اللَّامفهومُ عَنِ الصُّمودِ المُجتَمَعِيّ

اللَّامفهومُ عَنِ الصُّمودِ المُجتَمَعِيّ

أَشعرُ في هذهِ اللَّحظةِ بِأنَّ الأفكارَ تَدورُ كَدوَّاماتٍ لا نِهاية لها، أُحاولُ أَن أُخفِّفَ ذلكَ الضَّغط، بِالحديثِ أو الكِتابة، ولكنَّ الكلماتِ لا تَخرُج، وإِن خَرجتْ لا تكون مَفهومة. الكثيرُ مِنَ التَّعقيدِ يَملأُها، حتى أَكادُ لا أَستطيعُ تَمييزَ إِحداها عَن الآخر، ولا يَستَطيعُ عَقلِي استيعابَها، من شِدَّةِ تَرابُطِها وتَداخُلِها العَجيب! أُفَكِّرُ في المَفهومِ الذي طُلِبَ مِنِّي الكِتابَةَ عَنه، نَعم، فَلَو كانَ بِإِرادَتي لَما كَتبْتُ عَن مَفْهومٍٍ غَيرِ مَوجودٍ بِالنِّسبةِ لي على أَقلِّ تَقدير؛ الطَّمعُ والأنانِيَّةُ اللَّتانِ نَملِكهُما نَحنُ بنو البشر، لَن تَصِلَ إلى ما يُسمَّى بِالصُّمودِ المُجتَمعِيّ. حَسناً أظنُّ أَنَّني تَمادَيتُ هُنا بِالتَّعبيرِ وأَصدَرْتُ أَحكاماً مُطلَقة، ولكنْ لنَمشي سَوِيّاً لِنرى أَينَ سَيقودُنا هذا التَّدفُّقُ العجيبُ مِنَ الكَلمات.

دعوني أُبَسِّط لَكُم المَفهومَ حَتَّى نَقِفَ على ذاتِ الصَّفحَة، يَقولونَ عِندَ تَحَدُّثكَ عَنِ الصُّمودِ المُجتَمَعِيّ، بِأَنَّ عَليكَ قَتلُ “الأنا” المُتَأصِّلة في أَعْماقِك، واستِبدالِها بِـ”نحن”. نَحنُ تَعني كُلَّ فِئاتِ المُجْتَمعِ كبيرِها وصغيرِها، المُتعَلِّمِ مِنها والأُمِّي، مَنْ لَهُ هَويَّةٌ ومَنْ لَم يُحالِفْهُ الحَظُّ في الحُصولِ على واحِدة، مَنْ لَهُ دينٌ مع من لا يُؤمِنُ بِوجودِ خالِقٍ لِلكَون، جَميعُهم -وأَقصدُ جَميعَ الفِئاتِ السَّابِقَةِ والفِئاتِ التي لا يَتَّسعُ المقالُ لِذكرِها- عَليهِم جميعاً التَّفكيرُ بِنهضَةِ بَعضِهِمْ البَعض، لَيسَ على حِسابِ أيِّ أحَدٍ آخر، بَل ودونَ التَّفكيرِ في تَفضيلِ فِئَةٍٍ على آُخرى، والذي يَزيدُ مِنَ الأَمْرِ تَعيقدًا في هذا المَفهوم، بِأَنَّ الجَميعَ يَجِبُ أَن يُلغي فِكرةَ تَطويرِ نَفسِهِ لِوَحْدِه، فَعَلَيهِ هُنا أَن يُفَكِّرَ بِالمصلَحةِ العامَّةِ أَوَّلاً، وكَيفَ مِنَ المُمكِنِ أَنْ يُطَوِّرَ مِن نَفْسِهِ مَعَ كُلِّ الفِئاتِ المُخْتَلِفة.

هُوَ كما تَرَون، لَيسَ شَيئاً بِالسَّهلِ تَحقيقُه، الإِنسانُ ومُنذُ الخَلقِ الأَوَّل، لَم يُفَكِّر إِلَّا في مَصلَحَتِهِ وفَضْلِها على المَصلَحَةِ العامَّ. إِن أَرَدْنا أَنْ نَذكُرَ مثالَ أبناءِ أَبانا آدم -عَليهِ السَّلام-، قابيل وهابيل، حَيثُ قَتلَ أَحدُهُما الآخر، لِفِكرةِ تَقَبُّلِ عَملِ أَحَدِهِما، ولَم يَتَقبَّل مِنَ الآخر، فَطوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ الأمَّارةُ بِالسُّوءِ قَتْلَ أَخيه، فَقَتَلَه، ولكِنَّهُ أَصبحَ مِنَ النَّادمين، والذي وَصَفهُ الله تعالى في كتابِهِ العزيز: “فكأنما قَتَلَ النَّاسَ جميعاً”، فالعَمَلُ الذي يَبدو لَكَ في لَحظَةِ غَضَبٍ أو عَدَمِ تَركيزٍ شَيئاً عاديّاً وبِإمكانِكَ القيامُ بِه بِكلِّ سهولَةٍ مِنَ المُمكِنِ أَن تَكونَ لَهُ عواقِبٌ وَخيمَة، لم تَكُن تَتَصوَّر حُدوثَها، ولم تَرَها إِلا عِنْدَما حَدَثَتْ وفاجَأَتْك! وبِأَنَّ العَديدَ مِنَ التَّجاوُزاتِ التي تَقومُ بِارتِكابِها في حُقوقِ البَشر، أَصبَحَتْ شَيئاً روتينياً، وأَصَبحَتْ العَودَة إِلى الطَّريقِ الصَّحيح، واتِّخاذِ القَراراتِ التي لا تُؤذي أَحداً، طريقاً صعباً وشاقّاً بَلْ وبَعيداً عَنِ المُتناوَلِ والمُتاح، فَأَصبَحْنا بِذلِكَ نَقْتُلُ مَشاعِرَ التَّضامُنِ والتَّآلُفِ ونُنَمِّي ما يُعرَفُ بِالأنا! وأَصبَحَتْ أَولَويَّاتُنا شيئاً مُقدَّساً، لا يَستَطيعُ أَحَدٌ المَساسَ بِه، وإِنْ كانَ بِهِ ضَرَرٌ لِلآخَرِ القَريبِ والبَعيد جُغرافِيّاً.

فَما هي حَقيقَتُنا؟ هَل جُبِلنا عَلى المَحبَّة؟ أَم جُبِلنا عَلى الانْتِقامِ والشَّر؟ هَل بِاستطاعَتِنا قَتلَ “الأنا” لِيَسودَ بِذلِكَ مَفهومُ “الصُّمودِ المُجتَمَعِيّ”، أَمْ أَنَّنا لَدينا العَديدَ والكثيَر مِنْ أَوجُهِ التَّفرِقَةِ والكَراهِيَّةِ تَطغى عَلى هذا المَفهومِ وتَكادُ تَجعَلُهُ بِلا مَعنى ولا قيمة؟ يَقولونَ أَيضاً بِأَنَّ أَحدَ الأمورِ التي تُعَزِّزُ بِناءَ هذا المَفهوم. وجودُنا في مساحاتٍ آمِنةٍ لِلحوارِ ونَقْلِ المَعرِفَةِ والأفكارِ لِطَبَقاتٍ مُختَلِفةٍ في طَريقَةِ التَّفكيرِ والمُعتَقَدِ والتَّعبير… إِن أَمْعَنَّا النَّظرَ فَهُناكَ الكَثيرُ مِنَ المَساحات، بِالتَّأكيدِ إِنَّها موجودَةٌ ولكِنَّها تَخلو مِنْ مَفهومِ الأَمن، فَحتَّى وجودُكَ في هذهِ المساحات، لا يَسمَحُ لَكَ بِالتَّعبيرِ الحَقيقِيِّ والمُجرَّدِ لِذاتِك، لِأَنَّكَ سَتنصَدِمُ بِحَجمِ المُعارَضَةِ التي سَوفَ تَتَعرَّضُ لَها، عِندَ إِبداءِ رأيٍ لا يُوافِقُ الأَغلَبِيَّةَ التي تَكتَسِحُ المَكان، فَما العَمَلُ هُنا؟ إِن كانَتْ هُنالِكَ ملايينُ المواضيعِ والمشاكِلِ التي لا تَبْدَأُ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهي!

أَذْكُرُ بِأَنَّنا وفي وَقْتٍ مِنَ الزَّمنِ الماضي غَيرِ البَعيد، كُنَّا نُحاوِلُ مُتابَعَةَ “الأَلعاب” السِّياسِيَّةِ التي تُعرَضُ على شاشَةِ التِّلفاز، وقَد كانَ المَصدَرُ الأَساسِيُّ ولَيسَ الوَحيدُ لِعَرضِ مِثلِ هذهِ الطُّروحات. نَرى شَخصَينِ سياسِيَّين كُلٌّ مِنهُما يُمَثِّلُ مَجموعَةً مِنَ الأشْخاصِ في العالم، لَديهِم توجُّهاتُهم وأهدافُهُم القريبة والبَعيدة، وهُما شَخصَينِ فَقَط لا أَكثَر، يَبدآنِ بِالتَّحَدُّثِ عَن ما يَجولُ في نَفْسِهِما ويُحاوِلانِ الدِّفاعَ عَنِ القضايا التي تَهُمُّهُما. وفي خِضَمِّ هذا الجَدَلِ العَقيم، نَرى أَيضاً أَشكالاً مِنَ العُنفِ عَلى الهواءِ مُباشرةً، عُنفٌ لَفظِيٌّ وآخرٌ يَكادُ يَصِلُ لِلأذى الجَسَدِيِّ إِنْ تُرِكََ لَهُ المَجالُ قليلاً. بَعْدَ هذهِ المَشاهِدِ التي اعتادَ العالَمُ عَليها، بَلْ وأَصبَحوا يَتَوقَّعونَ حُدوثَها، ومِنَ المُمكِنِ أَنْ يَضعُوا رِهاناً لاحْتِمالِيَّةِ حُصولِها، وحتَّى أَنَّهُم يُقَهقِهون! عِنْدَ تَحَقُّقِها كَأَنَّهُم يُشاهِدونَ صِراعاً بَينَ حَيوانَينِ برِّيَّين!

لكِنَّنا نَتَعلَّمُ عن طَريقِ التَّجرُبة، وجَميعاً نَجمَعُ بِأَنَّ مِثلَ تِلكَ النِّقاشاتِ لَم تَعُد عَلينا بِتِلْكَ الفائِدة. اكْتَشَفنا أَساليبًا وطُرقًا جديدَةً لآدابِ الحِوارِ والمُناقَشة، وتَعَلَّمنا مَتى يَجِبُ عَلينا التَّوقُّف، قَبلَ أَنْ يَصلَ بِنا الموضوعُ إِلى العُنفِ وهُوَ الذي لا يُحمَدُ عُقباه. هُنا بَدَأتْ تَظهَرُ هذهِ المُصطَلحاتُ وتُدَرَّس، وتَحمِلُها مؤسٍّساتُ المُجتَمعِ المَدَنِيّ، والمُنظَّماتُ العالَمِيَّة، لِزَرعِها في رُؤوسِ الشَّبابِ مِنَّا وأَصحابِ القَرار، عَلى أَمَلِ أَنْ تَصِلَ بِنا إِلى ما يُسَمَّى بِبَرِّ الأمان، والذي مِن حَيثُ أَقِفُ يبدو بعيداً، ولكِنَّهُ لَيسَ مُستحيلاً. كَما كانَتْ تِلكَ المَساحاتُ غَيرَ آمِنَةٍ كَما عَبَّرتُ عَنها في السَّابِق، لَدينا اليَومَ القِليلُ مِنَ المساحاتِ الآمِنة، التي لا نُناقِشُ بِها كُلَّ القَضايا، ولكِنَّنا نُناقِشُ بَعضَها، والذي يَبدو جَيِّداً في هَذِهِ المَرحَلَةِ ومِنَ المُمكِنِ أَنْ يَتَطَوَّرَ مَعَ الوَقْت، ويُصبِحَ شَيئاً يَقودُنا إِلى مَكانٍ مُختَلِفٍ عَمَّا نَراهُ اليَوم، مكانٍ نَستَطيعُ أَنْ نَعرِفَ بِهِ مَعنى لِلرَّاحَةِ والطُّمأنينة.

إِنَّ الأفعالَ الضَّئيلَةَ في الاتِّجاهِ الصَّحيح، مِنَ المُمكِنِ أَنْ تُحدِثَ فَرْقاً. لا أُريدُ إِنهاءَ هذا المقال بِكُلِّ هذهِ الكَمِّيَّةِ من السَّوداوِيَّة، لِأَنَّهُ مَهما كان َالوَضعُ خَطيراً وصَعْباً لا بُدَّ مِن وُجودِ بَصيصِ أَمَل. مَعْرِفَةِ الواقِعِ لَيسَ بِالشَّيءِ الضَّارِّ في الوَقْتِ ذاتِه، لِأَنَّ مَعرِفَةَ الأَسْبابِ هِيَ نِصفُ الحَلّ، فَإِنْ وَجَدْنا هَذِهِ الأَسباب وبَدأنا في حَلِّها كَجَسدٍ واحد، بِالتَّأكيدِ سَوفَ تَجدُ لها طَريقاً وَسْطَ الظَّلامِ وتَعبُرَ إِلى النُّور. عِندَ الحَديثِ عَنِ الجَسَدِ الواحِد، أَذْكُرُ حَديثَ رَسولِ الله – عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- :”مَثَلُ المُؤمِنينَ في تَوادّهِم وتراحُمِهِم وتَعاطُفِهِم مِثلَ الجَسَدِ إِذا اشتَكى مِنهُ عُضوٌ تَداعى لَهُ سائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى”. أَظُنُّ هُنا أَنَّ مُصطَلَحَ الصُّمودِ المُجتَمَعِيِّ لَيسَ بِتِلْكَ الحَداثَةِ التي كُنتُ أَظُنُّها، بَل هُوَ شيءٌ مُوجودٌ ولكن لا تُوجَدُ أَعمالٌ بِثَباتٍ واستِمرارِيَّةٍ لِضمانِ تَحقيقِه.

أَعتَقِدُ إنَّنا في الطَّريق، إِلى أَيْن؟ حَقّاً لا أَدري، ولكِنَّنا في الطَّريقِ إِلى شيءٍ قادِمٍ لا مَحالَة، فَما تُقَدِّمُهُ أَيدينا اليَوم، مَهما كانَ صَغيراً، تافهاً، سَيَعودُ عَلينا بِالعواقِب، التي مِنَ المُمكِنِ أَن نَكونَ لا نَنتَظِرُها، فَما الذي عَلَينا فِعْلُه؟ أَيضاً لا أَعْلَم، سَأَدَعُكُم أَنْتُم مَن تُقرِّون، فَأَنتُم المَسؤولونَ عَنْ شَكلِ هذا المُستَقْبَلِ القادِمِ لَكُم ولِأبْنائِكُم، فَما نَزْرَعُ اليَومَ هو ذاتُه الذي سَنَحْصُدُه غداً.

إِسراءْ مَنصورْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *