الحَياةُ والمَوتْ

الحَياةُ والمَوتْ

في البِدَايَةْ، أَوَدُّ أَنْ أَقولَ أَنَّني أَسْعى في هَذا المَقالِ لِكَشْفِ وفَهْمِ مَاهِيَّةِ المَوْتِ والحَياة، مُعْتَبِرًا كِلاهُما مُتعارِضَيْنِ ومُتَكامِلَيْنِ أَيْضاً. وأَوَدُّ أَنْ أَطْرَحَ عَلى نَفْسِيَ السُّؤالَ التَّالي: ماذا أَتَوَقَّعُ مِنْ دِراسَةِ كَلِمَتَي “المَوت” و “الَحياة” وأَنا أَطْرَحُهُما عَلى مُسْتواهُما الأَعَمِّ والأَعْمَق؟ عِنْدَما أَتَحَدَّثُ عَنْ “حَياةِ” إِنْسانٍ بَلَغَ السَّبْعينَ مِنْ عُمْرِه، أَعْلَمُ أَنَّ حَديثِيَ يَدورُ حَوْلَ “اسْتِمْرارِ” وُجودِ مَعيشٍ واحِدٍ بِعَيْنِه، وعَلى الرَّغْمِ مِنَ التَّغَيُّراتِ الطَّارِئَةِ عَلى السِّماتِ والتَّفاصِيلِ التَّابِعَةِ لِأَحْداثِ المَصيرِ الفَرْدِيِّ وأَعْراضِه. مُنْذُ الوِلادَةِ ولِغايَةِ هَذِهِ اللَّحْظَة، يُثابِرُ ويَتَقَدَّمُ الإِنْسانُ ويُقَدِّمُ كُلَّ ما لَدَيْهِ لِهَدَفٍ مُعَيَّن. لا يُوْجَدُ مِعْيارٌ يُحَدِّدُ ما قيمَةَ الهَدَفِ أَو ما أَهَمِّيَّتَهُ لِلآخَر، لكِن داخِلَ كُلّ نَفْسٍ يَكونُ الهَدَفُ شَغَفٌ وحُلُم. لكِن، لِماذا نَضَعُ أَهْدافًا ونَطْمَحُ لِوُصولِها، لِماذا عَلَيْنا أَنْ نَفْعَلَ ما نَفْعَلُهُ في حَياتِنا الطَّبيعِيَّة؟، لِماذا نُمارِسُ الأُمورَ التي نُحِبُّها! هَلْ هُنالِكَ سَبَبْ، هَلْ هُناكَ رابِطٌ يَجْمَعُنا في هذِهِ الحَياةِ هُوَ سَبَبٌ لِما نَفْعَلُه؟ أَمْ أَنَّها مُجَرَّدُ فِطْرَةٍ داخِلَ الإِنْسان؟ أَمْ أَنَّهَا فَقَطْ مُجَرَّدُ سَبَبٍ بَيولوجِيّ يَدْفَعُنا لِلقِيامِ بِما نَقومُ بِه؟! 

 

 الحُب، الوَقْت، المَوْت، جَميعُها مُرْتَبِطَةٌ بِبَعْضِها. وتَتَحَكَّمُ في الإِنْسان، تَجْعَلُهُ يَتَقَدَّمُ أَو يَسْتَمِرُّ في صِراعٍ مَعَ ذاتِهِ ووَقتِهِ حتَّى يُصْبِحَ كائِنًا لا يَفْعَلُ سِوى “لا شَيء”. حَتْمًا سَوْفَ يَكونُ في شَغَفْ، بِبَساطَةٍ لِأَنَّهُ لِا يُوْجَدُ مِعْيَارٌ يُحَدِّدُ ما قِيمَةَ الهَدَفِ لِلآخَر، وهذا أَيْضاً يَنْطَبِقُ عَلى الأَهْدافِ التي تَفْعَلُ “شَيء”. ما نَفْعَلُهُ وما نَقومُ بِهِ هُوَ ناتِجٌ عَنْ حُبِّنا لِما نَفْعَلُه، ونَتَمَنَّى أَنْ يَكونَ لَدَيْنا أَكْبَرُ وَقْتٍ مُمْكِنٍ لِمُمارَسَةِ الشَّيءِ الذي نُحِبُّه. المَوْتُ هُوَ الشَّيءُ الوَحيدُ الذي يَمْنَعُنا عَنْ مُمارَسَتِه، هَذِهِ هِيَ العَناصِرُ أَو الرَّوابِطُ التي تَرْبِطُنا في الحَياة، وقِسْ هذا عَلى كُلِّ شِيء؛ لِماذا نُمارِسُ رِياضَةً نُحِبُّها أَو نُشاهِدُ فِلْمًا مُعَيَّنًا، أَو لِماذا نَطْمَحُ لِلوُصولِ إِلى هَدَفٍ مُعَيَّن! أَوَدُّ أَنْ أُنَوِّهَ عَلى هَذِهِ الرَّوابِطِ أَنَّها لَيْسَتْ الطَّريقَ لِلنَّجاحِ أَو لِلسَّلامِ أَو لِلدَّمار. بَلْ هَذِهِ الرَّوابِطُ هِيَ السَّبَبُ الحَقيقِيُّ لِما خَلْفَ أَفْعالِنا أَيًّا كانَ الفِعْل. لكِنْ، كَيْفَ مُمْكِنٌ أَنْ نُسْقِطَ هذا عَلى السَّلام؟!

مِنَ الصَّعْبِ إِسقاطُهُ لِأَنَّهُ كَما ذَكَرْت، أَنَّها لَيْسَتْ خَطَواتٍ أَو طَريق، وإِنَّما رابِطٌ أَو سَبَبْ. لكَنْ، أَسْتَطيعُ أَنْ أُنَوِّهَ إِذا كانَ هُناكَ رَابِطٌ بَيْنَ البَشَرِ والسَّلام. لكِنْ قَبْلَ ذَلِكَ هُناكَ تَساؤُلاتٌ تَجوبُ في خَاطِري عَنِ السَّلام، هَل السَّلامُ هُوَ شَيءٌ غَيْرُ مَلْموس؟ هَل السَّلامُ هُوَ يَقْتَصِرُ عَلى الشُّعورِ فَقَطْ؟! السَّلامُ هُوَ الأَرْض، الأَرْضُ هِيَ الشَّيءُ الحَقيقِيُّ الوَحيد، وُجِدَتْ خالِيَةً مِنَ الشَّوائِبِ تَخْلُقُ مِنْ ذاتِها أَنْهُرًا وجِبالًا وثِمار. السَّلامُ يَرْفُضُ الدَّمار، كَذلِكَ الأَرْضُ تَرْفُضُ مَنْ يُسَبِّبُ لَها الدَّمار. نَحْنُ نُحاوِلُ ونُثابِرُ لَيْسَ لِتَحْقيقِ السَّلام، وإِنَّما لِتَحْقيقِ مَا نُحِبُّ أَنْ نَفْعَلَهُ في الواقِع. مَهْما حَاوَلَ البَشَرُ مِنْ تَحْقيقِ السَّلام، لَنْ نَصِلَ إِلى المَرْحَلَةِ الكامِلَةِ الخَالِيَةِ مِنَ الشَّوائِب. لِماذا نَرْقُدُ بِسلامٍ فقط دونَ أَن نَعيشَ بِسَلام؟! حينَ يُفارِقُ الإِنْسانُ الحَياةَ يَعودُ مِنْ حَيْثُ أَتى، إِلى باطِنِ الأَرْض، كُلُّ شَيْءٍ يَكونُ مِنْ حَولِهِ طَبيعِيٌّ وسالِم، نَرْقُدُ بِمَعْنى “كُلّ شَيءٍ يُحيطُ بِنا”، ولا يُمْكِنُ لِكُلِّ شَيءٍ أَنْ يُحيطَ بِنا فَوْقَ الأَرْضِ أَنْ يَكونَ سَلام. الأَمْرُ أَشْبَهُ بِدائِرَةٍ تُحيطُ بِنا لا يُمْكِنُ الخُروجُ مِنْها، وإِنَّما يُمْكِنُ أَنْ نُكَبِّرَها أَوْ أَنْ نُصَغِّرَها. نَسْتَطيعُ أَنْ نُضيفَ مَعنًا جَديدًا لِلحَياة ِلكِنْ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ نُطَبِّق، أَنْ لا يَكونَ هُنالِكَ معنى لِلحَياة.

المَوْتُ والدَّافِعْ

لا يُوْجَدُ دافِعٌ حَقيقِيٌّ لِلحَياةِ غَيْرَ المَوتْ، وعَلَيْنا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ التَّحْفيزِ و الدَّافِع. التَّحْفيزُ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ مِنْ شَخْصٍ أَوْ مِنْ مَوْقِفٍ تُشاهِدُه، أَو تَجْرِبَةٍ في الحَياة. لَكِن، الدَّافِعُ هُوَ الحَالَةُ إِلى تَأْثيرِ السُّلوكِ لِلقِيامِ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ لِغايَةِ الوُصولِ إِلى هَدَفْ. مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يِكونَ الدَّافِعُ عَلى شَكْلِ تَحْفيز، لكِنْ لا يُمْكِنُ لِلتَّحْفيزِ أَنْ يَكونَ بِدافِع، وهذا ما يَجْعَلُ الدَّافِعَ شَيئًا حَقيقِيًّا أَكْثَر. كَالمَوْت، لَو فَرَضْنا أَنَّ عَلَيْكَ إِنْجازُ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ في فَتْرَةٍ زَمَنِيَّةٍ مُحَدَّدَة، وفي بِدايَةِ العَمَلِ أَخْبَرَكَ المُديرُ أَنَّهُ سَيَتِمُّ إِغْلاقُ المَكْتَبِ قَبْلَ المَوعِدِ المُحَدَّد، ماذا سَوفَ يَحْدُث؟ في أَغْلَبِ الأَحْيانِ سَوْفَ تُنْجِزُ ما لَدَيْكَ في أَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِن، وهَذا شَيْءٌ طَبِيعِيٌّ يَحْدُثُ لِلمَرءِ عِنْدَما يُدْرِكُ أَنَّ هُنالِكَ نِهايَة، مَعَ العِلْمِ أَنَّ المُوَظَّفَ يَعْلَمُ أَنَّ هُناكَ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ لِلدَّوام، كَما يَعْلَمُ أَنَّهُ هُنالِكَ يَوْمٌ سَوْفَ يُفارِقُ فِيهِ الحَياة! لكِنَّهُ في الحَقيقَةِ لا يُدْرِكُ ذلِك، والإِدْراكُ هُوَ الوَعْيُ الكامِلُ لِلذَّات، ومِنَ الصَّعْبِ لِلإِنْسانِ أَنْ لا يُنْجِزَ شَيئًا وإِنْ حَدَثَ ذلِك، في أَغْلَبِ الأَحْيانِ يَنْظُرُ مِنْ دَاخِلِ الصُّنْدوق. 

كَما ذَكَرْت، مِنَ الصَّعْبِ إِسْقاطُ رَوابِطِ الحَياةِ عَلى السَّلام، لكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُسْتَحيل، عِنْدَما نَضَعُ الشَّخْصَ في مَكانٍ أَوْ بِيئَةٍ مُناسِبَةٍ يَسْتَطيعُ الشَّخْصُ أَنْ يُنَمِّي ما لَدَيهِ مِنْ خَواص، وهذِهِ الخَواصُّ تَتَطَوَّرُ مِنْ خِلالِ الشَّخْصِ نَفْسِهِ والبيئَةِ المُحيطَةِ أَيْضاً. والبيئَةُ المُناسِبَةُ تَكونُ فَقَطْ مُناسِبَةً لِلشَّخْصِ نَفْسِه، مُمْكِنٌ أَنْ تَكونَ مُريحَةً بِالنِّسْبَةِ إلَيْكَ ومُمْكِنٌ أَنْ تَكونَ مُزْعِجةً أَو غَيْرَ مُناسِبَةً لَك، لكِن لَهُ حَتْماً سَوْفَ تَكونُ مُناسِبَة. يَجِبُ عَلَيْنا أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ المَوتَ رَديفُ الَحياة، بِلا مَوتٍ لا يَكونُ لِلحَياةِ مَعْنى، وأَيْضاً بِلا حَياةٍ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ لِلمَوْتِ مَعْنى، المَوْتُ هُوَ خاتِمَةُ و تَكْريمُ الشَّخْصِ لِحَياتِهِ القَيِّمَة، فَلا بُدَّ مِنْ إِعْطاءِ الحَيَاةِ القيمَةَ الحَقيقِيَّة، ويَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ القيمَةَ الحَقيقِيَّةَ لِلحَياةِ هِي أَساسُها الطَّبيعِيُّ وهِيَ الأَرْض، مِنْها وإِلَيْها نَعودْ.

أَميرْ مُرادْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *