الإختِلافُ مِحوَرُ الكَون، والتَقَبُلُ واقِعْ

الإختِلافُ مِحوَرُ الكَون، والتَقَبُلُ واقِعْ

الإختلافُ حَولَنا في كلِ مَكان، ألوانُ الأشجارِ مُختَلِفَةٌ بِحَسَبِ المَواسِم، مرةً تَكُونُ في أبهى حُلةٍ ومُرتَدِيَة كُلَ أوراقِها الخَضراء. ومَرَةً تكون جَردَاءَ لا تغطِيها أيُ وَرَقة، وأُخرى تَراها مُزَّينَةً بالأصفَرِ والأحمَر، لا تَسَتَقِرُ على لَون، تُزينُها ثِمارٌ مُختًلِفَةُ الطَعمِ والأحَجامِ والأشَكالِ. السَماءُ مُختَلِفةٌ أيضاً، مَرةً تَكونُ زَرقاءَ صَافيَةً، ومَرةً بَيضَاءَ مَليئَةً بِالسُحب، الَّتي تَتَشكَلُ بِأحجامٍ وأُشكَالٍ مُختَلِفةٍ في كُلِ مَرةٍ. هي الأُخرى، عَظيَمةٌ هي السُحب، لا تَأخذُ شَكلاً واحِداً، تُشعِرُنا أَحياناً بِغَضَبِها وسَخَطِها، وأَخرى تَكُونُ لَطيفةً وتَبعَثُ في نُفوسِنا الأَمَل، الليّل والنَهار، الشَمسُ والقَمر. لَو نَظرنا إِلى أَنفُسِنا فِإنَ أَشكالنا أَيضاً تَتَغَّيَرُ مَع الوَقت، نَكونُ أَطفالاً فَنكبُر، ونَكونُ شَباباً فَنَشيخ، لا شَيَء يُوقِفُ الزَمَّن، عَقارِبُ السَاعةِ لا تَهدَأ، والإِختِلافُ مِن حَولِنا لا يَضمَحِل، في كُلُ دَقيقَة، بَل في كُلُ ثَانية، يُكمِلُ الكَون رِحلَتَهُ بِجَميعِ مَجراتِه ومَجمُوعَاتِهِ الشَمسيةَ وكَواكِبِهِ وأَقمَارِه، جَميعُها تَسبَحُ إِلى فَضاءٍ أَوسعَ مَليءٍ بالإختِلاف.

مَنَ الطبيعيِ أَنّ تَتَغيَرَ أَفكُارُنا ومَبادِئُنا مَعَ كُلِ فَترةٍ مِنَ الزَمَن، بِحَسَبِ مَا تَتَغيَرُ وجهاتُ نَظَرِنا إِلى الأُمورِ وتَجارُبِ الحَياة. نُصبِحُ أَوعى وننَضُجُ فِكرياً كَما نَنضُجُ جَسَدِياً، ولكنْ وللأَسَف هُناك الكَثيرُ مِنَ الأَشخاصِ الذينَ لا يَتَغيَرُ فِكرُهُم، فَتَراه دَائِم التَعَصُّبِ تَجاه آرائِه وأَفكاره، لا يُخالِطُ الذينَ لا يُوافِقُونَهُ الرأي ويتَجَّنبُهم، يُحاولُ تَغذَّيَةَ مُحيطِهِ بِمَنْ لَديهِ نَفسُ التَطلُعات، وبالتالي لا يَقبَلُ الإِختِلاف والذي هُو ِمحوَرُ الكَون، وتَدورُ حَولهُ كُلُ أَشكالِ الطَبيعة.

في الماضي كانَ من الصعبِ أنّ تجدَ من يشارككَ نفسَ الأفكار، ويُؤيِدُكَ في كلِ طرح، و لكَّن اليوم ومع وجُودِ التِكنُولوجيا أَصبَحَ من السَهلِ جِداً أَنّ تَجِدَ الكَثيرَ مِنَ الأَشخاصِ والتَجمُعاتِ الذين يَحمِلونَ نَفسَ التَوجُهِ ونَفسَ الأَفكارِ. بَلّ رُبَما لا يَحتَاجُ إِلى الكَثيرِ مِنَ الجُهد، فَإِنّ لَمْ تَجِدهُم فهُم يَجِدُونَك، فيصبحُ منَ السَهلِ أنّ تَتَواصَلَ مَعَهُم مَتى ما كُنتَ بِحاجَةٍ لِذلك. بالتالي، نَرى الشَّخصَ الذي يَتَزمَتُ لأفكَارِه على مَواقِعِ التواصُل الإجتماعي يستَهويهِ موضوعٌ معين، فيَضَعُ بَعضَ الِإعجابَاتِ على صَفَحاتٍ تعرضُ لهُ هذا المُحتَوى. فَيصبِحٌ كَلَ ما يَراهُ أو يسمَعُهُ أو يَقرَأُهُ، يُغذِّي لديه هذا الإعجَابَ الذي قامَ بِه عن طَريقِ عَرضِ صَفَحاتٍ مُشابِهة تُغذِّي لديه نَفسَ الفِكرةِ والهَدفِ مِنَّ الصفحةِ الأولى. كما ويَكونُ مُحيطُ الأشخاصِ الذيّن يتابِعُهم والذينَ هُم أَصدِقَائَهُ والأَشخاصُ الذينَ يُخالِطُهُم في حَياتِه اليَومِية يَنشُرونَ أَيضاً يُومياً مُحتَوىً مُشابِه.

يُصبِحُ كَالذي يَجلِسُ في غُرفَةٍ مُغلَقة، يَسمَعُ بِها صَدى صَوتَهُ وصَدى أَفكارِه، يَستَمتِع هُو الآخر بالإِستِماعِ إِلى هذا الصَدى بَلْ و يُقدِّسُه، حَتى يَكونَ كَالعِبادةِ أَو مَذهَبَاً عَليه اتِباعُه، بَلْ وتَكونُ عَينيهِ مُغلقَةً عَن أيِّ نَوعٍ آخَرَ مِنَ الإِهتِمامِ أو الإِختِلاف. يُصبِحُ التِكرارُ والرُوتين هو الشيء الطَبيعيُ بالنِسبَةِ لَه وأيُّ اختِلاف خَارجي مَصدَرَ تَهديدٍ لأَمنِهِ في هَذهِ الحالة، وعَدُواً يَجبُ التَخَلُصُ مِنه، إِنّ كانَ بِالهَرَبِ مِنه، أو بَأذِيَتِهِ، إِنّ كانت آذيَةً مَسموعَةً، أو آذِيَةً جَسَدية، لِمُجَرَدِ اختِلافِ الإِهتِماماتِ والأَفكار، والذّي مِنَ المُمكن أن نَصِفَهُ هنا بالتَطَرفِ العَنيف.

غُرفَةُ الصَدى هِي غُرفةٌ خَاليَةٌ مِنَ أيِّ نَافِذَةٍ أو بَاب، غُرفةُ مُصّمَتة، تُزيِنُها أَفكاَرُ هذا الشَّخص وَحدَه! ولا يَعنِيه بالضَرورة مَا يُفكِرُ بِه الآخرين مِن اهتِماماتٍ مُختَلِفة، ويُحارب اختِلافَتِهم وآرائِهم، و يَكونُ في طَبيعةِ الحال في صِراعٍ دَائمٍ مَع نَفسِهِ و مَعَ مَنْ حَوله. صِراعٌ داخِلي يَجعَلُه في حَالَةِ مِنْ عَدَمِ الإِستِقرار، لا يَقبَلُ الحِوار ولا يَصِلُ مَعَهُ النِقاشُ إلى أَيَةَ نتيجة. لا يُحاولُ رَسَم بَابٍ يَدخُلُ مِنهُ الآخرين ليَسمَعَهُم ويَستَفيدَ مِنْ خِبراتِهم، ويَظن أَنّ كُلَ مَا يَعرِفُهُ، هُو المَصدَرُ الأَولُ والأَخيرُ للمَعلومة، ومِنَ الواضِحِ أَنَّ صِراعَهُ مَعَ الآخرين لا يُؤدي بِه إلى أَيَةِ نَتيجة، وإِنما يُحفِزُ لَديه فَكرةَ نَبذِ الآخرين والتَقليلِ مِنْ شَأنِهم.

إِنّ أَردنا أَنّ نُقدِمَ مِثالاً عَلى ذَلكَ على المُستَوى الصَغير، فهُو مَوجودٌ في الأسرة الواحدة، حَيثُ أَرى أَنَهُ مِنَ الصَعبِ جِداً للجيلِ القَديمِ أَنْ يُغيِرَ هذِه الأَفكار، وهذا مَا يُوقِعُنا في صِدامٍ حادِ قي بعضِ الأَحيَّانِ مَعَ آبائِنا على مُختَلَفِ الأَصعِدَة والمَحاور. فَتَرى أَنَّ أفكارَكَ كَشابٍ في العشرينَ مِن عُمُرك، ليسَتْ هي ذاتُها أَفكارُ والدِكَ أو والدَتِك اللذانِ شَارفَ عُمرُهُما على السِّتين، طَريقَةُ تَربيِتُهُم ونَشأتُهم تَختَلِفُ اختِلافاً شاسِعاً عَنكَ اليَوم. المَفاهيمُ التي نَشؤوا عليها أَصبحت دُستوراً يَجبُ اتِباعَهُ، بَلْ ويَجِبُ عَليكَ أيضاً اتِّبَاعه، كَونَكَ جُزءٌ مِنْ هَذِهِ العَائِلة، فَنُلاحِظُ إِختِلافاً وَاضِحَاً في المَبادِئ والتَصورات، بِنَفسِ المَجَتَمع والدِيانة، بَلْ وفي إِطارِ الأُسُرَةِ الواحِدَة، فَكيفَ إِنّ صَغَرنا العَدَسَة قليلاً لتَقيسَ المَجَتَمعَ، ومَنْ ثُّم الدَولة وانتِقالاً إلى العالم، بِمُختَلَفِ شُعُوبِه وبيئاتِه ودِياناتِه ومُعتقدَاته.

دَعونا نأخذ هذا الطرح من جِهةٍ مُعاكِسة، فلنَتَخَّيل الرحلَةَ إلى السَعادةَ في حَياتِنا. كَيفَ مِنَّ المُمكِنِ أنّ تَتَحَقق، هَل مِنَ المُمكِنِ أنّ نَعِيشَ سُعداء مَعَ بَلايينِ النَّاسِ في العالم، مَعَ اختِلافِ أَجناسهم وأَلوانِهم وعُروقِهم ولُغاتِهم وحتى عَقائدهم؟. كَيفَ مِن المُمكِنِ تَحقيقُ هذِه السَعادةِ دُونَ تَقَبُلِ الآخر؟، كَيفَ سَتُحَقق ونَحنُ مَسجونونَ في الغُرفِ المُصمَتةَ والتي تَرُدُ علينا صَدنا، أو دونَ لُغةِ حِوارٍ تَجمعُ الجَميع، في إِطارِ الإِحترامِ و المُساواة، و التَأكيدِ على الحُقوق.

جَميعُنا نَطمحُ للحُصولِ على هَذِهِ الحُقوق، حُقوقُ الإِنسّان، حُقُوقنا في الفِكر والمُعتقد، حُقوقُنا في حِريةِ الإختِيار، حُقوقنا في الإحتِراِم وعدم التَعرُضِ إلى أَيِ نَوعٍ مِنَ الآذى، فِإنّ كانت حُقُوقُكَ في يَدِ إِنسانٍ آخر، ولَنْ تَحصُلَ عليها إِلّا عَن طَريقه، فَحاول أَنّ تتَقَبَلَ هذا الآخر حتى تَحصُلَ على حُقُوقك، ويَحصُلَ هُو الآخر على حقُوقه، فَهي مَنفعةٌ مُشتَركة بين طرفين، لا يَتَحقَقُ أحدُاها بِاختِفاء الآخر. بَلْ وهيَ مَنظومَةٌ واحِدَةٌ مُتماسِكةٌ لا تَتَجزأ، وإِنّ اختَل أَحدُ أَطرافِها اختَل النِظامُ كَكَل، فِإن أَردنا تَحقيقَها فِعلاً في رخاٍء وسكينة، وأردنا أَنّ نَحصُلَ على كُلِّ ما نتَمنى ونَطمح، يَجِبُ أًنّ نَسعى، وأَنّ نُغَيِّر مِنْ تَصَرُفاتِنا ونُراقِبَها، أَّنّ نُغِّيَر مِنْ أَفكِارِنا لِتُنَاسِبَ الواقع، ونُغيِّرَ مِنْ نَظرَتِنا للإِختِلافِ والآخر.

أُرسُم بَاباً واخرُج مِنه، تَعرَّف على أَبوابٍ جَديدةً في الحياة، انْصِت، إِفْهَم، وتَقبَّل، خُذّ ما تَراهُ مُناسِبَاً. لا تُقلل مِنْ شَأنِ الآخرين، مَهمَا كان اختِلافُهم بَعيداً عَن مَبادِئك وأَفكارِك، شَاركهم هذه الأفكار، ودَافِع عَنها، كَأنَّما هِي قَضِيَتُكَ الوَحيدة. لكنْ، لا تُجِّبر أَحداً على اتِباعِها، وإِنَّما أُنظُر إِلى جَمالِ الإِختِلافِ مِنْ حَولك، حَتى تَصِلَ بِنَفسِكَ إِلى السَلامِ الدَاخِلي. فإِنَّ وَصَلَ كُلُ واحدٍ مِنْا إِلى هذا السَّلام، وطَبَقَهُ في حَياتِهِ اليُومية وحَياتِهِ على المَدى البَعيد، ونَقَلَها عَبرَ الأجيال، أباً عَنْ جَد، فلنْ يَكونَ مِنَ الصَعبِ أَنَّ نَصِلَ إِلى السَّلامِ العَالمي والذي يَتعدى جَميع أَنواع وأَشكالِ الإِختِلاف، وإِنَّما يَخلَقُ عَنْ طَريقِ الإحترام والتَقَبُل، وليسَ الحَربُ والتطرُف ونَبذُ الآخر. لنَسعى لِتًكونَ لنَا جَميعاً لُغَةٌ نَستَطيعُ التَعبير مِنْ خِلالِها عَنْ أنفُسِنا ونُشارِكَ الآخرين في غُرفَةٍ واسِعَةٍ حُدودُها الأَرض، وسَقفُها السَماء، غُرفَةٌ يَستَطيعُ الجًميعُ فيها العَيشَ بِسلام، غُرفةٌ لها لُغَةٌ واحدة وهي لُغَةُ السَّلام.

السلام العالمي يبدأ بالسلام الداخلي عندما يكون عقلنا في السكينة والهدوء – رحلة إلى المرح

إسراء منصور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *