تَفنيدُ العَقلِ وإثباتُ الوَهم

تَفنيدُ العَقلِ وإثباتُ الوَهم

يرى هذا الكائِنُ الواقِفُ على قَدَمَيهِ كُلَّ شيءٍ من حولِه، بِعَينَيهِ الفانِيَتَينِ يَتَفَقَّدُ أحوالَ المُتَغَيِّراتِ الزَّائِلة. إنَّهُ يرى ذاكَ البِساطَ الخادِعَ المُتَلَوِّنَ الذي يَعلوه، وكذا يرى بِساطًا آخَرَ أكثَرَ تَلَوُّنًا يَخطو عَلَيهِ بِتَمَهُّل. كانَ قَبلَ سُقوطِهِ يرى كُلَّ شيءٍ بِعَينٍ واحدة، تِلكَ العَينُ التي يرى مِن خلالِها كُلُّ فردٍ وجَمع، عَينُ السَّذاجَةِ والفُتورِ تِجاهَ الوجودِ وعن كُلِّ شيءٍ يؤَطِّرُه. كانَ مُغَيَّبًا بشكلٍ كامِل، لا يُجيدُ طَرحَ السُّؤالِ ولا حتَّى رَدَّ الإجابة، مُسَيَّرًا قَولًا وفِعلًا، لا مِن مَن هُم حَولَه، بل عَقلُهُ الزَّائِفُ تَولَّى تَسييرَه. لم يَكُن يدري أبدًا بمدى التَّغَيُّرِ الذي سَيَلحَقُ بِه، ولا حتَّى بمدى الضَّياعِ والألَمِ اللّذانِ سَيُلِمَّانِ بِه كذلِك. إنّها مُعضِلَةُ ما بعدَ السُّقوط، رُبَّما هوَ عُلوٌّ وارتِفاعٌ ما لَهُما من جواب، و يكونُ فقط سُقوطٌ ما لَهُ مِن قرارٍ في نَظَرِه. لا أدري حَقًّا، ولا هو يدري، وَدَدتُّ دائِما أن أُثبِتَ لَهُ عَكسَ ما يَعتَقِد، أنَّ الحالةَ التي بِها يَمُرُّ ما هي إلَّا تَبَصُّرٌ للأشياءِ ما سَبَقَ لَهُ من مثيل، وأنَّهُ انتِقالٌ أزَلِيٌّ من ظُلماتِ ما يُسمَّى بالواقِعِ إلى أنوارِ ما يُسَمَّى بالوهم، انبِثاقٌ أوَّلٌ وأخير، تجريدٌ لِكُلِّ مُجَرَّدٍ وتَفنيدٌ لِكُلِّ أكيد.

ما هو فَهمُنا للواقِعِ نحنُ القاصِرونَ بينَما نَدَّعي أنَّنا نَعيشُهُ كُلَّ دَقيقَةٍ من هذا الزَّمَنِ المُتَحَرِّك؟ وما هُوَ الوَهمُ الذي ما إن ذُكِرَ في المَجالِسِ خُيِّلَ للجالِسِ أنَّهُ نَزعَةٌ من نَزعاتِ ما يُسمَّى بالعَقلِ تَزولُ في غُضون؟ رُبَّما من الأمورِ الجَلَلِ التي تُشعِرُني بالجَفاءِ حينَما أكتُبُ أو أتحَدَّث؛ فهمِيَ حقيقَةَ صُعوبَةِ أحَدِهِم إدراكَ ما أحاوِلُ مُحاكاتَهُ من خلالِ الوسائِلِ المُتَعَدِّدَةِ للإسقاطِ الذِّهني، خصوصًا عندَما يكونُ الذِّهنُ مُستَقِرًّا والإسقاطُ مُضطَّرِب. لا أدري؛ فَرُبَّما يكونُ النَّقيضُ أَصَح، أُحاوِلُ جاهِدًا أن أجِدَ تفسيرًا شافِيًا لِصُعوبَةِ انسِجامِيَ مَعَ الجَمْعِ من خلالِ دِراسَةِ السُّلوكِ لهذِهِ المَنظومة، مَنظومَةِ واقِعِهِم المَزعوم. كيفَ نُفَرِّقُ بينَ الواقِعِ والوَهم؟ أو كيفَ نَعرِفُ إن كانَ ما نَعيشُهُ الآنَ يندَرِجُ تحتَ أيِّهِما؟ هل يَكفي أن نُثبِتَ انتماءَنا للمادَّةِ بأنَّنا أجسادٌ تَكتَنِفُ أرواحًا؟ وأن نُفَسِّرَ ما تَتَعَرَّضُ لَهُ من عوامِلَ تُلحِقُ بِها أثرًا مَلموسًا فَنَكونُ نَعيشُ واقِعًا؟

كثيرًا ما أتسائَلُ عِندَما يُلِمُّ بِيَ ألَمٌ أو أتَعَرَّضُ لِخَدشٍ على صعيدِ الجانِبِ المادِّيِّ مِنِّي، إن كانَ هذا الحَدَثُ كافيًا لإثباتِ وُجودِيَ في نِطاقٍ كونِيٍّ مُعَيَّن. أو ما يَجري في عُروقيَ المَرئِيَّة من السَّائِلِ الأحمَر، وما أرى أُفُقًا مِن خلالِ نافِذَتاي على هذا العالم، وتَفاعُليَ المادِّيّ المَلموس معَ كُلِّ شيءٍ من حولي، هل يكفي هذا لِبَرهَنَةِ وجودي؟ إنَّهُ يُبَرهِنُ الوُجودَ المادِّيَّ للطَّرَفِ الآخر، وإن كانَ الوجودُ مَحصورًا لِغَيرِ القائِل، كيفَ يُثبَتُ نِطاقُ وجودِه؟ لَرُبَّما ما أرى وما أسمَعُ وما أفَكِّرُ وحتَّى ما بِهِ أشعُرُ هو وَهمٌ في وَهمٍ اختَلَقَهُ مَجازُ العَقلِ تَفنيدًا لِما يجري في الواقِع مِن وقائِع، وماذا إن كانَ العَقلُ وهمًا؟ قَطعًا سيَرُدُّ بَعضُ القُرَّاءِ بصوتٍ عالٍ: “يالِ هذا الغبيّ المُتَبَجِّح؛ أيَشُكُّ في وجودِ العقلِ وهوَ يُخاطِبُنا بأفكارِهِ من خلالِه؟”، نعم، إنَّني أشُكُّ في كُلِّ شيءٍ حتَّى بِوجودي.

أرى أنَّ مَصدَرَ الأوهامِ جميعَها هو ما يُسَمَّى بِالعَقل، وأنَّهُ إن أصدَرَ وأنتَجَ مِنَ المُخرجاتِ بِأشكالِها فَما هذه إلَّا أوهام. وإن كانَ غيرَ ذلِكَ فَوجَبَ كَمالُ العَقلِ مِن كُلِّ النَّواحي فَيكونُ واجِبَ الوجودِ بالضَّرورة. كمالُ المُخرَجِ يَستَنِدُ على كَمالِ المَصدَر، والعَقلُ وُجوبًا قاصِرٌ غيرُ مُكتَمِل، ولَو كانَ غيرَ هذا لَوَجَبَ تَعَقُّلَهُ لِذاتِه، وإن تَعَقَّلَ العَقلُ ذاتَهُ كانَت مُخرجاتُهُ كامِلةً بِنَفسِ القَدْرِ الذي تَعقَّلَ فيما فيهِ يُفَكِّر. هذه كُلُّها أوصافٌ لا تَكونُ إلَّا لِعَقلٍ واجِبِ الوجودِ ألا وهوَ العِلَّةُ الأولى لِكُلِّ مَعلولٍ موجود، وهو العَقلُ الواحِدُ الأوحَدُ الذي لا يُنتِجُ أوهامًا البَتَّة؛ فَهوَ حَقًّا موجود، أمَّا العَقلُ الذي كُنتُ في المَطلعِ عَنهُ أتَحَدَّثُ فَهوَ العَقلُ البَشَريُّ المُتَوَهِّم، فإن كانَ العَقلُ يَكتَنِفُ قدرًا ضئيلًا من الوهمِ في ما يَنتُجُ عنهُ فهو لا يرقى إلى مرتَبَةِ العقلِ أبدًا، حتى وإن كانَ قَدرُ الحقيقَةِ في نَتاجِهِ يطغى على وَهمِه.

كيفَ نَعرِفُ الحقيقةَ من الوهمِ في هذا المقامِ إذن؟ في هذه الصُّورَةِ يكونُ ما نَظُنُّهُ حقيقَةً بالنِّسبةِ لنا هو وهمٌ في ظَنِّ غَيرِنا، وما نَظُنُّهُ وهمًا بالنِّسبةِ لنا يكونُ حقيقةً في ظَنِّ غَيرِنا، وهذه هرطقاتٌ لا تتناسَبُ معَ ماهِيَّةِ العقلِ وهَيئَتِه، ويُنافي مفهومَ العَقلِ الحقيقيِّ؛ فهو غيرُ موجود. لا وُجودٌ لِما يُسَمّى بِعَقلِنا يا قَوم، وإنَّما كُلُّ شيءٍ يَصدُرُ عَنَّا من تفكيرٍ واعتِقادٍ وحديثٍ هو وَهمٌ مَصدَرُهُ الوَهمُ المُمكنُ الوجود، فمن السَّذاجَةِ على سبيلِ المِثالِ أن نؤمِنَ بأقوالِ شخصٍ شُهِدَ لَهُ بالصِّدقِ لِما يقولُ للآخرين وهوَ لا يَصدُقُ القَولَ مَعَ نَفسِه، فما الذي يَدفَعُنا للإيمانِ بما يقولُ وهو يُنافي مفهومَ الصِّدقِ بما يَفعَل؟ فَبِذا يَصيرُ صِدقًا غيرَ مُكتَمِل، إذن فهو شخصٌ غيرُ صادِقٍ وبالتَّالي لا وجودٌ حقيقيٌّ للصِّدقِ في هذا المَقام.

إنّي أرى هذا الجَمعَ بِما فيهِ أنا، حُفنةٌ مِن المُتَوَهِّمينَ السُّذَّج، نؤمِنُ بوجودِ ما سُمِّيَ عبر التَّاريخِ بالعَقل، ولا نُدرِكُ أنَّهُ وهمٌ في الحقيقة، رُبَّما يسألُ أحَدُهُم: “كيفَ تجرَّأَ هذا الأبلَهُ على ذِكر الإدراكِ بينَما يُشَكِّكُ في وجودِ العَقل؟ فالعَقلُ إدراكٌ بحَدِّ ذاتِه ولا يُمكِنُهُ إدراكُ شيءٍ من خلالِ سِواه!”، أقولُ إن كانَ العَقلُ إدراكًا فذا يُنافي مَفهومَ العَقل. العَقلُ الحقيقيُّ لا يُدرِكُ بَل يُدرَك، ورُجوعًا للشَّرحِ السَّابِقِ عن العقلِ الواجِب الوجودِ الذي وَحدَهُ يرقى لِصِفَةِ العقل، فإنَّهُ لا يُدرِك، لأنَّهُ واجِبُ الوجودِ بِحَدِّ ذاتِهِ يُدرَك. وتَفسيرُ كُلِّ ما يَصدُرُ عَنَّا من أفكارٍ هو وجودُ الوهم، وهو البديل الأصَحُّ في نَظَري لِفكرَةِ العقل، الوهمُ هو مَصدَرُ كُلِّ شيءٍ يَخُصُّنا نحنُ بنو البشر، هو الذي من خلالِهِ نُفَكِّرُ ونُدرِك ونُحَلِّلُ ونستَنتِجُ وما إلى ذلك، وكُلُّ ما كانَ فَهوَ قاصِرٌ حتى مُنتَجُه أيضًا، وأنَّا للعَقلِ أن يكونَ قاصِرًا يا قَوم.

أمّأ الآنَ سأعودُ قليلًا بأدراجِنا إلى بدايَةِ المقالِ عندما تَحَدَّثتُ عن ذاكَ الكائِنِ الذي يرى كُلَّ شيءٍ من حولِهِ زَيفًا، إنَّهُ يرى الوَهمَ في كُلِّ شيءٍ من حولِه، في السَّماء التي أعارَها وَصفَ البِساطِ الخادِعِ المُتَلَوِّن. وكذا في الأرضِ التي يَخطو عَلَيها فأعارَها ذاتَ الوصف، إنَّهُ يرى وَهمًا من خِلالِ الوَهمِ الذي يرى بِه حتّى وَصَلَ بِهِ الأمرُ للشَّكِّ بما يُفَكِّرُ بِهِ وبِما يَقولُ فَشَكَّ أخيرًا بِوجودِه، وهذا قَطعًا مؤَكَّدٌ وَسَليم. إنَّ الوَهمَ الذي تَزييفًا يُسمَّى بالعقل، لا استِطاعَةَ لَهُ على التَّفريقِ بينَ الوهمِ والحَقيقة ولا على الحُكمِ بينهما، ولن يكونَ ذلِكَ لأنَّهُ قاصِرٌ واهِمٌ لا يَرقى لِمَكانَةِ الكَمال، فتكونُ كُلُّ مُدخلاتِهِ من ما يَراهُ ويَسمَعُهُ ويَحسُّه ويَشعُرُ بِه، غيرَ مؤكَّدَةٍ على وجهِ الحقيقَةِ ولا تَفسيرَ لها فَتبقى في نِطاقِ الزَّيفِ الواقِع. إنَّنا نُولَدُ في وَهمٍ وَنَعيشُ في تَفاصيلِهِ طولَ العُمر نَتيجَةَ تَزاوُجِ مُتوَهِّمَينِ هُم نَتاجُ وَهمٍ جَمعِيٍّ سابِق، وَبِكُلِّ بَلاهَةٍ نَظُنُّ بأنَّ وجودَنا حقيقيٌّ وأنَّ ما نَعيشُهُ هوَ واقِعٌ مؤكَّدٌ استنادًا لِمُدخلاتٍ عُشوائِيَّةٍ غير مؤكَّدة، إنَّنا زَيفٌ لا وُجودَ لَنا أيُّها القَوم، وإنَّ كُلَّ شيءٍ مِن حولِنا زَيفٌ كذلك.

لَطيفْ التَّميمِيّ

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *