نحنُ من نُعطي الأشياءَ قيمتَها

نحنُ من نُعطي الأشياءَ قيمتَها

لم يخلص الله وحشًا أسوأ من الإنسان، ولم يخلص الإنسان وحشًا أسوء من الحرب – إبراهيم نصرالله

أماميَ الأحرُف على لوحةٍ تكادُ تَصلُ إِليها جميعُ أصابِعِ يَدي، بِسهولةٍ ويُسر، لِتكونَ مِنها كَلِمات، ولِتكونَ هذهِ الكَلماتُ جُمَلًا. لها معنًى مُعيَّن أعنيهِ أحيانًا، وأحيانًا أُخرى أَهربُ مِنه، أهربُ من تِلكَ الأحرُف، حتَّى لا يُقبضُ عليَّ بالجُرم ِالمشهودِ بأنَّني عَنَيتُ ما عَنَيت. وكذلكَ هيَ الحياةُ لدَيها جَميعُ الحِبالِ التي بإمكانِها تَسييرُها وتَحريكُها يُمنةً ويُسرة، كُدميةٍ مُقطَّعةٍ من كَثرةِ الألمِ الذي ألمَّ بِها. لستُ مُتأكِّدةً عن من الذي يُحرِّكُ تلكَ الحياة، هل نحنُ كَبشرٍ أم أنَّ هُنالكَ قوَّة خارجيَّة أكبرُ منَّا تُسَيِّر الأحداث. تلكَ الأُخرى تَتطلَّبُ منَّا ردودَ أفعالٍ مُعيَّنة، ممَّا تَجعلُنا نُكَوِّنُ أحداثًا لا يُمكنُ للعقلِ البشريِّ أن يَتوقَّعَها، أو أن يُدركَها في الكثيرِ منَ الأحيان. الحياةُ التي لا نأملُ مِنها إلَّا أن نعيشَ في مَعزِلٍ من كلِّ ما قد يُحيطُ بنا من آلام. اختلفَتْ الكثيرُ والكثيرُ من المفاهيمِ على مدى السَّنواتِ الماضية، وستَختلِفُ الكثيرُ والكثيرُ من المفاهيمِ الأُخرى. بل من المُمكنِ أن تَظهرَ مفاهيمٌ جديدةٌ مع تَقدُّمِ الوقتِ والعِلم، أو بتأَخُّرِه -لا يهُم-، ولكنَّ الزَّمنَ وحدهُ هو القادرُ على قلبِ الموازينِ بِكُلِّ شيءٍ يَخصُّ أي شيء.

إن تَتبَّعنا مَفهومَ الحُبِّ عبرَ السِّنين الماضية، إن وَجَدنا الأدوات التي تُساعدُنا على فهمِه وتحليلِه، إن كانَ عن طريقِ الرِّواياتِ التي نَسمعُها من أجدادِنا، أو من خِلالِ كلماتِ أغاني الطَّربِ القديمِ وفَحواها عن الكثيرِ من مشاعرِ الألمِ المُرتبِطةِ بالحُبِّ والمُحِب. جَعلَتنا بصورةٍ أو بِأُخرى نُقارنُ ما نحنُ عليهِ اليوم، الأُمور التي شَهِدناها من علاقةِ آبائِنا وأجدادِنا بِبَعضهم البَعض، نرى كمِّيَّةَ الانسجامِ والأُلفةِ اللَّذان سَيطرا على كُلِّ تَفصيلٍ من تفاصيلِ العلاقة. نَرى ما آلت إِليهِ الأحداثُ ونِسبُ الطَّلاق، نرى العوالِمَ الأُخرى التي انخفضَت بِها مُعدَّلاتُ النُّمو بِطريقةٍ مُخيفة، لِتصبحَ عوالمَ مُسنَّة ليسَ بها روحٌ مُفعمَةٌ بالطَّاقة. نَرى ونخافُ الحب، أو نَخافُ فِكرةَ أن لا نَحصُلَ عَليهِ بالصُّورةِ التي نُحبُّ أن يَكونَ عَليها. نُريدُ قِصصًا تاريخيَّةً في زَمنٍ يَفقِدُ معالمَ التَّاريخِ التي في ذُهونِنا وعُقولِنا. يَفقِدُ الفنَّ والموسيقى، يَفقدُ الفنَّ المِعماريَّ الجَميل، يَفقدُ معاني التَّآخي ويملأُه الشَّماتةُ والحِقد.

أصبحنا نَعيشُ في زمنٍ غيرِ مَفهومِ المعالِم، كُلُّ شيءٍ حولَنا مُخيف، لأنَّهُ كثيرُ التَّغيُّر والتَّبدُّل، فما نَكادُ نألفُ الأمر، حتَّى يُفاجِأُنا أمرٌ آخر. أصبَحنا في حالةٍ من عدمِ الاستِقرارِ الدَّائم، لا نَعلمُ عن ماذا سنَتحدَّث؛ فَهُنالك الكثيرُ للتَّحدُّثِ عَنه. لا نُعطي الشَّيءَ القيمةَ التي يَحتاجُها لِنفهمَهُ ونبني عَليه، بل نَمرُّ على جميعِ الأُمورِ باستِعجالٍ خوفًا من أن يَفوتَنا شيءٌ آخر. لا نَعلمُ أنَّ الذي فاتَنا الكثيرُ بِعدمِ إِعطائِنا الوقتَ المُلائِمَ والقيمةَ المُلائِمةَ لِلموضوعِ نَفسِه، حتَّى أنا الآن أكتُبُ باستِعجالٍ مُتخيِّلةً الكثيرَ من المفاهيمِ التي تَغيَّرت تَقفِزُ داخلَ عقليَ واحدةً تِلوَ الأُخرى، والتي أُريدُ أن أتحدَّثَ عنها والتي حقًّا لا يكادُ مَقالٌ واحِدٌ أن يَشملَها جَميعًا. في الواقعِ في كُلِّ تفصيلٍ صغيرٍ يَمرُّ عَلينا، مُنذُ أن نَفتحَ أعيُننا للعالَمِ الخارجيِّ ونحنُ في تَناقُضٍ مع ما كانَ وما سَيكونُ وما نحنُ عليهِ اليَوم. اختلفَتْ طبيعةُ الحياةِ التي عاشَها آباؤُنا عن التي نَعيشُها اليوم، لا نعلَمُ هل يجبُ أن نتفاعلَ معَ الأُمورِ بالطَّريقةِ التي تمَّت تَنشِأَتُنا عَليها؟ أم أَن نجدَ نحنُ طُرقَنا الخاصَّة معَ ما أعطَينا من مُعطياتٍ مُخالفةٍ تمامًا عمّا كانوا قَد شَهِدوا في وقتٍ سابِق. هل يَجبُ أن نتمسَّكَ بِأُصولِنا رغمَ كلِّ هذا التَّنوُّع أم أنَّ ما تَفعلُه بِنا الحياةُ في سَلخِنا عن ما نَحنُ عليهِ فعلًا هو الصَّحيح؟

غريبةٌ هي المَشاعرُ والتي بالتَّأكيدِ هي ذاتُها لنا جميعًا كَبشَر، لدَينا نفسُ الأعضاءِ الجَسديَّة، لدينا نفسُ الهرومناتِ التي تُفرَزُ من أجسادِنا بأوامرٍ من العَقل، هي ذاتُها مشاعرُ الفَقدِ والخَوفِ والحُبِّ وأقصُدُها هُنا بِمُسمَّياتِها. ولكن اختلفَتْ درجَتُها أو وَتيرتُها من زمنٍ لآخر. بالتَّأكيد مشاعرُ الشَّخص بالخوفِ خلالَ وجودهِ في دولةٍ واقعةٍ بالحربِ قبلَ مئةِ عامٍ على سبيلِ المِثال، ليست ذاتُها مشاعرُ الخوفِ التي يَملكُها البَشرُ اليوم. يرجِعُ ذلكَ إلى تَطوُّرِ الأسلحةِ التي تستخدم اليوم في الحروب، قديمًا كانت الأسلحة مقتصرة على الدبابات والبنادق والسيوف -إن عندنا بالزمان إلى الوراء أكثر قليلًا-. لكننَّا اليوم في زمنِ الأسلحةِ النَّوويَّة والكيماويَّة، والتي خلالَ غارةٍ واحدة ٍبإمكانِها القضاءُ على دولةٍ بِأكملِها، عندما نَطرحُ مصطلحَ القَضاءِ نعني بذلكَ كل مشاهدِ الحياة، إن كانَت كائنات حيَّة ومن ضِمنها الإنسانُ البَشري، إلى كلِّ الجماداتِ التي صَنعها خلالَ حياتِه، كلُّها تختفي لِتخلِّفَ ورائَها هياكلَ عظميَّة من كُلِّ شيءٍ أو تُذوِّبُ هذهِ الهياكل لِتُخلِّفَ اللَّاشيء.

لستُ عالِمةً في الهرموناتِ والمشاعرِ وطُرقِ انتِقالِها وتَفاعُلِها. لكنَّني بالتَّأكيدِ لديَّ مخيِّلةٌ خصبةٌ بإمكانِها الإبحارُ لتكونَ جالسةً في وسطِ بيتِ شخصٍ قبلَ وُجودِ هذه الأسلحة. ومُقارنتِها بآخرٍ يجلسُ قبلَ أيَّامٍ قليلةٍ في إيران ومُتَّصلٌ بالإنترنت، يُراقبُ تَغريداتِ إنسانٍٍ ساذجٍ قد أصبحَ رئيسَ أكبرَ دُولِ العالمِ قوَّةً وتطوُّرًا. هو اليوم ليسَ خائِفًا منَ الذي يَحدثُ فِعلًا ولكنَّه خائفٌ من الذي من المُمكنِ أن يَحدُث، خائفٌ مما يُخيَّل إليه! من الممكنِ أنَّ هذا الخوفَ وحدهُ أعظمُ بدرجاتٍ من الشَّخصِ الأوَّل، فوجودُ كلِّ أساليبِ التَّعذيبِ النَّفسانيِّ من قبل أن يكونَ تعذيبًا حقيقيًّا، يُعطي الأمرَ واقِعًا دراميََّا مُحكمًا!

وآخرٌ يعيشُ في جزءٍ ضئيلٍ ممَّا كانَ وَطنه، يعيشُ مع ملايينِ البشرِ في مساحةٍ ضئيلة، لا تّصلُها إلَّا أشعَّةُ الشَّمس من خالِقها. لكنَّهم وإن كان لهُم القُدرةُ لِمَنعِها عَنهم بالتَّأكيدِ كانوا سَيمنعوها. يعيشونَ بأقلِّ الموارِد التي منَ المُمكنِ أن يَتخيَّلها المَرء، ومعَ ذلكَ يُشكِّلونَ أعظمَ مظاهرِ الصُّمودِ والمُقاومةِ التي منَ المُمكنِ أن تُدرَّس في التَّاريخ. سَبعون عامًا بل أكثرَ من سبعينَ عام، وهُم في حالةِ خوفٍ غير مُنقطِع، لا يَِأمَنونَ لَيلهُم ولا حتَّى نهارَهُم، لا يَعلمونَ متى سَيَسلِبُ منهم الموتُ من هُم أغلى عَليهِم من أنفُسِهم، متى سَيسلب مِنهم أرواحَهُم وفَلذاتَ أكبادِهم، هنا لا نَعلمُ حقيقةً ما هو مَعنى الخوفُ والجزعَ لديهِم؟ كيفَ يشعرونَ بالخوفِ والفَقدِ وهُم يُزغرِتونَ عندَ سقوطِ أحدِ أفرادِ عائِلتِهم؟ هل هُم الإيمانُ أم أنَّ الإيمانَ هُم؟

ما الذي يَجعلُ كلَّ هذه المفاهيم تتغيَّر؟ ما الذي يَجعلُنا كأشخاصٍ نتغيَّرُ بطريقةِ التَّعبيرِ عن ما كنَّا عليهِ قبلَ مئاتِ السِّنين؟ ما الذي يُحدِّدُ أهميَّة الأشياء؟ ومن الذي يُعطي الأشياءَ قيمَتَها؟ هل سَتختَفي بعضُ المفاهيمِ في المُستقبل، لِتسودَ بذلكَ مفاهيمٌ أكثرَ غموضًا، لِتُثيرَ في أنفُسِنا الرُّعب من بعدِ أن أصبحَ الخوفُ شيئًا روتينيًّا؟

الحريَّة هي الشَّيء الوحيد الذي يَجعلُك تُشبه نَفسَك، ويجعلُ الشَّارع يُشبهُ نَفسهُ والصَّباح نفسهُ وقهوةَ جدَّتي نَفسها والزُّهورَ نفسها والحبَّ نفسهُ والعُمرَ نفسهُ والطُّفولةّ نفسها والشَّيخوخةَ نفسها والمقبرةَ نفسها -حتَّى المقبرةُ لا تُشبهُ نَفسها هُنا – لأنَّها ليست حرَّة، ليست حرَّةً في أن تكبُرَ يومً بعدَ يومٍ بصورةٍ طبيعيَّة، حتَّى المقابر تُولد وتَهرمُ كما يُريدونَ لها لا كما تُريد. – إبراهيم نصرالله، أعراسٌ آمنة.

إسراءْ مَنصورْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *