المرآه السوداء

المرآه السوداء

ماذا لو سلبت حياتنا، تجردت إنسانيتنا، خسرنا مبادئنا، بوسيلة نستخدمها يومياً. انقلبت ضدنا واستخدمتنا لنصبح عبيد لها؟ يأتي مسلسل “المرآة السوداء” أو “بلاك ميرور” بحلقاته التي تظهر لنا فعلياً الانعكاس الأسود للتكنولوجيا، وتأثيرها على تفاصيل حياتنا وكيف يمكننا من خلالها أن نرى واقعنا بطريقة غير مباشرة، إذ يطرح من خلاله مساوئ التكنولوجيا من جوانب متعددة اجتماعية، سياسية واقتصادية، وغيرها. يقول تشارلي بروكر (مؤلف مسلسل بلاك ميرور): «إذا كانت التكنولوجيا كالمخدرات، ولها تأثير المخدرات بالفعل، فما أعراضها الجانبية؟ هذه هي المنطقة التي يكتشفها المسلسل، والمرآة السوداء في العنوان هي المرآة التي تراها على كل جدار ومكتب وفي كل يد، شاشة تلفزيون أو كمبيوتر أو هاتف ذكي باردة لامعة».

تخيل معي أن بمجرد موت صديق\ة أو حبيب\ة أو زوج\ة، يمكنك استبدالها بدمية طبق الأصل، بمحاكاة الشخص بصوته وتصرفاته وما يحب وما يكره وكل مشاعره، أو أن تستطيع مشاهدة ذكريات شخص ما من خلال ”كرت ميموري” موضوع في ذاكرته وتكتشف من خلاله خيانة زوجتك لك في الماضي، أو تصبح شخصية مشهورة دون موافقتك، لعرض يراه الملايين يراقب تحركاتك ويصنع واقعك وجميع تفاصيل حياتك! كيف يمكن للتكنولوجيا أن تقلب الأمور رأساً على عقب فقط لمجرد تقييم يلازمك في كل الأوقات!

في حلقة”nosedive“ في الموسم الثالث من بلاك ميرور، يكون فيها مصيرك مرتبطاً بتطبيق على جهازك النقال، يقيّم كل ما تقوم به، فتضطر لأن تكون الإنسان المثالي الذي تطرحه دائماً على مواقع التواصل الاجتماعي في الحياة الواقعية، تجهد نفسك لتكون لطيف، مُحب ومثالي، لتحصد أعلى إعجابات، وتصنع مركزك من خلالها. تُظهر لنا هذه الحلقة الواقع الافتراضي كواقع نعيشه ونتبادله، وعليه يتاح للجميع تقييم أدائك، ومعاملتك بناءاً عليه. تسرد الحلقة واقع غير ملموس! لا نراه لكن نشعر به. أوفر لك خدمات أكثر لأنني أعجبت في لون عينيك! أو أوفر لك رتبة مرموقة في العمل لكثرة الإعجابات في صفحتك الشخصية على الفيسبوك، أو حتى نستضيك لمقابلات تلفزيونية ماذا لو تحوّل الأمر فعلاً إلى تطبيق يبين مدى تقييم الناس لي، ويكون خيار متاح للجميع، أعجبت بابتسامتي تقيمني بخمسة نجوم، أزعجتك بنبرة صوتي تقيمني نجمتين وهكذا. تُحدد خياراتك والخدمات التي تحتاجها بتقيميك من الناس، حيث تحتاج فعلاً إلى تقييم مرتفع، حتى تشتري السيارة التي تحبها، أو بحسب تقيميك يوفر لك مقعد في الطيارة، أو حتى في باص المواصلات، والتحكم يصل إلى وجبة طعامك وغيرها من التفاصيل.

لتحصد تقييمات مرتفعة تحتاج لأن تكون مقبول في الوسط الاجتماعي، والتظاهر حتى لا تزعج هذا ولا تزعج ذاك، ومجرد ما بدأت بالتظاهر فأنت تفقد مصداقيتك، فتضطر بتملق ابتسامتك وأنت غير مضطر للابتسام، حتى لا تحصل على تقييم منخفض، فتبذل جهداً لتحافظ عليه لتوفر لنفسك الراحة في كل الأوقات. وعليه إننا لا نعيش بما نريد، بل نعيش لما يريد الآخر. إنه صراع التقمص لما يحتاج وما يرده مجتمعنا في هذا اللحظة، فاليوم مطلوب أن تكون شخص غامض، وغداً شخص مكتئب وبعد غد شخص كول!. يصبح ما يشغل بالنا على الدوام، هو كيف أرضي العالم من حولي، وكيف أجعل من نفسي صورة جميلة على الدوام. تجعل المجتمع يملي عليك ما تفعل، ويحاول أن يصنع عالمك الخاص، بغض النظر على ما سيتيح لك الراحة وما يحافظ على صحتك النفسية، والعقلية. إضافة إلى انعكاسها على تشكيل مشاعرنا، وجرّنا للبرود وفقدان الألفة والأمان، كيف يمكن لمجتمعات المستقبل أن تجبرك أن تكون سعيداً على الدوام؟ تحزن وتفرح وتكتئب لفرض هذه المشاعر عليك ليس إلا، لينتهي بك المطاف إلى آلة يتحكم العالم بضبط إعداداتها كما تهوى وتريد.

في الحقيقة، ما زلنا نقطن في أمان من اللحظة التي تحقق فيها إحدى حلقات “بلاك ميرور”، مع أنني ميقنة تماماً أن مشاكلنا الإنسانية تم تجريدها وتحويلها إلى حلقات لشاشة سوداء، تستفزنا لنفكر بواقعنا وروتين حياتنا، وكيف لنا نصنع قيمة لأصحاب الإعجابات أو المتابعين الكثر والعكس صحيح، ولا يعني ذلك في الواقع بالضرورة. فنكون صورة نمطية تحثنا بشكل غير مباشر لتوقع مستوى أخلاقي معين منهم. إضافة إلى اعتقادي أننا لنا عامل كبير في صناعة هذا العالم الاستعراضي، بمشاركتنا بتوجيه الجيل الجديد إلى هذا العالم الذي يفقد فيه معاني الإنسانية وقائم على التنمر والإهانات التي لا تنتهي، نستخدهم في كثير من الأوقات ليكونوا وسيلة لكسب المال من خلالهم، فيبدأون بصناعة طفل متملق يتابع رأي المعجبين به فيبدأ بزراعة رأسه بشاشة هاتفه لعشرات الساعات، لتحيقق أعلى مشاهدات ليصبح عبد من صغره لأرقام من الممكن أن تكون وهمية في صناعة سعادته.

تغريدة من فريق العمل في مسلسل “المرآة السوداء”: “هذا المسلسل ليس بدعاية، ولا مجرد حلقات، بل هو الحقيقة”. ما يرعبني حقاً أنه حقيقة، نرى مستقبلنا بهذه القسوة وهذا الاستعباد، ونستمر في توجيه جميع حواسنا ومحيطنا إلى النقطة ذاتها، إلى تحويل كل ما نملك إلى برمجيات. إلى صناعة إنسان يشبهنا ويكاد أن ينافسنا، نفرغ كل العقل البشري في تطوير الأجهزة لنصل إلى قمة بؤسنا! إلى أي حدّ بلاك ميرور يعكس واقعنا، وإلى أي مدى يمكننا ضبط التكنولوجيا لنحافظ على القليل من إنسانيتنا؟

اليوم يرى آباءنا أننا في عالم مخيف، يفقد فيه التواصل البشري، بتحول كل ما حولنا إلى كبسة زر، رغم الإيجابيات التي ممكن تتسهل لنا من خلالها، إلا أنه لا يكمنني تخيل المستقبل القريب والبعيد حتى كيف يمكن أن يكون، وإلى أين سيصل بنا هذا العالم. قضيت ٣ سنوات في موقع التواصل الاجتماعي “التويتر”، أدى إلى انفصالي عن الواقع المادي وبناء واقع آخر لي مليء بالأصدقاء الرقميين، قللت من التفاعل الخارجي وبدأت أرى عالمي المزيف وبناء شخصيتي عليه حتى شعرت بأنني فقدت معاني الأشياء ببساطتها، وأصبحت أكثر عصبية ورفض للواقع، أقارن على دوام ما أملك وما يملكه رواد المواقع المثالية، وبدأت بالتظاهر وخلق هوية لا تشبهني وربما تجهدني، حتى انتهى بي المطاف بحذفه نهائياً، لما له من تأثيرات نفسية، حيث يتجمع به عدد لا بأس به من المتنمرين، والمتظاهرين والكثير من المزيفيين حرفياً، لمجرد ما شاركت برأيك على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي، وكان مخالفاً لأحدهم، سيجعلك أضحوكة وقصة لا تنتهي.

لا أنكر بفقداني لأهم فترة بحياتي وراء شاشة خطفتني من العالم الحقيقي، وجعلت مني آلة، وجهتني لما أحب وما أكره، لكن هذه الفترة ستبقى جزءاً ساعدني للوصول إلى معرفة معاني الحياة من حولي، وبناء نفسي دون أخذ توجيهات تحاصرني وتجعل مني إنساناً متملقاً يرضي المجتمع دون نفسي. في النهاية؛ جميع من حولنا يقصينا لتصنيف بعضنا البعض، وهو الذي يحرمنا من فرصة معرفة حقيقتنا للآخر، سواء في الواقع أو في العالم الافتراضي، فيعزز خوفنا ويجعلنا نتطرق لوسائل تخفي نقصنا الناتج من المجتمع من حولنا. وبالتالي يستمر العالم بتصنيع آليات مبنية على المشاكل الإنسانية بطرق مجردة غير إنسانية.

سارة شماس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *