السوشيال ميديا من عالم افتراضي إلى واقعٍ حياتي

السوشيال ميديا من عالم افتراضي إلى واقعٍ حياتي

سبق أن قرأت رواية المقامر “لدوتسوفيسكي”؟ تناولت هذه الرواية الرائعة قصة المقامر الذي حلم كثيراً بالثراء السريع من بوابة القمار السرية حتى لقى حتفه داخل جدران هذه المملكة القاتلة. ربما ستعتقدون أنني أبالغ إن قلت بأنَ الإدمان على شبكات مواقع التواصل الإلكتروني المصممة خصيصاً لتكون أكثر شبهاً بآلات المقامرة أو القمار المنتشرة في الكازينوهات. حتى أنها تستعمل نفس التقنيات تقريبا لجذب الجمهور وإبقائهم لمدة طويلة، فمع انتشار التكنولوجيا والهواتف الذكية في أماكن لم تصل لها في السابق أصبح لدينا ارتفاعٌ في أوقات المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي بنسبة تصل إلى أكثر من 60%، وحتى الكثير من الناس لا يعتقدون بأنهم مدمنين على الإنترنت ولكنه إدمانٌ حقيقي حتى وإن لم تعترف بذلك.

شبكات التواصل الإجتماعي يعاملوك كمدمن شئت أم أبيت، والعلماء يشبِهون هذا النوع من الإدمان بإدمان القمار بمفهومه المعاصر نظراً لأن الخدع والآلات التكنولوجية المستخدمة في الكازينوهات هي نفسها الموجودة في مواقع التواصل الإجتماعي لإبقاء الأفراد لأطول فترة ممكنة واستدارجهم لمزيد من التفاعل والتواصل مع هذه الآلة. وهنا لا أقصد بالآلة الهواتف أو الكمبيوتر بحد ذاته، إنَما النظام المتكامل الشامل المبني في هذه المواقع سواء كانت فيسبوك وتويتر ويوتيوب وأمازون وغيرها. وهذا بات واضحاً، فهم يقومون ببرمجة سلوكياتنا وتصرفاتنا دون أن ندرك، وذلك من خلال جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات الشخصية، فعند تسجيل الدخول يطلب الفيسبوك مثلا اسمك وعنوانك ووظيفتك وعمرك وجنسك حتى مكان ولادتك وميولك الجنسية، تخَيل!. ليس هذا فقط، بل هو يعلم ماذا تحب وماذا تكره من خلال إضافة أزرار الإعجاب وعدم الإعجاب، ويقوم بحفظ كل نشاط قمت به من مشاركة صورة، أو بوست حتى مكان تواجدك من خلال خدمة تحديد الموقع، ويظهر لك منشورات الأصدقاء على حسب أهميتهم عندك!

الفيسبوك لديه القدرة على التعرف تلقائياً على الوجوه بنسبة 97.25%، ربما تكون النسبة المتبقية للتوائم والتي لم يستطع الفيسبوك بعد خلق خوارزمية للتمييز بينهم!. الفيسبوك تحديدا يستخدم خوارزميات مبنية على نظريات من علم السلوك البشري والتي تستقطب الفرد بشكل مخيف من خلال إظهار كل ما يرغب به. الفيسبوك لا يظهر لك إلا الإعلانات التي تشكل محط اهتمامك. لربما تساءلت مؤخراً إن كان الفيسبوك يتنصت عليك عندما تتحدث مع صديق ما عن موضوع معين أو عن شيء ترغب به، لتجد هذا الشيء فوراً في صفحة الأخبار الخاصة بك على الموقع. هذا صحيح حتى وإن لم يكن بشكل مباشر، فهم لديهم الكثير من البرامج التي بالإمكان دسَها للوصول إلينا من خلال الهاتف. إنَ كل تلك الخدمات التي يستحدثها الفيسبوك ليست إلا لهدف واحد، وهو تحقيق المليارات من الأرباح المادية من خلال جذب المشاهد لأكبر وقت ممكن حول هذه الإعلانات التي يدعمها فيسبوك، والهدف هنا هو تسويقي بحت.

هنا نؤكد أن الفيسبوك هو لعبة فنان! يقوم بتتبع اهتمامات البشر المتشابهة يضعها في قوائم خاصة ليصنع منها قاعدة بيانات ضخمة ثم يبيعها للشركات المعنية، فمثلاً، إذا كنت من هواة السيارات سيضعك الفيسبوك أنت وغيرك ممن تستهويهم السيارات في لائحة خاصة ويقدمها لشركات بيع السيارات مقابل مبلغ معين، وهنا ستضمن الشركة بأن إعلاناتها ستصل فقط لمن لديهم إهتمام بالسيارات لتحقيق أرباحا مضاعفة، وبهذه الطريقة أزال الفيسبوك كلًا من الراديو والتلفاز وغيرها من الوسائل التسويقية من أمامه، لأنه أظهر الدعاية للمهتم فقط وليس للجميع، وحصل من اللاشيء على مليارات طائلة! حقاً إنها لعبة فنان!

إنَ منصات التواصل الإجتماعي ليست بالطيبة التي نعتقد، وعندما نتحدث عن الإستراتجيات التي تتخذها لجذب المستخدم لها أسلط الضوء على تطبيق الفيسبوك كونه المنصة الأولى المتربعة على عرش الإنترنت. لك عزيزي القارىء أن تُسقط كل ما أقول على التطبيقات الأخرى، فجميعها تستحدث نفس الأساليب ولكن الفيسبوك تحديداً سبَاق دائماً ويحتل المرتبة الأولى على مختلف الأصعدة. فهو مصنف الأول عالمياً في التأثيرعلى القرارات السياسية وبحسب الإحصائيات فقد بلغ عدد مستخدمين الفيسبوك في عام 2017 حوالي 2.2 بليون مستخدم، وكانت أرباحه في نفس العام حوالي 40 بليون دولار.

لأنَ هذا الكيان عملاقٌ جداَ وقد أسس مملكة عظمى إذا لابد له أن يحافظ على ديمومته واستمراره في أن يكون المنصة الأولى. هذا لا يتحقق إلا بجمع أكبر قدرٍ ممكن من البيانات عن مستخدميه وبالتالي تقديم محتوى مبنيٍ على رغباتهم، الفيسبوك يعلم حوالي 29 ألف معلومة عن كل مستخدمٍ له. ربما ستتعجب من هذا الرقم لكنه حقيقي يا صديقي، الفيسبوك يعلم كل تفاعل تقوم به، كل تفاعل تعتقد بأنه بسيط، من إعجاب للمنشورات، والمراسلات على “الماسنجر”، والصفحات التي تثير اهتمامك فتضمها إلى صفحتك وطريقة تفاعلك مع الأصدقاء والأخبار والإعلانات. قام بعمل نظام محاكاة بشري ضخم بمقدوره معرفة كيف تفكر، ويتنبأ بسلوكياتك وقراراتك وفهم مشاعر الأفراد، وعليه سيجذب لك كل ما يقاربك ويشبهك من أصدقاء، إعلانات وغيره. لتحقيق هذا النظام من المحاكاة يقوم الفيسبوك باختراق الدماغ من خلال الإستحواذ على أكبر قدر من اهتمامك وأنت داخل منصته. فإذا كنت تتصفح الأخبار في صفحتك اليوم سيقوم الفيسبوك بإظهار المزيد والمزيد من الأخبار التي تصب في نطاق ما تبحث عنه، والأمر نفسه إذا قمت بمشاهدة فيديو سيتم تشغيل الفيديو التالي تلقائياً، وهكذا في عملية غير متناهية.

الفيسبوك أيضا مبني على حصرنطاق الحياة داخل الشاشة، حيث يقوم بجعل الناس تشارك الأحداث الهامة في حياتها خلفها فقط، كالإعلان عن خطوبة أو زواج أوالحصول على وظيفة جديدة. يبدأ هنا الخوف من الإبتعاد عن هذه المنصة فنحن نريد أن نبقى على تواصل واطِلاع بأخبار الأصدقاء ونشعر بأننا بعزلة عمن حولنا بمجرد إغلاق شاشة الهاتف مثلا. لا ينتهي الأمر هنا فكما ذكرنا سابقاً الفيسبوك يقوم بوضعك داخل فقاعة أنت ومن يشبهك، فإذا كان لديك توجهات معينة سترى بأنه يظهر لك جميع المنشورات والأصدقاء الذين يحملون نفس التوجه وبذلك ستصبح أكثر تعصباً لآرائك لأنك لا ترى غيرها. هنالك تطلعات جديدة في الفيسبوك بأن يصل دماغ الإنسان فيخاطب أفكاره بشكلٍ مباشر في المستقبل ولك أن تتخيل حينها كيف سيعيش الإنسان مع غياب خصوصيته المطلقة! كل هذا في سبيل تحقيق أكبر قدر من الأرباح من خلال البقاء على هذه المنصة ومشاهدة إعلانتها في كل وقت، حتى أنها تحتوي على خاصية المقايضة؛ بمعنى إن كان هنالك أكثر من شركة تتنافسان حول منتج معين فقامت الأولى بدفع مبلغٍ معين مقابل تسويقها عبر الفيس على الشركة الأخرى أن تدفع أكثر كي يقوم بنشر إعلاناتها.

أخيراً، إنَ منصات التواصل الإجتماعي وإن تبدو بأنها مفيدة جدا -وأنا لا أنكر هذا فقد قربت المسافات حقا- إلا أننا اسأنا استخدامها وأفرطنا بالكثير من أوقاتنا مقابل الجلوس أمام شاشة الهاتف والأي باد واللابتوب. نحن ندَعي أنَنا نتواصل ولكننا في حقيقة الأمر نعيش بمعزل عن الآخرين وبقدر ذكاء هذه التطبيقات بتنا نتصف بالغباء! فالوصول إلى المعلومة بات أسهل والمجهود أقل، الكتب بين أيدينا ولكننا لا نقرأ وأصبحت أدمغتنا مبرمجة في اللاوعي على القرارات السريعة والمختصرة، فبدأ صبرنا بالنفاذ وهذا بات واضحا. لست بحاجة لأن تكون خبيراً بالسلوكات البشرية كي تكتشف هذا فقد أصبحنا ملولين، مشتتين، علاقاتنا الإجتماعية نختزلها برسالة عبر الواتس خالية من أيِ مشاع، وموائدنا أصبحت لالتقاط الصور. ناهيك أنَ هذه المنصات أعطت المهمشين صوتاً، أصبح الجميع يقدم محتوى كأنهم قرُاء وكتَاب، وأصبحت بيئة خصبة لتجنيد الناس حسب الأفكار، وفتحت المجال للإدعاءات والشائعات الغير موجودة.

نجوى أبو زهرة


المراجع:

Roger, M. (2019). Zuked. London:Penguin Press

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *