التَّدفُّقُ الذِّهني: حالَةٌ من التَّوحُّد

التَّدفُّقُ الذِّهني: حالَةٌ من التَّوحُّد

قَد نَرى الآنَ كيفَ نَحنُ نَعيشُ بِوَقتٍ يُوفِّرُ لنا فيها أشياءً قادِرةً على تَوقُّفِنا عن الشَّكوى من المَشاكِلِ ونبدأُ بِحَلِّها بِطُرقٍ ناجحة. في الماضي كانَ يَجبُ عَليكَ أن تَكونَ مَلِكَ أو رئيسَ دولَةٍ أو صاحبَ نفوذٍ لِكي تَحُلَّ مُشكلةً كبيرَةً على مُستوى الدَّولَةِ أو العالم، لكن اليوم الكُلُّ قادِرٌ على أن يَكونَ لَهُ تأثير. كلُّ ما تحتاجُه هو قرارٌ فَقط، ليسَ المالُ أو المَصادِرُ فقط أنتَ بِحاجة لِقرار التَّأثيرِ وهذا يَتِمُّ تَحديدُهُ بِطريقَةِ تَفكيرِنا والعَقليَّةِ التى تَمتَلكُها. حتَّى تَستطيعَ الوصول إلى هذهِ النَّوعيةِ من القراراتِ هُناكَ ما يُسمَّى بِحالَةِ التَّدفُّقِ الذِّهنيِّ أو الطَّلاقَةِ الذِّهنيَّة، هي عِبارةٌ عن حالةٍ نَفسيَّةٍ تَجعَلُ الشَّخصََ يَشعرُ بِالتَّوحُّدِ فيما يَقومُ بهِ وتركيزٌ تامٌّ لِلوُصولِ إِلى الاستِقرارِ المُطلَق، هذا الشُّعورُ الرَّائعُ يَكونُ الشَّخصُ بِقمَّةِ قُدراتِه ويكونُ الفَهمُ والاستيعابُ في أقصى دَرجاتِه ويَكونُ الشَّخصُ بِحالةِ نَشوَةٍ وصفاءٍ ذهنيٍّ يَصلُ في نِهايةِ الأمرِ إِلى الإبداعِ الإنسانيِّ من نوعٍ فَريد. التَّدفُّقُ الذِّهنيُّ أنقذَ حياةَ كثيرٍ من النَّاسِ التى كانَت تُعاني من أمراضٍ نَفسيَّةٍ وعقليَّةٍ وذلكَ من خِلالِ تَجرُبتهِم ووُصولِهم لِهذه الحالة.

ربَّما سَبقَ لَكَ وأن شَعرتَ وأنتَ تَتعلَّم أنَّك في كامِل تركيزِكَ وأنَّكَ تَستطيعُ الحُصولَ على المَعلوماتِ بِشكلٍ سريعٍ بدونِ أيِّ جُهد. ذلِكَ يَجعلُكَ تَشعُرُ بِالسَّعادَةِ وبِمواصلَةِ التَّعلُّم والعَملِ حتَّى وإن وَصلتَ لِدرجةِ الانهيارِ من شِدَّةِ التَّعب! ربَّما يُساوِركَ الشَّكُّ بِأنَّكَ لم تَخُض هذهِ التَّجربة من قبل ولكن حاوِل أن تَتَذكَّر شريطَ حياتِكَ فلا شكٌّ أنَكَ خُضتَ هذه التَّجربة من قبل رُبَّما مرَّة واحِدة في حياتِكَ على الأقل. وهِي حالةٌ نادرةٌ ما تأتي وتَحدُثُ أحيانًا في محاضرةٍ أو ورشَةِ عملٍ معيَّنةٍ أو محاضَرةٍ مثيرَةٍ وكُنتَ تَشعُر أنَّكَ تَفهَمُ كلَّ شىءٍ من ما يقولُه المُحاضِرُ بل حتَّى أنَّكَ تتوقَّعُ ما سَيقولُهُ، هذا هو الشُّعورُ المُذهِل، كُلُّنا مَرَرنا بِهذا الشُّعور.

إذن، ما هو التَّــــدفُّقُ الذِّهنــــيّ؟

التَّدفُّق الذِّهني هو عبارةٌ عن حالَةٍ منَ التَّوحُّدِ يعيشُها الإنسانُ بعدَ مرورِه بِمَجموعَةٍ مُختلِفَةٍ منَ المراحِلِ التى تَصِلُ بِهِ إِلى العُزلةِ بِكلِّ من حَولَه، سواءً كانَ مادِّيًّا أو مَعنويًّا، فَيتَجرَّدُ الشَّخصُ من أَفكارِهِ وفَشلِهِ في الماضي وأيضاً نجاحِه في المُستقبل. يَتَجرَّدُ الشَّخصُ أيضًا من مَعرِفَتِه لِلزَّمنِ لِيعيشَ في حالَةِ تَوحُّدٍ تامٍّ مُنعزِلٍ عن الجَميعِ بما يَقومُ به، مِثلَ عَملِهِ أو رياضَةٍ ما، وهي تُمثِّلُ الخِبرةَ الإنسانيَّةَ المُتجسِّدة بِأعلى تَجلِّياتِ الصِّحَّةِ النَّفسيَّةِ الإيجابيَّةِ وجَودَةِ الحياةِ بِصفَةٍ عامَّة. قبلَ أن يَصلَ الشَّخصُ إلى هذهِ الحالة، يَمرُّ الإنسانُ أو العَقلُ البَشريُّ بِأربعِ مراحلٍ مُختلِفة، أي أن تَعيشَ هذه المراحِل في فتراتٍ مُتبايِنةٍ منَ الشُّعورِ المُختَلِف، ويكونُ هُناكَ درجات مُختَلفة من الوعي.

في مَرحلَةٍ منَ المراحِلِ يَتوحَّدُ فيها المَرءُ مع ما يَفعلُه وكأنَّهُ هو والشَّيءُ الذي بِصَدَدِ القيامِ بِهِ هُو شىءٌ واحِدٌ وكأنَّهُ نُقطَةُ وعيٍ تَسبَحُ في الوُجودِ من دونِ أيِّ إحداثيَّاتٍ زمانيَّةٍ أو مكانيَّة. كَما ويَتجرَّدُ من خلالِها الإنسانُ من خَوفِهِ من الفَشَلِ والإحباط، وحتَّى أيْضاً بِشعورِه بِنفسِه. عندَ وصولِ الإنسانِ لِهذهِ اللَّحظةِ يَشعُرُ بِتوقُّفِه بِالزَّمنِ وإحساسٍ داخِليٍّ بِالرِّضا، وقُدرةٍ خارِقَةٍ على التَّركيزِ والمهارَةِ في الأداء، ويَغيبُ عنه الاهتِمامُ بِالكيفيَّةِ التى يؤدَّى بها العمل. يعتَبرُها عُلماءُ النَّفسِ بأَنَّها حالةٌ من التَّوحُّدِ التَّامِّ مع ما يَفعَلُه الشَّخصُ لِلوُصولِ إلى قِمَّةِ أدائِه. قَبلَ الوُصولِ إِلى هذهِ الحالَةِ يَمُرُّ الإنسانُ أو العَقلُ البَشريُّ بِأربعِ مراحلٍ كما تَحدَّثنا سابِقًا، وهي كالتَّالي:

  1. مَرحلةُ المُعاناة:

وهي الحالَةُ التى يَكونُ فيها الشَّخصُ فاقدًا لِقُدرتِهِ على الاستيعاب، ويَتكوَّنُ لَديهِ رُهابٌ من كَمِّيَّةِ المَعلوماتِ وهِيَ مَرحَلةٌ من الرِّيبَةِ والشَّك، حيثُ أنَّ المرءَ يصطَدِمُ بالكمِّ الهائِلِ من المَعلومات. تُعتَبرُ هذهِ المَرحلَةُ شبيهةً بِالعصفِ الذِّهنيِّ حولَ موضوعِ مُشكِلَتِه، فيســتَنفِذُ الشَّخصُ طاقةً كبيرةً من أجلِ رَبطِ وتَرتيبِ المَعلومات، لكن دونَ فائِدةٍ أو جدوى؛ فيشعُرُ أو يُصابُ بِنوعٍ من الفَشَلِ والإحباط، وتُسمََّى أيضًا بِمرحلَةِ ما قبلَ الانفِجار.

  1. مَرحلةُ الاستِرخاء:

في هذِهِ المَرحلَة يَقومُ الإنسانُ بأيِّ نشاطٍ خارجِي، مَثلاً الاستِماعُ لِلموسيقى أو مُمارسةُ نوعٍ من أنواعِ الرِّياضَةِ أو الاستِمتاعُ بِرحلَةٍ قادِرَةٍ على تَحسينِ مزاجِهِ حتَّى يَتحرَّرَ العَقلُ تمامًا منَ المُشكِلة؛ فَينــغَمسُ بِنشاطٍ مُعيَّنٍ مُختَلفٍ تمامًا عَن جَوِّ ما كانَ يَقومُ به، فينتَقِلُ عَقلُ الإنسانِ من مَرحلَةِ المُعاناةِ إلى مَرحلَةِ الاستِرخاءِ التَّام.

  1. مَرحلةُ التَّفكيك:

حيثُ يَدخُلُ العقلُ البَشرِيُّ في هذهِ المَرحلة بَعدَ مرحلَةِ المُعاناة، ويُطلَقُ على هذه المَرحَلة بِمرحلةِ “التَّفكيك” حيثُ يَعودُ الشَّخصُ لِحلِّ المُشكِلة، وقَد يَكون أدركَ حَجمَ المُشكلةِ وأبعادِها وجميعِ جُزيئاتِها ونِقاطِ الضَّعفِ والقوَّةِ فيها. أي أنَّهُ أدرَكَ كُلَّ شىءٍ فيها كَشخصٍ يَنظُرُ إلى غابَةٍ من أعلى طائِرَةِ هلوكيبتر؛ فَهو يُدرِكُ حدودَ الغابَةِ وكثافَةَ الأشجارِ وأنواعِها والطُّرقات والمخارِج المُؤَدِّية لِأطرافِها.

  1. مَرحلةُ التَّدفُّق الذِّهني:

حيثُ تمَّ وصفُ هذهِ المَرحلَة من الوَعيِ بِمرحلَةِ الإنسانِ السَّوبرمان أو الخارق، حيثُ يَنعزِلُ الإنسانُ في كُلِّ ما يُحيطُ مِن حَولِهِ ويَعيشُ في حالةِ توحُّد، وتَكونُ المُعاناةُ بِالنِّسبةِ لَهُ قِمَّةَ السَّعادَةِ ودافِعَ الاستِمرارِ ولا مجالَ للإحباط، وسهولَة ما قد تَمَّ استيعابُهُ في مَرحلَةِ المُعاناة. لكن يُشتَرطُ في حالَةِ التَّدفُّقِ الذِّهنيِّ أن يَكونَ العَملُ الذي يَقومُ بهِ الإنسانُ هو عَملٌ يُحبُّه إلا أنَّهُ يُواجِهُ بعضَ الصُّعوباتِ أو الضَّغطِ نتيجةَ التَّراكُمات، فإذا كانَ لا يُحبُّ عَملَهُ فإنَّهُ سوفَ يَعودُ لِمرحَلَةِ المُعاناةِ حتَّى بَعدَ الانتهاءِ من مَرحلَةِ الاستِرخاء!

 

إذاً، من يُمكِنُ أن يَعيشَ هذهِ الحالة؟

الَخبرُ السَّارُّ أنَّنا كُلُّنا نَستطيعُ عيشَ هذهِ التَّجربَة والشُّعور الرَّائع، لكن في الغالِبِ يَعيشُ هذهِ الحالة الكاتِبُ عندما يَتناولُ مواضيعًا وقضايا مُعقَّده، والعُلماءُ أيضًا أثناءَ قيامِهم بِالتَّجارُبِ العِلميَّةِ والرِّياضيُّونَ عندَ المُنافَسةِ الشَّديدةِ والمُدرَّبينَ على المواقِفِ الصَّعبة. لكن هُناكَ فَرقٌ بينَ الاستِمتاعِ والتَّدفُّقِ الذِّهني؛ فالاستِمتاعُ هو مُجرَّدُ أن نَكونَ مُستهلكين؛ مثلاً الطَّعامُ لذيذ، في هذهِ الحالةِ أنا أستَمتعُ بِالطَّعام، وأيضًا الاستماعُ لِلموسيقى، كُلُّها خبراتٌ مُمتعةٌ وحتَّى في مكانِ العَمل، لكنَّها لا تَبني شيئًا لِلمُستقبَلِ ولا تُحدِثُ أيَّ تغيُّرٍ كأنَّها محدودة. هي فَقط تَجعَلُنا نُلبِّي احتياجاتِنا ولِلوصولِ إِلى الرَّاحةِ والاستِجمام، أمَّا في حالةِ التَّدفُّقِ الذِّهني؛ فهوَ بِالعَكسِ تمامًا يَكونُ فيهِ استِثمارٌ لِلبشريَّةِ ونَبني شيئاَ لِلمُستَقبَلِ كالاختِراعات.

رُبّّما البَعضُ يَسأل، كيفَ يُمكِنُنا الوُصولُ إلى هذهِ المَرحلة؟ يُمكِنُ الوُصولُ إليها عن طريقِ مَجموعَةٍ من المُحفِّزاتِ التَّالية مثل:

أ- الشُّعورُ بِالتَّحِّدي:

الأعمالُ السَّهلةُ تُسبِّبُ لنا المَلَل، والأعمالُ شَديدَةُ الصُّعوبَةِ أو التى نَجهلُ كيفيَّةَ القيامِ بِها تُسَبِّبُ لنا القَلقَ والضَّغط. الأعمالُ التي تَتجاوزُ حدودَ قدرَتِنا وتُشكِّلُ تَحدٍّ لنا، هي العامِلُ الأنسَبُ لِلوصولِ لِحالَةِ التَّدفُّق.

ب- التَّركيزُ العالي:

التَّركيزُ والانتِباهُ الشَّديدُ على العَملِ في اللَّحظةِ الحالِيَّةِ والتَّركيزُ العالي هُوَ جوهرُ التَّدفُّق، وهذهِ الخُطوةُ تَتطلَّبُ جُهداً كبير. لكن، ما أن يَصِلُ المرءُ إلى هذهِ المَرحلَةِ من التَّدفُّقِ حتَّى تَنطَلِقَ قُوَّةُ دفعٍ ذاتِيَّةٍ تُؤدِّي إلى القيامِ بِالعمَلِ بِكُلِّ هدوءٍ دونَ جُهدٍ عَصبيّ.

ج- حُبُّ العملِ الذي سَتُقدِمُ عليه:

الشُّعورُ بِالبَهجَةِ والحماسِ أثناءَ القيامِ بِالعَمل، إذ لا يُمكِنُ أن تَصلَ إلى هذهِ المَرحلَةِ من التَّدفُّقِ الذِّهنيِّ أثناءَ أداءِ عَملٍ لا تُحبُّهُ ولا تَعشقُه! إذن يَجِبُ خَلقُ الاهتِمامِ والرَّغبةِ العارِمَة في أداءِ العَمَلِ والاستِمتاعِ بِه؛ وذلِكَ سيُساعِدُكَ في أن تَسألَ نفسَك؛ ما هوَ العَملُ الذي تَودُّ أن تَجِدَ نَفسَكَ مُنغمِسًا فيهِ وتَتمنَّى أن لا يَنتَهي. يُعدُّ التَّدفُّقُ الذِّهنيُّ في عِلمِ النَّفسِ الإيجابِيِّ لهُ فائِدةٌ كبيرةٌ في اغتِنامِ وتحريرِ الطَّاقاتِ الدَّاخليَّةِ الكامِنةِ وتَكريسِها لِخِدمَةِ الفَردِ والمُجتَمع، وذلك من خِلالِ حالاتِ التَّدفُّقِ التى تَغمُرُ الشَّخصَ في فتراتِ حياتِه. أيضاً التَّعرُّفُ على قُدراتِ الشَّخصِ العَقليَّةِ والمَهاراتِ وذلكَ من أجلِ تَطويرِها من خِلالِ عَمليَّةِ التَّعلُّمِ المُثلى لِلوُصولِ إلى حالَةِ التَّدفُّقِ القُصوى لدى جميعِ الأفرادِ في المُجتمع.

أَحمدْ أبو حميدْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *