بلادُ الشَّمسِ المُشرِقة

بلادُ الشَّمسِ المُشرِقة

الولدُ الصَّغيرُ والرَّجلُ البَدين

يُوافِق السَّادس من أغسطُس عامَ 1945 ذكِرى أحدِ أكثَرِ الأيَّام سَوادًا في التَّاريخِ الإنسانيِّ مع اقتِرابِ الحَربِ العالَميَّة الثَّانية من نِهايَتها، الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة تُلقي قُنبُلةً ذرِّيَّة سُمِّيت بـ”الولدِ الصَّغير” على مَدينةِ هيروشيما والتي قَتَلَت قُرابَة 140.000 شخص. وبِقُنبُلةٍ ذرِّيَّة أخرى في التَّاسع من أغسطس لِنَفسِ العام (الرَّجُلُ البدين) أودَتْ بِحياةِ 80.000 شَخصٍ في مدينَةِ ناغازاكي. وكانت هذِهِ الهَجماتُ هيَ الوحيدَةُ التي تمَّت باستِخدامِ الأسلِحَةِ النَّوويَّةِ في تاريخ الحَربِ في العالم.

 

عَلى لِسانِ إِحدى النَّاجياتِ من المَذبَحة

“فَجأة رأيتُ صاعِقةً من البَرقِ أو ما يُشبِهُ عشرات الآلافِ من الصَّواعِقِ تُومِضُ في لَحظةٍ واحِدة، ثُمَّ دوّى انفجارٌ هائِلٌ وفجأة سادَ المكانُ ظلامٌ تام. عِندَما أفَقتُ وَجدتُ شعري ذابِلاً، وملابِسي مُمزَّقة، وكان جِلدي يَتساقطُ عن جَسدي، ولَحمي ظاهِرٌ وعِظاميَ مَكشوفة. الجميعُ كانَ يُعاني من حُروقٍ شَديدَةٍ وكانوا يَبكونَ ويَصرُخونَ ويسيرونَ على وجوهِهِم وكأنّهُم طابورٌ من الأشباح. لقد غَطَّى مدينَتَنا ظلامٌ دامِسٌٌ بعدَ أن كانَتْ مُنذُ قليلٍ تَعُجُّ بِالحياة”.

 

خيرُ الانتِقام

كانَ حَرِيًّا بِالشَّعبِ اليابانيِّ السَّاموراي الفِكرِ الذي لا يَتَرَدَّدُ بِتَقديمِ نَفِسهِ لِلموتِ ويواجِهُ مَخاطِرَهُ دونَ خَوفٍٍ عِندما يَتعلَّقُ الأمرُ بِمبادئِهِ وشَرفِهِ وكرامَتِه، أن يُحَوِّلَ حياتَهُ لِمعرَكةٍ انتقاميَّة. لا سِيما أنَّ اليابان هُوَ أوَّلُ شِعبٍ ظَهرَت فيهِ العَمليَّاتُ الانتِحاريَّة التي تُعرَفُ (بالكامازاكي) وهيَ العَمليَّاتُ الفِدائيَّةُ التي قامَ بِها الطَّيَّارونَ اليابانيّونَ في الحربِ العالمِيَّة الثَّانيةِ حَيثُ كانوا يَدفَعونَ بِطائِراتِهم نَحو البارِجاتِِ الأمريكيَّةِ وقد نَجَحوا في إِحداثِ خسائرٍ كبيرَةٍ في الأسطولِ البَحريِّ الأمريكي؛ حيثُ أَغرَقوا 34 سَفينةً بَحريَّةً أمريكيَّةً وأحدَثوا ضَرراً كَبيراً لـ 368 سَفينَةٍ أمريكيَّة، وقَتَلوا 4900 بَحَّاراً أمريكيًّا بِعَمليَّاتٍ استِشهاديَّةٍ ماتَ فيها 2800 كامازاكي وذلِكَ إيماناً بِأَنَّ مُستَقبلَ اليابانِ سَيكونُ قاتِماً إن لَم يُقدِّم أفضلَ ما لَديهِ من طيَّارينَ وطائِرات.

هذا يَعني بِأَنَّ الشَّعبَ مُقاوِمٌ ومُضحِّي ويَموتُ من أَجلِ بَلَدِهِ وكانَ من السَّهلِ عَليهِ أن يأخُذَ بِثأرِهِ مِنَ الأمريكانِ بَعدَ الحَربِ العالَميَّةِ الثَّانيةِ ويحوِّلُ حياتَهُ إلى غِلٍّ وعَداوات، شَعبٌ سُحِقَ بِالسِّلاحِ النَّوويِّ سيَكونُ انْتِقامُهُ مَشفوعاً بِعدالةٍ وكانَ من بابٍِ أدعى أن يُفجِّرَ نَفسَهُ في بلادِ غَريمِه ويَقوم بِعمليَّاتٍ ضِدَّ القواعدِ الأمريكيَّةِ الموجودَةِ في اليابانِ وفي المُحيط. إلا أنَّ الشَّعبِ اليابانيَّ اختارَ طريقاً آخر، أن يَنْتَصِرَ لِنفسِهِ ويُعيدَ بناءَ حضارَتِهِ من جديدٍ لِيكونَ في الطَّليعَةِ وأكثرَ تَقدُّماً من أيِّ بَلدٍ في العالم. سُجِّلت مُعجزةً تاريخيَّة؛ من خرابٍ اقتِصاديٍّ ودمارٍ ذرِّيٍِّ وفي أقَلِّ من خمسينَ سنةٍ أصبَحنا نَرى هذا الغزو الإِنتاجيَّ والصِّناعيَّ على مُستوى العالَمِ على الرَّغمِ من عَدمِ وُجودِ الخاماتِ والموارِدِ الطَّبيعيَّةِ وانعدامِ الحياةِ الرَّعويَّة لانعِدامِ الحيواناتِ الأليفَةِ من أغنامٍ وأبقارٍ وجِمال، وكانت تَقومُ باستيرادِ النِّفطِ والمواد الأوَّليَّة. هنا يأتي الفَنُّ الإداريُّ مَمزوجاً بِمَلكاتِ الشَّعبِ اليابانيِّ الفَريدة.

 

التَّخطيطُ الذَّكيُّ أساسُ نجاحِ الأُمم

مَع أنَّ الهزيمةَ خلَّفت بَلداً مُتهاوياً بينَ رُكامِ وأشلاءِ الحَرب، إلا أنَّ اليابانَ استَطاعَ أن يَخرُجَ من موتِه السَّريري ونَجحّ في تجاوزِ كَبوَةِ القُنبُلتَين الذَّريَّتين. القيادةُ اليابانِيَّة الجَماعية الحكيمة دَعَت إلى اجتِماع مبيعات (استراتيجية تسويق) يَشمَلُ كلًّا من الحُكومةِ والقادَة ِالصِّناعيِّين وقادَةِ المُجتَمعِ التَّربويِّ ووَضعوا خُطَّة، ما الذي يُمَكِّنُنا كأمَّة عَمَلَهُ لِنَتوحَّد؟! لِنجتَمِعَ ونُحقِّقَ هدفاً يُعيدُ الكرامةَ الوطنيَّةَ ويعيدُ الازدِهارَ الاقتِصاديَّ لِأرضِنا؟! وأخيراً قَرَّروا أنَّ هَدفهُم في الخمسيناتِ هو أن يُصبِحوا الأمَّة الأولى في العالَم في صناعَةِ النَّسيج. قد بَلغوا هَدفَهُم في عام 1960. عَقدوا اجتماع مبيعاتٍ آخر وقالوا: ما هو هَدفُنا في هذا العَقد؟ وقرَّروا تَحقيقَ الحُلم المستحيلِ بأن يُصبِحوا الأمَّة الأولى في إنتاجِ الفولاذ، بِالتَّأكيدِ يبدو الحلمُ مستحيلاً! لا موارِد طبيعيَّة، لا فحم ولا نِفط ولا حَديد خام، وعَلَيهم استيرادُ كُلّ هذه المواد مَسافةَ آلافِ الأميالِ إلى أرضِهِم وبِناء معامِلِ الفولاذِ المُتطوِّرةِ وتَصنيعِ فولاذٍ من الدَّرجةِ الأولى وإعادَةِ شَحنِها آلافَ الأميال، وبيعِه بِسعرٍ تنافُسي! إنَّ المعجزةَ اليابانيَّة تَكمُن في تَجاهُلهم لما لا يَملِكونَه وهي المصادِر والموارِد ونَظرتهم العَميقة لِما لَديهِم من إرادةٍ صلبَةٍ في العَمَلِ والاجتِهاد. إنّهم حقاً مجتمعٌ خلاّق، أمَّةٌ تسعى مُجتمِعةً إلى هَدفٍ يستحقُُّ العناء، وبِالفِعل بَلغوا مُرادَهم. في عام 1970 عَقدوا اجتماعاً آخرا وقالوا: هدفُنا في هذا العقد سيكونُ بِكلِّ بساطةٍ هو الأمَّةُ الأولى في العالَمِ في إنتاج السَّيَّارات، أخفَقوا لِسنَةٍ واحدة. في عام 1980 حدَّدوا غايَةً أخرى؛ وهي أن يُصبِحوا الأمَّة رقم واحِد في تَصنيعِ الإلكترونيَّات وأجهزةِ الكمبيوتر. في مَطلعِ الثمانينات كانت اليابانُ تَمتَلكُ اقتصاداً مُزدهراً وتُعدُّ ثاني أكبرَ اقتصادٍ في العالم.

المُحدِّداتُ الجُغرافيَّة التي كانت مِنَ المُفترضِ أن تُعيقَ النَّهضةَ اليابانيَّة:

  1. أكَبرُ مُشكِلةٍ تُواجِهُها اليابان هيَ أنَّ نِسبةَ (12%) من أراضيها فَقط صالِحةً لِلزِّراعة.
  2. فَترةُ الزِّراعةِ تَمتَدُّ إلى (260) يومٍ كَحدٍّ أقَصى، وذلِكَ لِغيابِ الزِّراعَةِ في الصَّيفِ بِسبَبِ الرُّطوبة.
  3. فَترةُ الشِّتاءِ الذي يُرافِقُهُ أعاصيرٌ قويَّة (تسونامي)التي تَعقبُ الهزَّاتِ الأرضيَّةِ العَنيفَةِ والزَّلازِلِ وما تُخلِّفُها من خسائِرٍ فادِحة.
  4. يَحتَوي اليابان عَلى أكثَر من (200) بُركان و (54) مِنها في حالَةٍ نَشِطة.
  5. تُغطِّي الِجبال حوالي5/4 من مساحَةِ سَطحِ اليابان.
  6. يَسكُنُ اليابانُ عَددٌ هائِلٌ من السُّكَّان، حوالي 130 مليون نسمة.

 

المَعرفةُ تُولدُ من رحمِ الأخلاقِ الفاضِلة

مثَّلَ الرِّهانُ على الجانِبِ المَعرفيِّ في البِناءِ الحضاريِّ أحد مُرتكزات نَهضةِ اليابان. المُعلِّمُ اليابانيُّ لديهِ حصانةُ الدُّبلوماسيِّ وراتِبُ الوزير. إنَّ الإنسانَ اليابانيَّ يَتميَّزُ في تَعلُّمِه وتفانيهِ في إتقانِ أسرارِ الصِّناعاتِ وما المَصانِعُ إلا أُسرةٌ واحدَةٌ وعائِلةٌ بِكلِّ ما لِلكلِمةِ من معنى. عُمَّالُ المِصانِعِ وُلِدوا كي يموتوا بِداخِلها، كما أنَّ نجاحَ التَّعليمِ مبنيٌّ على العَمَلِِ الَجماعِيِّ والإحساسِ بِالمَسؤوليَّةِ وغَرسِها في الطَّلبةِ مما يَجعَلهُم يُحافِظون على الأثاثِ المدرسيِّ والبيئَةِ المدرسيَّة. المساواةُ في التَّعليمِ ونوعيَّةُ التَّعليمِ بغضِّ النَّظر عن الفِئةِ المُجتمعيَّةِ ونظام التَّعليِم المُختلف عن الدُّولِ الأخرى بِحيثُ يَبدأُ العامُ الدِّراسي في شهرِ نيسان مِنَ العام ويَنتَهي في شهر آذارٍ من العامِ الذي يَليه، وهذا يُفسِّرُ عددَ السَّاعاتِ والأيَّامِ الدِّراسيَّة الأكثر مُقارنةً بِبَقيَّةِ دُولِ العالم.

حالةُ الاجتِهادِ والمُنافسة والتَّفوُّق ودَعمِ المُخترعينَ التي تَجعلُ الفَرد في حالَة إِبداعٍ مُستَمر. كما أنَّ التَّنشئَةَ الأصيلَةَ لِلأفرادِ منذُ الطُّفولَة؛ حيثُ تَقومُ تَربيَةُ الطِّفلِ الياباني من صِغرِه على الرُّوحِ الجَماعيَّة والحَقيقيَّة الأولى التي تَتَفتَّحُ عينُه عَليها هي الحياةُ الجَماعيَّةُ من أُسرة، أصدِقاء وتَجمُّعات، لا يوجَدُ في قاموسِ الدَّولةِ ما يُسمَّى بِالفَرديَّة، والتُّراث الشَّعبي مُرتَبط بِالمجموعة (الشلة) ورَقصةُ اليَد بِاليد والكتف بِالكتف التي تَتخلل الحفلاتِ الاجتِماعيَّة دلالة على الإنتِماء وعلى روحِ الفريق. القِيادة الإداريَّة الجَماعيَّة التي تُمثِّل محاكاة نَفسيَّة بينَ القائدِ والمرؤوسِ على تَعهُّدهم الجماعيِّ لِتحقيقِ الأهداف؛ فَالقائد دوره توحيديّ ويَتمُّ إِرشادُهُ بِما يَجبُ عَملُهُ من مرؤوسيهِ بِعكسِ ما هو مُتعارفٌٌ عليه في البُلدانِ الأخرى. حتَّى أنّ إِحدى علاماتِ الموظَّف الذَّكيِّ في اليابانِ هي مَعرفته وقُدرته على توجيهِ رئيسِهِ لإيمانِهم بأنَّ الأفكارَ تَنبعِثُ منَ الأسفلِ لِلأعلى. كَما أنَّ الإخلاصَ في العَملِ والشُّعور الصَّادق بِالمسؤوليَّة والجماعة يَبعثُ على إِحساسِ المُدير بِالحزُن عندما تَتُّم ترقيتُه خَوفًا من أن يَفقِدَ ثِقة مَرؤسيهِ ورؤسائِه.

المادَّةُ الأخلاقيَّةُ الإلزاميَّةُ التي يَتِمُّ تدريسُها لِلأطفالِ في المدارِسِ والتي تَرتكِزُ على تَعليمِهم أدَقَّ التَّفاصيلِ من طريقَةِ المَشي ومُستوى الصَّوتِ ودَرَجةِ الإنحِناءِ عندَ التَّحيَّةِ وِفقًا لِلمَكانَةِ الاجتِماعِيَّةِ لِلشَّخصِ الآخر. وُصولاً إلى الكَلماتِ التي يَجبُ انتقاؤُها عندَ مُخاطبَةِ الآخرينَ كُلاً حَسَبَ عُمرِه. لطالَما كانَت اليابانُ سبَّاقةً إلى إدراجِ الأخلاقِ ضِمنَ المناهِج الدِّراسيَّة، والغريبُ في هذا أَن تَقومَ دولَةٌ بِلا أيِّ دينٍ على مَنظومَةٍ من الأخلاقِ الفاضِلة! هذا بِالضَّرورَةِ يعني أنَّ الأخلاقَ شيءٌ والدِّينُ شيءٌ آخر، ولا أعني بِقَولي أنَّ الدِّينَ سيِّء، ولكنَّنا نَتعاملُ مع الدِّينِ بِطريقَةٍ لا يُمكِنُ بِأيِّ حالٍ منَ الأحوالِ أن تَنتَمي للدِّينِ نَفسِه!

نَجوى أبو زَهرَة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *