الأشياءُ أعمَقُ من ما نَتَصَوَّر

الأشياءُ أعمَقُ من ما نَتَصَوَّر

كان يقولُ جدِّي: “كُلُّ ما تراهُ عينايَ هوَ مُلكٌ لي”، كانَ يُلَوِّحُ بِيَدِهِ اليُمنى كَرَسَّامٍ سَريالِيٍّ بِكُلِّ سعادَةٍ وراحَة، دالًّا بعُشوائِيَّةٍ على ما يراهُ في الأفق، تمامًا كأنَّهُ مَلَكَ الدُّنيا بِما فيها، أو كأنَّها لوحَةٌ فَنِّيَّةٌ سَبَقَ وقد رَسَمَها أحَدُهُم، أمَّا هُوَ فالمُتَذَوِّقُ الذي لا تَغيبُ عنهُ انحناءَةُ رَسم، لا أبتَذِلُ الوَصفَ أبدًا، بل أراني قاصِرًا على ترجَمَةِ ملامِحِهِ وحَرَكاتِهِ في تِلكَ اللَّحظات، كُنتُ أستَشعِرُ رَهبَةً غيرَ عادِيَّةٍ لِهذا الموقف، مَعَ أنَّهُ عاديٌّ جِدًّا، لا أدري رُبَّما هوَ جدِّي الذي كانَ غيرَ عاديّ.

جَدِّي المُتَوفَّى قَبلَ إتمامِهِ عامَ الثَّمانين، نِصفُ سيرَتِهِ لم أعلم بِها إلَّا بعدَ وفاتِه، ليس لأنَّهُ لم يُخبِرني بِها أحدٌ من قبل ولا حَتَّى بِسَبَبِ غُموضِه العَجيب؛ بل رُبَّما لأنَّني لم أُعطِ نفسي الفرصة لِتَأَمُّلِ هذا الكيان قبلَ ذلك. ما عَلِمتُهُ عنهُ أثناءَ وجودِهِ هو كأيِّ معرفةٍ لأيِّ أحَدٍ بأي شخص، كسيرتِهِ الشخصيةِ والمهنيَّة، أينَ وُلِدَ ومتى وإبنُ من، أينَ عاش وهل تَزوَّجَ باكِرًا، بعضُ القَصَصِ البطوليَّةِ التي تُصاحِبُ أغلَبَ من نُحِب (أكادُ أجزِمُ أنَّ قصصهُ فاقَت بطوليَّةً قَصَصَ “تشي جيفارا” – وهذا حقيقيّ). بالتَّأكيدِ عِندما كُنتُ أُجالِسُهُ كانَ ما يَربِطُني بِهِ هو العلاقَةُ المُعتادَةُ للحفيدِ بِجَدِّه، لَن أدَّعي أنَّها تَعَدَّت هذه الحدود، ولا أذكُرُ أنَّها كذلِكَ فِعلًا. لكنَّ الغِيابَ بِشَكلٍ عام، بِغَضِّ النَّظَرِ عن نَمَطِهِ ونوعِه، يُذيبُ عن بَصيرَتِنا شيئًا من الجَهلِ بالشَّيءِ الذي غابَ عَنَّا، يَبسُطُ لنا مساحةً رحبةً لتأَمُّلِ الأشياء والتَّمَعُّنِ بِها؛ فَنَعرِفُ عنها ما لم نَتَوقَّع مَعرِفَتَهُ مِن قبل.

جدِّي كانَ يَهوى فِلاحَةَ الأرض، إنسانًا يُحِبُّ البساطة، كان يقضي مُعظَمَ وَقتِهِ قابِضًا على مِسبَحَتِهِ وَيُتَمتِمُ الذِّكرَ من بَعدِ صلاتِه، كُلَّما تَذَكَّرتُ هيأتَهُ التي كانَ علَيها، أتَخَيَّلُ كاهِنًا في المَعبَد، أو مُتَصَوِّفًا حَقًّا يَذوبُ في دائِرَةِ العِشقِ اللَّا مُتناهية، كانَ أعمَقَ مِمَّا أتَصَوَّر، أينَما تَحُلُّ حَضرَتُه؛ فَصَمتٌ عجيبٌ يَغزو المكان. أمَّا أنا؛ فذاكَ الهائِمُ على وَجهِهِ في غياهِبِ الجَهلِ وما زِلت، لطالما أردتُّ أن أتقَمَّصَ دورَ الباحِثِ عن المعرِفَةِ الذي نُقابِلُهُ في سطورِ الرِّوايات، ذاكَ التِّلميذُ الذي يلقى ضالَّتَهُ المُّعَلِّمَ العارف، لِيَنهَلَ من ما يفيضُ الإلهُ بِهِ على عقلِ مُعَلِّمِه، فالأخيرُ هو جَدِّي، ويا ليتَني عَلِمتُ أنَّهُ ضالَّتي قَبلَ انتقالِه والعُبورِ فأكونَ التِّلميذ، ما كانَ يَنطُقُ بِهِ من حديثٍ مُبهَمٍ وغامِض، هوَ قِمَّةُ المعرِفَةِ التي من الممكنِ أن يَصِلَ لها الكَيانُ المُدرِكُ الحَي، ليست تِلكَ التي تَقبَعُ في بطونِ الكُتُبِ وَتُحتَكَرُ على من هُم أقدَرُ اقتناءً للكُتُبِ واستِطاعةً لِمُطالعَتِها، بل هي المعرِفَةُ المَحصورَةُ بالضَّرورَةِ لِمن تَدَرَّجَ بِعفوِيَّةٍ في عِلمَي الحياةِ والوُجودِ وتَعَمَّقَ بِكُلِّ شيءٍ مهما بدا لهُ بسيطًا ومن حولَه.

أذكُرُ مرَّةً تَفَحَّصتُ بَعضًا من مُقتَنياتِه مِن بعدِ انتِقالِه، أوراقٌ ومُذَكِّراتٌ قد اصفَرَّ لونُها مَعَ مُرورِ الزَّمَن، أو رُبَّما مِن ما كانت تحويهِ من كنوز، صُعِقتُ عندما قرأتُ ما قرأت، ذاكَ الرَّجُلُ البسيطُ الغامِض. كانَ على عَكسِ ما اعتدنا أن نراهُ من الأشخاصِ الذينَ يَرَونَ الكُتُبَ المَنظومَةَ مُعينًا لَهُم في مَعرِفَتِهِم وعلى وجهِ الخصوصِ أكثَرَها تَعقيدًا. ما قرأتُهُ في كتاباتِهِ كانَ تَلخيصًا لما ارتآهُ عن ما نَعرِفُهُ نَحنُ بالقضايا الفَلسَفِيَّةِ والعِلمِيَّةِ المُجهِدة، كانت استِنتاجات وسُطور تَرقى إلى مَرتَبَةِ النَّظريَّات، تسائَلتُ دَومًا بعدَ الذي قرأت، “هل كانَ فِعلًا يَعي ما كَتَب؟” – “هل تَفسيرُ غُموضِهِ هو ما توَصَّلَ لَهُ من معرِفَةٍ حتَّى لو كانت قاصِرةً شيئًا ما؟”، كان الجوابُ الشَّافي لِكلِّ التَّساؤُلاتِ حَولَهُ هو عِبارَةُ “المَعرِفَة الضِّمنيّة” بِلا شك، تِلكَ المُعرِفَةُ الفِطرِيَّةُ بِشِقَّيها، الشِّقُّ النَّامي والشِّقُ المُتنامي، مَعرِفَةٌ لا تُعنى بالمُسَمَّياتِ أو المُصطلَحاتِ التي تُؤَطِّرُها، ولا تُعنى بالعناوينِ البَرَّاقَةِ المُبتَذلة، مَعرِفَةٌ تُعنى بالمَعرِفةِ فقط لا غير.

لطالما اقترنَتْ المعرفةُ اصطلاحًا بِاصطِلاحاتٍ أخرى، كما نَقولُ عادةً: “أنّنا نريد معرفةَ حقيقَةَ أمرٍ ما”، وهل كانت المَعرِفَةُ أصلًا غيرَ طريقٍ يقودُنا لغايَةِ الحقيقة؟ حقيقَةُ شيءٍ في الشّيءِ أو حقيقَةُ الشَّيءِ كُلِّه، وإن كُنتُ على قَدرٍ من التَّأثيرِ في يومٍ ما، لكانَت كلمةُ الحقيقَةِ تَتبَعُ­ كَلِمةَ المعرِفةِ لِزامًا في كُلِّ المَنظومات، ومهما تَعَدَّدَت الأهدافُ المُختَلِفَةُ من عمليَّةِ المعرفة عن الشَّيءِ المُراد؛ فإنَّها في نهايَةِ الأمرِ تَقودُنا وُجوبًا لِحقيقَةِ شيءٍ منَ المُرادِ أو كُلِّه، لَعَلَّ القارِئ الآنَ ظَنَّني أحيدُ عن ما بدأتُ بِهِ أو أضيعُ بينَ الكلماتِ وأهذي فأُبَعثِرُها، لكنَّ الجوهَرَ من كُلِّ ما كانَ في هذا المقام، هو معرفةُ الحقيقة، ابتداءً من ما كانَ يقولُ جَدِّي مِن مزيجِ المقالِ المُبهَمِ البسيط، وانتِهاءً باللَّا نِهايةِ المعرفيَّةِ للحقيقة في كُلِّ شيء.

ذا المُتَصَوِّفُ العارِفُ نَطَقَ بِها بينَ جَمْعٍ جاهِلٍ لم يُدرِك عُمقَ ما قال، أو رُبَّما هَزَّ الجمعُ رؤوسَهُم موافِقينَ على ذلِكَ دون وعيٍ منهُم، “كُلُّ ما تراهُ عينايَ هوَ مُلكٌ لي”. ولكن ما يدفَعُني للتَّساؤُلِ هُنا، هل مُلكِيَّةُ الأشياءِ نَحوزُها إذا ما نَظَرنا إليها فَتُصبِحَ لَنا؟ أم أنَّ رؤيَةَ الأشياء كما عناها قائِلُ القَولِ هي مَعرِفَتُها؟ عُذرًا؛ أقصِدُ مَعرِفَةَ حقيقَتِها؟ قَطعًا هي كذلك، فتأمُّلُنا للأشياء ومُشاهَدَتُنا لها يَخلُقانِ بينَنا وبينَها رابِطًا سِحرِيًّا مُجَرَّدًا من كُلِّ شيءٍ غيرَ ذلك، فَنرى فيها ما لم نَرَهُ من قبل كأنَّها تَبدو لنا كالنَّشأةِ الأولى، نَسبِرُ غورَها بِدِقَّةٍ عَظيمة، فَيُثيرُ لدينا كلَّ ذلك تساؤلاتٍ جديدة عن الشَّيءِ ذاتِهِ لا يشفي ظمأها إلَّا حلقةٌ جديدَةٌ من التأمُّلِ والمُشاهدة، حتَّى يأتينا شعورٌ من اللَّامكانِ بامتِلاكِنا لما نرى، لأنَّنا توصَّلنا إلى المعرفةِ الحقيقيِّةِ لما نرى، أو أنَّنا على مدارِجِ حقيقَةِ المعرِفَةِ دَرَجْنا، وهي حَتمًا مَرحلَةٌ مُتَقَدِّمة.

إنَّ مَعرِفةَ الحقيقَةِ من الضَّروريَّاتِ الحَتميَّةِ لنا جميعًا، ابتداءً من معرِفَةِ حقيقَةِ ذواتِنا وتَفنيدِ غُموضِها بِكَشفِها والغَوصِ في أروِقَتِها المُظلِمة، وانتِهاءً باللَّا نهايَةِ المعرِفِيَّةِ من كُلِّ شيءٍ يُحيطُ بِنا مهما بَلَغَ تَعقيدا، كما أرى هَرَمَ الحقيقَةِ يَرتَكِزُ انطِلاقًا على حقيقَةِ الذَّات، لا أدري إن كُنتُ على قَدرٍ كافٍ من العِلمِ حتَّى أُثبِتَ أنَّها أولى المعارِفِ أهمِّيَّةً للقاصِدِ وأكثَرُها صعوبةً أيضًا، ولا أدري حقًّا إن كُنتُ أنا من كَتَبَ هذا المقال؛ فلم أَعُد مُتأَكِّدًا إن كانَ أنا من يَكتُبُ فِعلًا! أو هَل أنا صاحِبُ هذه الرِّوايَةِ وحامِلُ هذه الأفكار؟ هل هو مُجَرَّدُ تَخاطُرٍ معَ أحدِ الرُّواةِ من الرَّعيلِ الأوَّلِ الفاني؟ لكن ما أعرِفُهُ حَقَّ المعرِفَةِ أنَّهُ كلامُ كائِنٍ مُدرِكٍ قاصِرٍ يَعيشُ على هذه البُقعَةِ من الكوكَب الزَّائِل.

الأشياءُ أعمَقُ مِن ما نَتَصَوَّر، ومن أدرَكَها أدرَكَ حَقيقَةَ المَعرِفة.

لَطيفْ التَّميمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *