التفوق في التوجيهي يعني إما اثنين؛ الطب أو الهندسة. هذا ما كان عليه الحال منذ سنوات عديدة أو حتى لعقود. تملي أفكارالآمان والإستقرار المالي، المنصب الإجتماعي وتوكيد فكرة القدرة لهؤلاء الطلاب المتميزين بشكل مباشر أو غير مباشر على اختيار ذلك، سواء أكان ذلك بالإختيار التام من تلقاء أنفسهم، أو بالتأثير الجزئي أو الكامل من قبل العائلة و/أو المجتمع. بغض النظر عن الطريقة التي تم بها اتخاذ هذا القرار، فهو بنهاية المطاف قرار عملي ومريح وهذا بمجرد أنه مدعوم ومحترم من قبل “المجتمع” -“مين بصحله طب وما بدخله!؟”.
هل هو قرار ذكي؟ بمعنى هل أنه يعكس مقدار الذكاء والقدرة التي يمتلكها هؤلاء الطلاب؟ فقد أظهروا باستمرار أنهم أذكياء، فهم يتفوقون أكاديميًا – هم يتبعون القواعد. وهم أيضاً مقصد الثناء والمدح بذلك. فبهذا المدح المعزز والمبرر يرافقه تعزيز، وفي بعض الأحيان ارغام لصورة معينة لمستقبلهم، مستقبلهم المحدود. أظن أنه من المسلمات أن نفترض بنسبة 99٪ من اليقين أن أفضل 10 طلاب في هذا البلد من كل عام ستواصل مشوارها العملي كأطباء، فهو حتما الخيار الأفضل! هل هو كذلك؟!
خلال تلك العقود المذكورة أعلاه، أصبح لدينا الآن أعداد كبيرة من الأطباء والمهندسين الذين يمارسون مهنهم في نظامِ دعم غير كفؤ وغير فعّال. للأطباء، في الأردن يوجد هنالك حوالي 50000 طبيب مسجلون في الأردن، 6 كليات طب، تم تأسيس اثنين منها في السنوات الست الماضية لتخرج “جيش” من الأطباء إلى شبكة من المستشفيات العامة التي بدورها تفتقر إلى القدرات اللوجستية والإدارية والصحية المناسبة للقيام بدورها الأساسي من الرعاية بشكل فعّال وسلس من الرعاية الأولية إلى الثالثة المختصة. هذا، وأيضا جعل تلك الأعداد الكبيرة من الأطباء يتدربون في نظام يفتقر إلى المستوى المطلوب والمناسب للرعاية الصحية. نظام يفتقر إلى الديناميكية اللازمة في هذه الأيام لإنشاء قطاع مستدام وفعال للمجتمع.
إضافة إلى ذلك، يمكن للأردن أن يقدم كل عام، مع جميع القطاعات مجتمعة، 950 مقعدًا للإقامة (الطريقة الوحيدة لممارسة الطب بشكل تقدمي)فقط؛ هذه المقاعد ينافس عليها ما يزيد عن 13000 طبيب، بازدياد ملحوظ في أعدادهم كل عام. ناهيك عن أن نسبة لا بأس بها من تلك المقاعد تشترط العمل بدون راتب طيلة فترة الإختصاص التي تصل إلى خمس سنين. وبالتالي فإن فكرة الأمن المالي والإستقلال الذاتي ليست كما يتم تسويقها. ومع ذلك، وفقًا لـلنقابي الدكتور بلال عزام، لدينا الآن 20 ألف طالب طب في مقاعد الدراسة. 9000 منهم في كليات الطب المحلية و 11000 في الخارج. لكن، مرة أخرى، هنالك حل، فإن خيار الإستمرار في ممارسة الطب في الخارج هو المفتاح لضمان تلبية جميع الأسباب الثلاثة، إنه مناسب! (بدي أهج) وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيكون القطاع الخاص كافيا عندما يمكنك مقاضاة رسوم تزيد عن 30 دينارا أردنيا على كل موعد. مع ذلك، فإن هذا الإختيار الذكي ينبع من هذا الإحساس الفردي بالإنجاز، بحيث أصبح الطب من الممارسات التي تركز على المنافع الفردية في حينما هو في الواقع تخصص مبني على الوجود المجتمعي. منشئا هذه الحلقة المُفرغة التي تؤثر في واقع نظام الرعاية الصحية المحلي بطريقة مدمرة إن صحّ التعبير.
أين ومتى يؤثر سياق الحياة التي نعيشها على اختيارنا الوظيفي؟
علم الإجتماع
لفهم المزيد عن دور الفرد داخل المجتمع، سأشير إلى عالم الإجتماع ايميل دوركايم وشرحه العلمي حول المجتمعات. وقد شرح في كتابه قواعد المنهج في علم الإجتماع، أن المجتمعات موجودة في شكلين. شكل ميكانيكي وعضوي ويمثل الميكانيكي المجتمعات في العصور القديمة حيث كان الأفراد متساوون ويشغلون نفس الوظيفة ويشاركون في نفس الإعتقاد وتم اعتبارهم كعضو واحد. في حين يمثل الشكل العضوي تفاعلًا واسعا ومعقدا بين الأفراد المختلفين والمتعددين بسبب الإعتماد على بعضهم البعض، وهم بذلك يمثلون المجتمعات الحديثة. وهذا بطبعه يتطلب تقسيم العمل ليكون مجتمع فعال ومزدهر، مع الأخذ في الإعتبار الحقائق الإجتماعية كالثقافة وأنماط الحياة وما إلى ذلك.
يذكر أيضا بنقاش مشترك مع كارل ماركس أن هذا التغيير، لا سيما عندما يكون بوتيرة سريعة، ينتج عنه نتائج مدمرة حيث تتجاوز الفردية العلاقات مع المجتمع مما يخلق ما يعرف باسم الشذوذ Anomie؛ عدم وجود المعايير اللإجتماعية أو الأخلاقية المعتادة لدى الفرد أو المجموعة. مع النمو السريع والتمدّن الذي مرّ المجتمع الأردني به في السياق الثقافي والحضاري. نحن نرى هذا الشكل المدمر للمعايير المزدوجة بين الإنتماء والفرار.
يدافع السيد دوركايم أيضا عن دور التعليم ويشرح عن دوره في التغلب على هذه الحركة الإجتماعية المتباينة التي ينص على “أن مجتمعها لا يستطيع البقاء على قيد الحياة إلا في حالة وجود درجة كافية من التجانس بين أعضائه: التعليم يديم ويعزز هذا التجانس عن طريق تنشئة الطفل من البداية على أوجه التشابه الأساسية التي تتطلبها الحياة الجماعية”(Durkhiem، مقتبسة في Haralambos 2013). جادل دوركايم أيضا بأن من وظائف التعليم في صنع إقتصاد صناعي متقدم هي تدريس المهارات المتخصصة المطلوبة لتقسيم العمل المعقد. كما ربط الحاجة إلى التعليم المناسب لشرح وتطبيق مفاهيم وأهمية أن تكون جزءا من المجتمع، وكيف يعني أن تكون جزءا من يعني المشاركة في الحفاظ على ذلك المجتمع وتنميته ونموه. “التعليم، وخاصة تدريس التاريخ، يوفر هذا الرابط بين الفرد والمجتمع. إذا تم تدريس التاريخ بفعالية، فهو “يأتي حيا” للأطفال، و يربطهم بماضيهم الإجتماعي ويطور فيهم شعورا بالإلتزام بالمجموعة الإجتماعية”.
النظام التعليمي في الأردن الآن
النظام التعليمي في الأردن بسيط، اذهب إلى المدرسة صباحا وغادر قرب نهاية الدوام (هذا ما أذكره على الأقل). نسخ وتكرار للكلمات والدروس والآراء. لا يتم بناء أو صقل الشخصية فيه، ولا القدرة على أن تكون قادرا على اتخاذ القرارات أو كيف تكون مسؤولاً عنها. هناك بالطبع استثناءات، و للأسف تلك لا تكفي للتأثير على هذه العملية. وهناك أيضا الكثير من التحديات التي تعوق نمو القطاع التعليمي. وغيرها من العوامل التي سمحت لتفكّكه.
لكن هناك نهج حكومي نحو إصلاح الوضع التعليمي العام ومخرجاته. فوفقا لمجموعة الأهداف التي أنشأتها الحكومة ضمن مفهوم “دولة التكافل” التي تهدف إلى تحقيق العدالة الإجتماعية والتكافل لأن “تحقيق العدالة الإجتماعية وتعزيز دولة التكافل على المدى الطويل يجب العمل على توزيع عادل للدخل والتشغيل ومحاربة الفقر وتعزيز الحماية الإجتماعية لتحقيق نمو طويل الأمد”، فإن من الأساليب الست لمحاربة الفقر بأشكاله المختلفة هي النهوض الوضع التعليمي العام ومخرجاته من خلال عدة استراتيجيات تنشأ قوى عاملة. لكن هل سيؤثر هذا الشكل المقترح من التعليم على هذا النهج الإجتماعي للفردية والثناء المرافق له؟
التكافل الإجتماعي
يعني التكافل الإجتماعي أن يتكفل المُجتمع بشؤون كل فرد فيه من كل ناحية من النواحي الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والصحية. يعد مفهوم المسؤولية اللإجتماعية للمؤسسات من أحد المفاهيم الحديثة. في أيامنا هذه، في ظل النمو السريع للسكان والإختلافات معا، أليس من السهل والمنطق أن نتقاسم الأدوار بيننا؟ لاستخدام هذه المقدرة من الذكاء والقدرة للمضي قدما. نحن بحاجة إلى كسر هذه الحلقة المفرغة من الفردية الصارمة وتعزيز أهمية ومعنى وجود المجتمع. علاوة على ذلك، يجب الإشارة إلى أن مواجهة ومعالجة مثل هذه الأمور ليست غبية أو ساذجة أو لا قيمة لها، فهي بالتأكيد ليست كذلك! كما أنها ليست سياسية، إنها مهمة للبقاء والنمو.
ملاحظة: هذا المقال لا يدعم فكرة أن يختار الناس ما يحتاجه ويقرره العالم لهم، ولا بإنقاص المصلحة الشخصية/الإستثمار الذي يقوم به شخص ما. التي لها أهمية قصوى لنمو أي شخص وازدهاره ومحيطه. بل فقط يقترح توسيع نطاق القدرات والخيارات التي يتمتع بها معظم الطلاب، وإبراز وجهة النظر التي مفادها أن الخيارات حتى لو كانت شخصية للغاية، يكون لها تأثير على المجتمع الذي يعيشون فيه تماما كرمي الحجارة في الماء. بالإضافة إلى ذلك، يتحدث عن مواجهة وربما تغيير البيئة والسياق الثقافي المجتمعي اللذان يحتضنان مثل هذه القدرات والميزات العقلية، إلى الوصول إلى درجة نوفر فيها بيئة واسعة وحاضنة وشخصية ومحايدة تسمح لهؤلاء الطلاب -وغيرهم – بالإختيار بكل قدرة وثقة خيارات ذكية و واعية. لذلك، بطريقة بسيطة ولكن مهمة، فإن اختيارك لتخصصك هو جزء من كونك جزءا من المجتمع ككل وصانعا في وقتنا هذا المجتمع، مجتمعك.
أسامة مبيضين