إِرادَةٌ وَصُمودْ

إِرادَةٌ وَصُمودْ

جَعَلَتْ الطَّبيعَةُ الإِنْسانَ قادِرًا عَلى التَّحَمُّل، فَهُناكَ الكَثيرُ مِنَ الأَشْياءِ المُهِمَّةِ في هذا العالَمِ تَتَحَقَّقُ لِأُولئِكَ الذينَ أَصَرُّوا عَلى المُحاوَلَةِ عَلى الرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ وُجودِ الأَمَل. جَميعُنا مَرَرْنا بِأَوْقاتٍ عَصيبَةٍ فَقَدْنا فيها الأَمَلَ وأَحْبَبْنا العُزْلة، انفَرَدْنا بِأَنْفُسِنا حَيْثُ إِنْ تَواجَدَ آخَرونَ حَولَنا لا نَسْمَعُ سِوى أَفْكارَنا التي تَعودُ بِنا خَطَواتٍ إِلى الوَراءِ وتَفْصِلُنا عَنْ التَّقَدُّم. البَعْضُ مِنَّا تُؤَدِّي بِهِ العُزْلَةُ إِلى حالَةِ اكْتِئاب، مَنْ قالَ أَنَّ الاكْتِئابَ مَرْحَلَةٌ يُسْتَخَفُّ بِها؟ غَالِبِيَّةُ العامِلينَ في مَجالِ الصِّحَّةِ يَتعامَلونَ مَعَ الاكْتِئابِ كَمَرَضٍ مُزْمِنٍ يَتَطَلَّبُ عِلاجاً طَويلَ المَدى، بِالضَّبْطِ كَمَرَضِ السُّكَّري أَو مَرَضِ فَرْطِ ضَغْطِ الدَّم. هُوَ مَرَضٌ يُصيبُ النَّفْسَ والجِسْمَ ويُؤَثِّرُ عَلى طَريقَةِ التَّفْكيرِ والتَّصَرُف، ومِنْ شَأنِهِ أَنْ يُؤَدِّي إِلى العَديدِ مِنَ المَشاكِلِ العاطِفِيَّةِ والجِسْمانِيَّة. بَعْضُ المُصابينَ بِمَرَضِ الاكْتِئابِ يَتَعَرَّضونَ لِفَتْرَةٍ واحِدَةٍ مِنَ الاكْتِئابِ فَقَط، لكِنْ لَدى غالِبِيَّةِ المَرْضى تَتَكَرَّرُ أَعْراضُ الاكْتِئابِ وتَسْتَمِرُّ مَدى الحَياة.

واحِدَةٌ مِنْ أَكْبَرِ مَهالِكِ الاكْتِئابِ أَنْ تَتْرُكَهُ يَتَسَرَّبُ إِلى حَياتِكَ وتَكونَ مُضْطرًّا لِمُحارَبَتِهِ وَحْدَكَ دونَ أَنْ تُخْبِرَ المُحيطينَ بِكَ أَنَّكَ تُعاني. الآخَرونَ عادَةً يَفْتَرِضونَ أَنَّ الاكْتِئابَ نَوعٌ مِنَ الكَسَلِ أَو الضِّيقِ أَو الحُزْنِ غَيْرِالمُبَرَّر، رُبَّما تَكونُ مَساوِئُهُ وأَخْطارُهُ أَسْوأَ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ عُضْويٍّ آخَر. هُناكَ أَشْخاصٌ عانُوا مِنَ الاكْتِئابِ ونَجَحوا بِالشِّفاءِ مِنْه، أَبْرَزُهُم: نيكي ويبر آلين، حَيْثُ كَانَتْ تُعاني مِنَ الاكتِئابِ لِفَتْرَةٍ طَويلَةٍ مِنْ حياتِها دُونَ أَنْ تُخْبِرَ أَحَدا، لِتَكْتَشِفَ في النِّهايَةِ أَنَّ العَديدَ مِنْ أَفْرادِ أُسْرَتِها أَيْضاً عانُوا مِنْ اكْتِئابٍ وَصَلَ إِلى حَدِّ الانْتِحار، السَّبَبُ هُوَ الخَجَلُ الشَّديدُ في إِخبارِ المُحيطينَ بِها، واعتِبارُ الاكْتِئابِ عَلامَةَ تَفاهَةٍ أَو مُجَرَّدَ ضيقٍ عابِرٍ أَوْ شُعورٍ كاسِحٍ بِالعار. لكِنَّ نيكي تَغَلَّبَتْ على خَجَلِها وتَمَكَّنَتْ مِنَ الوُقوفِ أَمامَ جُمْهورٍ لِتُخْبِرهُم عَنْ قِصَّتِها، بِدءًا مِنْ مَرْحَلَةِ تَشْخيصِها بِالمَرَضِ وَمُرورا بِنَظْرَةِ المُجْتَمَعِ وقُدْرَتِها على طَلَبِ المُساعَدَةِ إِلى مَرْحَلَةِ تَغَلُّبِها عَلى الَمَرض. عِنْدَما أُصيبَ أَحْمَد أَبو الحَظ بالاكْتِئاب، بَدَأَ رِحْلَةً مِنَ المُعاناةِ يَمُرُّّ بِها أَيُّ شَخْصٍ آَخَر، والتي تَتَلَخَّّصُ في حالَةٍ دائِمَةٍ مِنَ السَّحْبِ إِلى الأَسْفَل. ولكِنْ بِمُرورِ الوَقْت، أَدْرَكَ أَنَّهُ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَوِّلَ هذا الاكْتِئابَ إِلى طاقَةٍ إِيجابِيَّةٍ لا تُفيدُهُ فَقَطْ عَلى المُسْتَوى النَّفْسِيِّ وإِنَّما عَلى المُسْتَوى الرِّيادِيِّ والوَظيفِيِّ أَيْضًا.

تَخَرَّجَ في كُلِّيَّةِ الهَنْدَسَة، وفي فبراير/شباط 2014 قادَتْهُ مَوجَةُ الاكْتِئابِ التي مَرَّ بِها إِلى تَأسيسِ مَشْروعِ “شيزلونغ” (Shezlong) كَمَنَصَّةٍ رَقْمِيَّةٍ لِلعِلاجِ النَّفْسِيِّ تُتيحُ لِلمُستَخْدمينَ الُحصولَ عَلى جَلْساتٍ نَفْسِيَّةٍ عِلاجِيَّةٍ عَبْرَ الانْتَرنِت بِهَويَّاتٍ مَجْهولَةٍ وشَديدَةِ السِّرِّيَّة، وتَقْديمِ كافَّةِ المُساعَداتِ النَّفْسِيَّةِ والعِلاجِيَّةِ لِمُخْتَلِفِ الأَمْراض، يُشْرِفُ عَلَيها أَطِبَّاءٌ مُتَخَصِّصون. في هذِهِ المُحاضَرَةِ يَسْرُدُ أَحْمَد أَبو الحَظ قِصَّتَهُ مَعَ الاكْتِئابِ وكَيْفَ جَعَلَهُ صَديقًا أَوْصَلَهُ إِلى تَأْسيسِ مَشْروعِه الرِّيادِيِّ النِّاجِحِ الذي حازَ عَلى جَولاتٍ تَمويلِيَّةٍ لاحِقًا، واعْتُبِرَ مِنَ المَشروعاتِ الرِّيَادِيَّـِة العَرَبِيَّةِ الواعِدَةِ في القِطاعِ الطِّبِّي. رَغْمَ قَساوَةِ الحَياة، عَلَينا السَّيْرُ قُدُمًا مَهْما تَعَثَّرْنا وواجَهْنا مَواقِفَ ضاغِطة، الأَهَمُّ هُوَ التَّعَلُّمُ والعَمَلُ عَلى نَشْرِ الوَعْيِ لِغَيْرِنا مِنَ الأَشخاص. لِنَتَغَلَّبَ عَلى مَخاوِفِنا نَْحتاجُ إِرادَةً قَوِيَّةً حَتَّى نَسْتَطيعَ الصُّمودَ بِوَجْهِ كُلِّ مَوقِفٍ يُواجِهُنا. ما هِيَ الإِرادة؟ وكَيْفَ نَعْمَلُ على تَقْوِيَتِها بِداخِلِنا؟

تُعَبِّرُ الإِرادَةُ عَنْ قُدْرَةِ الشَّخْصِ عَلى السَّيْطَرَةِ عَلى تَصَرُّفاتِهِ وانْدِفاعاتِه، حَيْثُ تُمَكِّنُ الشَّخْصَ مِنَ التَّحَكُّمِ في سُلوكِهِ وعَواطِفِهِ واهْتِماماتِه، وتُعْرَفُ أَيْضًا بِالصُّمودْ. بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الإِرادَةَ مَوجُودَةٌ عِنْدَ الجَميع، لكِنَّها تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَر، قَدْ نَجِدُ شَخْصَا يَتَمَتَّعُ بِإِرادَةٍ قَوِيَّةٍ وصُمودٍ قَوِيّ، ولكِنْ في بَعْضِ المَواقِفِ قَدْ نَراها ضَعيفَةً وقَوِيَّةً في مَواقِفٍ أُخرى. تُعْتَبَرُ الإِرادَةُ عَمَلِيَّةً ذاتِيَّةً اخْتِيارِيَّة، وبِيَدِ الشَّخْصِ أَنْ يَقومَ بِتَقْوِيَتِها أَوْ بِإِضْعافِها. كَيْفَ نَعْمَلُ عَلى تَقْوِيَةِ الإِرادَة؟ يَتِمُّ ذلِكَ مِنْ خِلال:

  • التَّدْريبِ عَلى قُوَّةِ الإِرادَة: مِنْ خِلالِ مَعْرِفَةِ المَواقِفِ التي تَكونُ بِها قَوِيَّ الإِرادَة.
  • تَصْنيفِ المَواقِفِ والتَّصَرُّفاتِ التي يَكونُ الشَّخْصُ بِها قَويَّ الإِرادَة، ومَتى يَضْعُفُ في غَيْرِها مِنْ خِلالِ تَحْديدِ الظُّروفِ المُحيطَةِ بِهِ والابْتِعادِ عَنْ كُلِّ ما يُؤَدِّي إِلى إِضْعافِ إِرادَتِه.
  • وَضْعِ مَجْموعَةٍ مِنَ الأَهْدافِ طَويلَةِ و قَصيرَةِ المَدى، ويَجِبُ أَنْ يَكونَ الهَدَفُ واضِحًا ويُمْكِنُ تَحْقيقُه.
  • إِعطاءِ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ مُكافآتٍ تُشَجِّعُهُ عَلى التَّقَدُّم.

عِنْدَما نَتَغَلَّبُ عَلى الاكْتِئابِ بِالإِرادَةِ والصُّمودِ النَّفْسِيّ، نَتَمَكَّنُ مِنَ الوُصولِ لِحالَةٍ تُعْرَفُ بِمَرْحَلَةِ التَّصالُحِ مَعَ الذَّات. التَّصالُحُ مَعَ النَّفْسِ أَوَّلُ طُرُقِ تَحْقيقِ السَّلامِ الدَّاخِلي. التَّصالُحُ مَعَ الذَّاتِ يَعني القُدْرَةُ عَلى تَقَبُّلِ الأَخْطاء، والاعْتِرافُ بِها بِشَكْلٍ طَبيعِيٍّ وإِيجابِيّ، دونَ أَيِّ داعٍ لِلتَّوَتُّرِ أَو القَلَقِ أَو الخَجَلِ مِنْها، ومُواراتِها تَحْتَ أَقْنِعَةِ الكِبْرِياءِ ومَا إِلى ذَلِك. إَنَّ الذينَ يَتَمَتَّعُونَ بِالمُصالَحَةِ مَعَ الذَّاتِ هُم مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ قُدْرَةً عَلى تَقَبُّلِ نُقاطِ الضَّعْفِ في الآخَرين، ونَواقِصِهِم، بَلْ ومُساعَدَتِهِم في تَخَطِّي مَا يُواجِهونَهُ مِنْ أَزماتٍ بِصورَةٍ إِيجابِيَّةٍ وقَوَيِّة.

السَّلامُ الدَّاخِلِيُّ هُوَ حالَةُ السَّلامِ التي يَحْياهَا الإِنْسانُ مَعَ تَكْوينِهِ العَقْلِيِّ والرُّوحِيِّ مَعَ مَا يَكْفي مِنْ مَعْرِفَتِهِ وفَهْمِهِ لِلْحِفاظِ عَلى قُوَّةِ النَّفْسِ في مُواجَهَةِ أَيِّ تَوَتُّر. وبِناءاً عَلَيهِ فَمَنْ لَدَيهِ إِحْساسٌ بِالسَّلامِ الدَّاخِلِيِّ هُوَ إِنْسانٌ يَشْعُرُ بِـ”راحَةِ البَال“، فَلا يَشْعُرُ بِالقَلَقِ حِيالَ عَظيِم الأُمور. تنازين غياتسو الدالي لاما الرابع عشر يَقُولُ “بِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقيقُ السَّلامِ لِلعالَمِ مِنْ خِلالِ السَّلامِ الدَّاخِلِي، حَيْثُ تَتَّضِحُ أَهَمِّيَّةُ المَسؤُولِيَّةِ الفَرْدِيَّة؛ يَجِبُ أَوَّلاً أَنْ نَتَوَصَّلَ لِلسَّلامِ داخِلَ أَنْفُسِنا، ثُمَّ يَتَوسَّعُ تَدْريجِيّاً لِيَشْمَلَ عائِلاتِنا، مُجْتَمعاتِنا، وفي نِهايَةِ المَطافِ الكَوكَبَ بِأكْمَلِه”. مِنْ أَهَمِّ النَّصائِحِ لِتَحْقيقِ الصُّمودِ والسَّلامِ الدَّاخِلِي:

  • مُمارَسَةُ العِباداتِ الرُّوحانِيَّةِ التي يَنْتَمي إِلَيها الإِنْسانُ والتي تَزيدُ مِنْ فَهْمِ الإِنْسانِ لِذاتَهِ وزِيادَةُ تَواصُلِهِ مَعَ روحِهِ مِثْلَ الصَّلاةِ والتَّأَمُّلِ واليوغا.
  • الاهْتِمامُ بِالنَّفْسِ بِشَكْلٍ دائِمٍ يُعَدُّ مِنْ أَكْبَرِ المُحَفِّزاتِ التي تُساعِدُ عَلى تَحْقيقِ الرِّضا عَن النَّفْسِ والشُّعورِ بِالسَّعادَة، وتُعَدُّ خُطْوَةً رَئيسِيَّةً نَحْوَ تَحْقيقِ السَّلامِ النَّفْسِي.
  • تَجَنَّبْ تَضْخيمَ الأُمورِ وجَلْدَ الذَّات.
  • تَمَسَّكْ بِجَوهَرِكَ واشْعُر بِحُبِّكَ لِذاتِك.

هَزارْ مَسْعودْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *