كُتبَت عبارةُ كيا كاها بلغةِ قبائلِ الماوري، وهم السُّكان الأصليُّون لنيوزيلندا وتعني لِنبقى أقوياء. لا أعلَم كيفَ وصلت البَشريَّة إلى هذه المَرحلة من الوحشيَّة واللَّا إنسانيّة؟! كيف لإِنسانٍ أن يَتجرَّأ بالاعتِداء على روحِ أخيهِ الإنسان دونَ أن يَرِفَّ له جِفن. وأن يقتلَ أشخاصًا في دُورِ عبادتِهم بغضِّ النَّظر عن دينهم!؟
هم بشرٌ أبرياءٌ مدنيونَ مسالمون في معبدِهم مُعتكفون يؤدون صلاتَهم لمن يؤمِنون أنَّ له مقاليدَ حُكم هذا الكون. اعتداءُ نيوزلندا لم يَكن الأوَّل من هذا النَّوع، فقد تمَّ الاعتداءُ على بيوتِ العبادةِ لمسلمينَ ومسيحيِّين ويهودٍ من قبل. لكن، المُختلف في جريمةِ مسجدَي نيوزلندا هو كيفيَّة التَّغطية الإعلاميَّة التي سعى لها المُجرم؛ كيف استغلَّ كلَّ وسائلِ التَّواصل الاجتماعيّ لإيصالِ إجرامِه، كيفَ جسَّد نفسهُ وكأنَّه يلعبُ دوراً في إحدى ألعابِ الفيديو حينها، كيف كتبَ خِطاباً للعالم، كيفَ وجَّه رسالتهُ للمتطرِّفين العنيفين أمثالَه، وكيفَ كان دمُهُ بارداً وكأنَّ ما ينتظِرُه بعد فِعلتهِ هو باقاتُ الورودِ كمن رَجعَ بغنيمةٍ جزلةٍ مُنتصراً على أعداءِه.
شهدَت مدينةُ كرايستشيرش النيوزيلندية، الجمعة (15 مارس 2019)، هجوماً إرهابيّاً بالأسلحةِ النَّارية والمُتفجِّرات استهدفَ مسجِدَي النّور ولينوود؛ ما خلَّف 50 قتيلاً ومِثلَهم من الجرحى. ألقت السُّلطات النيوزيلندية، بعد دقائقٍ من تنفيذ الهجومَين، القبضَ على مُنفِّذهما برينتون تارنت، الذي تبيّن أنَّه مواطنٌ أسترالي يبلغُ من العمر 28 عاماً، ويحمِل أفكاراً مُتطرِّفة عنيفة. قال، إنَّه اختار نيوزيلندا بسببِ موقِعها، لإظهارِ أنَّه حتَّى المناطق النَّائية من العالمِ لم تكُن خاليةً من (الهجرة الجماعية). كتبَ مُنفِّذ الهجومَين برينتون تارنت بياناً مطوّلاً من 74 صفحةٍ بعنوان “مانيفستو الاستبدال العظيم… نحو مجتمعٍ جديد”، شرحَ فيه الأسبابَ التي دفعتهُ إلى القيامِ بعملِه الإرهابيّ. وردَ في البيانِ قولُه إنَّه نفَّذ الهُجوم (كي يُدرك الغزاةُ أنَّ أرضنا لن تكونَ أبداً أرضَهُم، فما دام الرَّجل الأبيض على قيدِ الحياة، فلن يتمكَّنوا من غزو أراضينا أو استِبدال عِرقِنا”… نفّذتُ الهجوم لأنتقمَ لمقتَل مئاتِ الآلاف من شعبِنا ممَّن قَضُوا على أيدي الغزاةِ الأجانبِ الذينَ قِدموا إلى أوروبا على مرِّ التَّاريخ… وكي أنتقمَ لإبا أكرولند)، وإبا هي طفلةٌ سويديّة كانت إحدى ضحايا هجومٍ إرهابيٍّ نفَّذه مهاجر غير شرعي في العاصمة السويديَّة ستوكهولم عام 2017.
الإيمانُ والعقيدةُ والدِّفاعُ عنهُما ليسَ مُرتبطاً بدينٍ أو بعرقٍ على وجهِ التَّعيين. لكلِّ إنسانٍ على هذه الأرضِ عقائدُه المختلفة التي لا يَبرحُ في الدِّفاع عنها بشتَّى الطُّرق، العقيدةُ هي الحُكمُ الذي لا يُقبلُ الشَّك فيه لدى مُعتَقِده. وتعني ما عقدَ الإنسانُ عليه قلبهُ جازماً به من الأفكارِ والمبادئ؛ فهو عقيدة، سواءً كان حقّاً أو باطِلاً، وتُستخدَمُ الكلمةُ للإشارةِ إلى الاعتزازِ برأيٍ مُعيَّن.
يتداخلُ مُصطلحُ العقيدةِ مع مفاهيمٍ أخرى مثلَ الإيديولوجيَّة والعقائد الدينيَّة والإيمان. يكونُ تبنِّي العقيدة عن طريقِ الإدراك الحسِّي، الاستنتاج، الاتِّصال مع الأفرادِ ومن تَلقين سلطةٍ معيَّنة؛ وعندما يَجزمُ الإنسان ويَقطع بِعقيدتِه ويتعصَّب لِمبادئِه أو آراءِه ولا يُقيِّمها موضوعيَّاً أو يُناقِشها، ولا يقبلُ برأيٍ مخالِف ويغضّ النَّظر عن الحقائق. بالإضافةِ إلى خطابِ الكراهيةِ الذي يُحفِّز إلى نبذِ وأحياناً قتلِ كلِّ من يُخالف هذا الاعتقاد وهذا الإيمان، كلُّ هذه العوامل تجسَّدت بالاعتداءِ الذي حدثَ في نيوزلندا الذي لم يَكن الأوَّل ولن يكون الأخيرَ الذي تُزهَقُ به أرواحُ بشرٍ لا ذنبَ لهُم بشئ، سِوى أنَّهم مُختلفونَ بعرقهِم هذه المرَّة وليسَ بدينِهم فقط، منفِّذ الهجوم كانَ متطرِّفاً عنيفًا هو ليسَ سوى التَّجسيد الأخيرُ لظاهرةِ المُتفوِّقين البيض المُعادين للآخر بكلِّ أشكاله، من الأفارقةِ إلى المسلمين، إلى أصحابِ القوميَّات والأديانِ المُختلفة، وحتى أصحابِ الأرضِ الأصليِّين. حين تَحضر العقيدةُ والإيمانُ بِتطرُّفٍ مصحوبٍ بِعنف ويأتي خِطابُ الكراهية، هُنا يَتحوَّلُ الشَّخصُ من مُتطرفٍ مؤمنٍ بعقيدتِه دونَ سِواها إلى مُتطرِّفٍ عنيفٍ يَمنعُ غيرهُ من حريَّةِ اعتقادِه.
“مُطلقي خطابِ الكراهية رُبَّما لم يَضغطوا على الزِّناد؛ لكنَّهم زَرعوا البذور”
أوَّل من رأى مُطلقَ النَّار في المسجدِ حيَّاهُ بأهلاً أخي، وكانَ الرَّد خمسَ رصاصاتٍ في صدرِه، الأمرُ لا يتعلَّق بالدِّين؛ بل بالإنسانيَّة. التَّطرُّف العنيفُ ليسَ لهُ دينٌ ولا وَطن. أهلاً أخي كانت كصوتِ التَّسامُح في مواجهةِ رصاصِ الكراهية. هذا ما حاوَلَت نيزولندا مُمَثَّلة بِحكومتِها وشعبِها إيصالهُ في طريقةِ إدارتِهم للأزمة؛ نيوزيلندا دولةٌ تعتمِد بشكلٍ أساسيٍّ في مواردِها الوطنيَّة على المُهاجرين، وتَدمجُهم في المجتمعِ بناءًا على المساواةِ والعدالة، وتَهتمُّ بإدارةِ سُمعتِها خارجيّاً، وهو ما نظَّم إجراءاتِ التَّعاملِ مع الحادثة، وقد نَجحت بِالحفاظِ على ثوابِتها. لسنواتٍ طويلةٍ تَتباهى دولٌ مثل أستراليا ونيوزيلندا بأنَّها دولٌ تستقطبُ المهاجرينَ دونَ النَّظر إلى العِرق أو الدِّيانة، وأنها مُنفتحةٌ على مُختلف الثَّقافات، وهذا ما سهَّل عيشَ المُجتمع في نيوزيلندا ذي الأربعةِ ملايين ونصف تقريبًا، بالرَّغمِ من انتمائِهم إلى 200 عرق وتحدُّثِهم 160 لغة. ويُمثِّل المسلمونَ ما يزيدُ قليلاً على واحدٍ بالمئة من سكَّانِها.
نجحت رئيسةُ نيوزلندا بقلبِ موازينِ لعبةِ الإجرامِ بِتحويلِها التَّهديد بِتمزيقِ النَّسيج الاجتماعيّ والمُخاطرة بِسُمعةِ البَلد إلى فرصةٍ لِتعريفِ العالم بنيوزيلندا وتوحيدِ المُجتمع والتَّضامن مع الجالية المُسلمة، وبذلك لم تَترك فرصةً لِلإعلامِ المُتطرِّف بِتوظيفِ الحدثِ لِصالِحه. بالرَّغم من كثرةِ العَمليَّات الإرهابيَّة التي حَدثت حولَ العالم، لم يتَّحد العالم ضدَّ الإرهاب كما اتَّحد في حادثةِ مسجدِ النُّور الإرهابية، وكلمة السِّر إستراتيجيةُ إدارةِ الأزمةِ الإعلاميَّة التي اتَّخذتها الحكومةُ النيوزيلندية، والتي كان لها تأثُّر كبيرٌ في حشدِ أصواتِ العُقَلاء حولَ العالمِ من مُختلفِ الأديانِ والثَّقافاتِ لِنبذِ الإرهاب والدَّعوة للتَّسامُح والتَّعايش. رُفعَ أذانُ الجمعةِ في أرجاءِ نيوزيلندا مع بثِّه في الإذاعةِ والتِّلفزيون في إجراءٍ استثنائيٍّ أعقبَهُ الوقوف دقيقتَي صمت. في أنحاءِ البلاد، مع تَنظيمِ تَجمُّعاتٍ عامّة في العديدِ من المُدن، بينَها أوكلاند وويلنغتون.
وقفَ الآلافُ ومن بينِهم رئيسةُ الوزراء جاسيندا أرديرن والنَّاجون المُصابون، في حديقةِ قُبالَةَ مسجدِ النُّور الذي بدأت فيهِ المَذبحةُ المُروِّعة. اختارت أرديرن التي كانت ترتدي غطاءَ رأسٍ أسودٍ وملابسَ سوداء، حديثاً للنَّبي مُحمّد لِمخاطبةِ البِلاد وقالت (الرَّسول محمد صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إنَّ مثلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطُفِهم مثلَ الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى لهُ سائِرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى) وأردفت: (نيوزيلندا تُشاطِرُكم الأحزان. نحنُ واحِد).
وضعَ الضُّبَّاط الذين انتشروا في مُحيط كرايست تشيرش شاراتٍ خضراءَ على صُدورِهم، ووضعت الشُّرطيَّات أوشحةً سوداءَ على رؤوسِهنَّ تعبيراً عن السَّلام والتَّضامن. كما تمَّ تشكيلُ سلاسلَ بشريَّة خارجَ بعضِ المساجدِ كرمزٍ لِلحمايةِ والتَّضامنِ وبثِّ روحِ الأمل:
“أنتُم نحنُ ونحنُ أنتُم… أنتُم صلُّوا ونحنُ نَحميكُم”
قال إمامُ مسجدِ النُّور جمال فودة الذي وقَف خلفَ مِنصَّة في الحديقة لِلحشد: “قُلوبُنا محطَّمة لكنَّنا لم ننكسِر. نحنُ على قيدِ الحياة… نحنُ معاً وكلُّنا تصميمٌ على ألَّا نسمحَ لأحدٍ أن يَقسِمَنا”. بعدَ إقامةِ الصَّلاة، اقتربَ غيرُ المسلمينَ من المسجدِ ووضَعوا باقاتِ الزُّهورِ واحتَضنوا المُسلمين والتَقطوا الصُّورَ مَعهُم. وخصَّصتْ الصُّحف النيوزيلندية صفحاتٍ كاملةٍ نَعَتْ فيها جميعَ الضَّحايا بأسمائِهم وتضمَّنت دعوةً إلى حدادٍ وطنيّ. قالت صحيفةُ نيوزيلاند هيرالد في صَفحتِها الأولى (دعوةٌ إلى الصَّلاة… في الوِحدة قوَّة) ونشرت صحيفةُ اكسبرس كلمةَ سلامٍ بطولِ صفحتِها الأولى.
“لقد أُدمِيَت قلوبُنا لكنَّنا لم نَنكسِر، نحنُ على قيدِ الحياة، نحنُ معاً، ونحنُ مُصمِّمونَ على عدمِ السَّماح لأيِّ شخصٍ بِتَفريقِنا”
زينْ الصُّبحْ