي حالة من عدم الإستقرار و الشعور بالراحة.
يسّقَطُ هذا الكلام على مختلف فئات وشرائح المجتمع بما فيها من مؤسساتٍ وطوائف دينية وقبلية وعشائرية، ونظراً للأفعال التي تقوم بها هذه الفئات يتحدد مستوى الوصول إلى العدالة و الحريات، و تتحدد مستويات المظالم و سلب الحقوق. عادةً ما تكون هذه المشاعر نتاجاً متجسداً لظنوننا -في بادئ الأمر-، ولكل تلك الأوقات التي كنا نظن بأننا نمتلك المعرفة الكاملة والحقيقة المطلقة. أيضا، إنها نتاجٌ للحكوم المسبقة التي نطلقها على مختلف الأصعدة والمعطيات. إن مجتماعاتنا أحوج ما تكون إلى المعرفة، المعرفة التي تجرد الشيء من كافة علامات الإستفهام التي تدور حوله، معرفةٌ يتبعها فهمٌ وتطبيقٌ عملي صريح. يسهل علينا إطلاق الأحكام و بالتالي إعطاء ردود أفعالٍ اعتماداً على المعطيات المقدمة، وما ينتج عنها من مسببات وتبعات. لبندأ هنا مرحلة فريدة ومتقدمة تدعى النهضة والتطور، والناتجة عن عملٍ جادٍ ومدروس للإرتفاع خطوة خطوة على سلم العدالة الإجتماعية. العدالة مفهوم متعارف عليه منذ الأزل، و لكن تطبيقاته ليست بالشيئ المألوف وخصوصاً ببيئتنا في المجتعمات العربية والتي قامت على أعراف وتقاليد بنيت عليها الكثير من القيم والرموز التي قد تحوي على الكثير من الخطأ والحكم المسبق وترصد العيوب وتحجيمها حجماً أضخم مما تبدو عليه.
العدل كما الحقيقة لا يقبل المساومة و إنما يجب أن يتنزع، وأن يأخذ كاملاً لا مجزءاً. وصف جون رولز العدالة في كتابه (نظرية العدالة): “كل شخص يمتلك حرمة غير قابلة للانتهاك بالاستناد إلى العدالة بحيث لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها حتى لمصلحة رفاهية المجتمع. لهذا السبب تنكر العدالة أن فقدان حرية بعضهم يمكن أن يكون صحيحاً من أجل تحقيق خير أكبر للآخرين. إنها لا تسمح بالتضحيات المفروضة على بعضهم مقابل مجموع أكبر من المنافع يتمتع بها الأكثرية”. كما أشار أيضاً في حديثه عن العدالة الإجتماعية كونها فرصاً متساوية على مختلف الأَصعدة، ابتداءً بعدالة الدستور والقوانين والأنظمة و وصولاً إلى عدالة الفرد الواحد بالمجتمع من خلال تطلعاته وأحكامه، وبالتالي عدالة المؤسسة التي يعمل بها و عدالة المجتمع المدني ككل. تعمل العديد من المؤسسات والمنظمات العالمية للوصول إلى العدالة من خلال برامج وخطط واستراتيجيات عالمية وتعمل بالشراكة مع مؤسسات و حكوماتٍ محلية. تحاول بها تقديم الحلول الأفضل والتي من شأنها أن تعالج أشكال اللاعدالة والمظالم المنتشرة في كل مجتمعٍ على حد سواء من خلال دراسات معمقة ومتعددة الأطراف والآراء.
تناهض بها العديد من أشكال العنف وخطاب الكراهية و التطرف العنيف التي يتعرض له المجتمع بكافة شرائحه وتوجهاته. هي بالتأكيد النقيض الفعلي لمفهوم العدالة الاجتماعية ولكن هذه الخطط والإستراتيجات لا تغير شيئاً إن بقيت كلاماً مصفوفاً ومنسقاً على ورق مطبوعٍ وملون يعبر عن أرقام مثبتة وحالات عديدة وأمثلة واسعة من شتى بلدان العالم. الأصل في هذه الخطط هو التطبيق وتجسيد هذه الكلمات إلى أفعال محسوسة و ملموسة نرى آثارها على حياتنا اليومية ومشاريعنا المستقبلية. للحصول على هذا التطبيق، نعود مجدداً إلى المعرفة والفهم الحقيقي والذي سيقودنا إلى هذه الأفعال والتغيرات الإيجابية، وتعلم طريقة الحوار الفعال والهادف. ليس فقط إلقاء اللوم و التذمر من الواقع، وإنما التقبل بهدف التحسين والنهوض، والتكاتف المجتمعي و تعزيز دور الشباب الطموح، و إعطائهم الفرصة للتعبير كما هي حرية مشروعة لجميع فئات المجتمع بمختلف الأعمار والإهتمامات والتطلعات.
تركيزنا على الشباب هنا، لأنهم الفئة الأكثر استهدافاً من الجماعات المتطرفة العنيفة، فبدلاً من ضياعهم في مثل هذه الجماعات المتطرفة، يجب توجيههم إلى ما هو خير لهم، فهم الفئة التي يبنى الغد على أيديها ولها. الفئة التي إن وجهت إلى الطريق الصحيح سنرى النتائج المثمرة على مدى عقود عديدة لأنها أيضاً هي الفئة التي تنشأ الجيل القادم وتساعد على تربيته القيم التي ورثت له من مجتمعاتها. دور الشباب في العدالة ينبع من إيمانهم في غدٍ مشرقٍ يبنى عليه مجتمع صحيٌ وسليم خالٍ من جميع مظاهر عدم المساواة والحكم المسبق. كما يجب التركيز على مفهوم الجندرية عند التحدث عن مفهوم العدالة و فهم الدور المترتب على كلٍ من النساء والرجال على حدٍ سواء و التركيز على دور الأم في تنشئة الأطفال، والمعلمة التي تربي في المدرسة. أيضا، التعلم من تجارب البلدان الأخرى ونقل هذه الخبرات للتصدي من جميع أشكال التطرف العنيف، لأن مستقبل البشرية هو مستقبل العيش المشترك وتقبل الآخر مهما اختلف باللون أو العرق أو الديانة أو حتى بالفكر. لنكون من أصحاب الصوت المسموع. لندافع عن سعادتنا واختياراتنا ونحميها من كل ما قد يضر بها أو يعتبرها شيئاً شاذاً وغير متقبل. علينا إيجاد أرضٍ مشتركة ومساحة للتعبير والنقاش والحوار السليم الذي يخلو من الإهانة أو انتهاك الحقوق. واستبدال خطاب الكراهية بخطاب المحبة والدعوة إليه في كافة المحاور والسبل والذي يساعد جميع الأطراف على العمل معاً للوصول إلى حلول مقبولة ومتوازنة والأهم بأن تكون هذه الحلول المقدمة حلولاً عادلةً للجميع.
بالتالي الوصول إلى مجتمع راضٍ، محبٍ لجميع مظاهر التعبير السلمي، متقبلٍ لكل مظاهر الإختلاف، و التي لا تتعدى على حرياته الأساسية، حاصلاً على جميع الفرص التي يحتاج للوصول إلى النهوض الإقتصادي والإكتفاء بالمصادر والموارد المتاحة و لق بيئة تنافسية عالية المستوى. كل ذلك من وسعه أن يضمن العمل بنزاهة وأمان، حتى يصل إلى الرضى عن نفسه، ويظهر جميع معاني المواطنة والإنتماء والثقة بالسياسات الداخلية والخارجية. الذي بدوره يعزز مفاهيم النهوض والرفعة وإيجاد مستقبل أفضل يخلو من الحقد والكراهية ويدعو إلى التعايش في تقبلٍ وسلام.
إسراء منصور