إنَّ الإنترنت يُمثِّل مُعضلةً كبيرةً لِمُعظمِنا. ولكن من ناحيةٍ أخرى هي تِقنيَّة مُفيدة جدًا، وقد صَنعت ثورةً في مجالاتِ التِّجارةِ والتَّعليمِ والتَّواصل. لكن من ناحيَةِ أخرى إنَّ استِخدامَ الإنترنت لهُ الكثيرُ من السَّلبيَّات على المُستوى الشَّخصي، فماذا لو سألتُكَ ما هو أكبَرُ ضررٍ يُسبِّبُه لك الإنترنت؟ لرُبَّما كانت إِجابتُك هي “إضاعَةُ الوقت” فقط، نعم؛ تُعتَبر إِضاعةُ الوقتِ طبعاً مشكلةً كبيرةً إلى حدٍّ ما، والكثيرُ من الأشخاصِ سُرِقت منهم أعمارُهُم بِسببِ الإنترنت، ماذا لو قُلتُ لك أنَّ إضاعةَ الوقتِ ليسَت من أكبَرِ سلبيَّاتِ استخدامِ الإنترنت…؟ إذن ما هي المُشكلةُ الكُبًرى؟! دعنا نَتعرَّف عليها.
دعني أُخبرُك؟
إنَّ استِخدامَ الإنترنت لِفتراتٍ طويلَةٍ يُعيدُ تشكيلَ مُخِّكَ أو دِماغِكَ حرفيّاً! بِشكلٍ يَجعلُكَ تُدمن التَّشتُّت ويُفقِدكَ القُدرةَ على التَّركيز؛ حتَّى في الفتراتِ التى لا تَستخدِمُ فيها الإنترنت. مُعظَمُنا لدينا مشاريعٌ وأهدافٌ كثيرةٌ نرغَبُ بِتحقيقِها، أليسَ كذلك؟؛ ومُعظَمُ هذهِ الأهداف والمشاريع قد يَــكفي العَملُ عَليها ساعةً واحدةً يوميًّا فَقط لِإنجازِها. الغريب! أنَّهُ من السَّهلِ توفيرُ ساعةٍ واحدةٍ فقط من يومِكَ لِمشروعِكَ أو هَدفِك. إلا أنَّ مُعظَمنا غيرُ قادرٍ على عَملِ ذلك… لماذا يا تُرى؟ ويرجِعُ السَّببُ في ضَعفِ القُدرةِ على التَّركيزِ وإدمانِ التَّشتُّتِ وسرعةِ الملَلِ بكُلِّ بساطة. في هذا المقال، سوفَ أقومُ بِدمجِ فِكرتَين رئيسيَّتين عن ما هو تأثيرُ الإنترنت على عَقلِنا وطريقَةِ تَفكيرِنا، وكيفَ يُمكنُ تَبسيطُ حياتِنا لِتَجنُّبِ أضرارِ الإنترنت، وكيفَ يُمكِنُ أيضًا الاستفادةُ منهُ بدونِ أضرار. لعلَّنا نتوصَّلُ من خلالِ دمجِ الفِكرتَينِ إلى تَصوُّرٍ واضحٍ وأعمقٍ عن المُشكِلة (عن سَببِ التَّشتُّتِ وعدمِ التَّركيزِ لا تَنسى) وإلى الحُلولِ التى قد تُساعِدُنا على حلِّها. ما هو تأثيرُ استِخدامِ الأدواتِ والتِّقنيَّات على المُخ والدِّماغ؟
المُرونة العَصبيَّة Neuroplasticity:
هل سَمعتَ يومًا عن المُرونةِ العَصبيَّة؟ دَعنا نَتعرَّفُ على هذهِ الخاصيَّةِ العَظيمة. المُخ لَديهِ قُدرَةٌ عظيمَةٌ تُسمَّى بِالمرونَةِ العَصبيَّة أو Neuroplasticity؛ إذ تُعرَفُ المرونَةُ العَصبيَّةُ بِقُدرةِ المُخ أو الدِّماغِ على التَّغيُّر والتَّشكُّل على مدارِ الحياةِ نتيجةَ الخِبراتِ والمَعلوماتِ التي تَتعرَّضُ لها؛ مِثلَ البيئَة التي نَعيشُ فيها أو التِّقنيَّاتِ والأدواتِ التي نَستَخدِمُها. ولذلكَ يَنتُجُ عن المرونةِ العَصبيَّةِ تَقويةُ الدَّوائرِ العصبيَّة الخاصَّة بِوظيفةٍ أو عملٍ مُعيَّن. بِالعادةِ تقومُ بها بِشكلٍ مُعتادٍ وقد يَنتُجُ أيضًا عَنها ضَعفٌ لِدوائِرٍ عَصبيَّةٍ أُخرى خاصَّة بِوظيفةٍ أُخرى قَد توقَّفت عن القيامِ بِها مُنذُ زَمن!؛ ولِتبسيطِ الأمرِ أكثر وتوضيحِه؛ فإنَّ الدَّوائرَ العصبيَّةَ تُشبهُ العضلات، فالعضلاتُ التى تَستَخدمُها بشكلٍ دوريٍّ ومُتواصل تُصبِحُ أقوى، بينَما العضلاتُ التى لا تستَخدمُها تُصبحُ ضعيفةً وتَضمُر.
كما ذَكرنا سابقًا؛ فإنَّ من مبادئِ المُرونةِ العصبيَّةِ أنَّ الدِّماغَ يتغيَّر بشكلٍ مُستمِر، وذلكَ استجابةً للتَّجارُب المُختلِفة التى تَعرَّضنا لها في حياتِنا، بِما في ذلك السُّلوكيَّات المُختلفَة وأيضًا تَعلُّم أمورٍ جديدةٍ وحتَّى التَّغيُّرات البيئيَّة. جميعُ هذهِ الأمورِ تُحفِّزُ الدِّماغَ على تَشكيلِ مساراتٍ ودوائِرٍعصبيَّةٍ جديدَةٍ وإعادَةِ تنظيمِ مساراتٍ جديدةٍ في الدِّماغ، بِمعنى آخر، هيَ طريقةُ معالجةِ المُخ أو الدِّماغ لِلمعلومات. فإنَّ أي تِقنيَّة أو أداة تَستخدِمُها عادةً فهي تَجعلُك تَستخدِم قُدراتٍ ذِهنيَّة مُعيَّنة بِشكلٍ أكبر في مَنطِقةٍ مُعيَّنة في الدِّماغ، وتُقلِّل من اعتِمادِك على قُدراتٍ ذِهنيَّة أخرى في منطِقَةٍ أخرى في الدِّماغِ مثلَ العَضلات، أي أنَّ استِخدامَكَ لِتلكَ الأداةِ أو التِّقنيَّة يُعيدُ تشكيلَ مُخِّكَ بِتقويَةِ بعضِ الدَّوائِرِ العَصبيَّة وإضعاف البعض الاّخر.
السَّاعات مثلاً”؛ ساعدَتنا في مَعرفةِ الوقتِ بدقَّةٍ وبِسهوله، ولكن هي أيضاً أضعفَت قُدرتَنا على معرِفةِ وتخمينِ الوقتِ بِالنَّظرِ إلى ضَوءِ الشَّمسِ وشكلِ الظِّلال، لأنَّه بِمُجرَّد وجودِ السَّاعةِ لم يَعُد هناكَ حاجة لِلتَّركيزِ على الظَّواهر التى تُساعِدُنا على تخمينِ الوقتِ خلالَ اليوم. أصبَحَت بَعضُ الدوائرِ العصبيَّةِ ضعيفةً لأنَّنا لم نَعُد نستخدِمُها، وذلِك بِسببِ حُلولِ تِقنيَّةِ السَّاعة. أيضاً، تِقنيَّة الكِتابة القديمة من اعتمادُ الإنسانِ على كِتابةِ الأشياءِ المُهمَّة حتَّى لا يَفقِدها جَعلتهُ يُقلِّل من اعتمادهِ على الذَّاكرةِ ممَّا نَتجَ عنهُ ضعفُ قوَّةِ الذَّاكرةِ والتَّركيز. هُنا أصبحت الدَّوائرُ العصبيَّة المَسؤولةُ عن الذَّاكرةِ في جزءٍ من الدِّماغِ ضعيفةً وميتَة.
مثالٌ توضيحيٌّ آخر في نهايةِ القرنِ التَّاسع عشر تمَّ استِبدالُ الورقةِ والقلَمِ بالآلةِ الكاتِبة، وبعدَ فترةٍ من استِخدامِهم لِتلـكَ الآلةِ أو الأداةِ الجديدة، لاحظوا بأنَّ أسلوبَ البعضِ تغيَّر في الكِتابة! لاحظوا بِأنَّهم أصبَحوا يَستخدمونَ عباراتٍ أقصَر وكلِماتٍ أقصَر، وتمَّ استِنتاجُ بِأنَّ الكتابةَ على الآلةِ كان أَصعبَ قليلًا من استِخدامِ الورقةِ والقلم، ممَّا جعلهُم بشكلٍ غيرِ واعٍ يستَخدِمونَ أسلوبًا مُختَلفًا يُسهِّلُ عليهِم الأمر. ” أي أنَّ اختِلافَ الأداةِ غيَّرَ من الأسلوبِ في التَّعبيرِ عن الأفكار”. والجديرُ بِالذِّكر أنَّ هذا تمَّ بِدونِ قصدٍ أو وَعي! ولذلكَ، لا يعني وجودَ بعضِ السَّلبيَّاتِ في أداةٍ ما يَجعلُ منها أداةً سيِّئة، ولا يعني أن علينا التَّوقُّف عن استِخدامِها. لكنَّ التَصرف المَنطقيّ هو أن نُوازِنَ بينَ قَدرِ المَنفعةِ التى نَحصُل عليها من تِلكَ الأداةِ أو التِّقنيَّة وبينَ قدرِ الضَّررِ النَّاتجِ عن استِخدامِها. لكن كيفَ يتُّم ذلك؟! ذلك عن طريقِ اختيارِ خيارٍ واحدٍ من الخياراتِ الثَّلاثةِ لِمعرفةِ قدرِ المَنفعةِ والضَّرر:
- الخيارُ الأوَّل: هو أن نستمرَّ في استِخدامِ التِّقنيَّة أو الأداةِ رغمَ الضَّرر: ربَّما لأنَّ الضَّرر بَسيطٌ مُقارنةً بِالمنفعة؛ مثلاً استخدامُ بعضِ الأدواتِ الرَّقميَّة لِحفظِ وتنظيمِ الأفكارِ والمشاريع، وهذا غالبًا يَنتُج عنهُ ضعفُ وتقليلُ الاعتِمادِ على الذَّاكرة، ممَّا قد يَنتُج عنهُ بعضُ الضَّعفِ في قوَّةِ الذَّاكرة، لكن هُنا الضَّررُ بسيطٌ مقارنةً بِالفائِدة الكبيرةِ التى تَحصلُ عليها في حفظِ وتَنظيمِ الأفكارِ والمشاريعِ مع ضمانِ عدمِ نِسيانِ أي تفاصيل مُهمة.
- الخيارُ الثَّاني: هو أن نَستمِرَّ في استِخدامِ التِّقنية مع إِصلاحِ الضَّررِ النَّاتج عنها: لنَسْتكمِل على المِثال السَّابق، يُمكنُني أن أستمرَّ في استِخدامِ هذهِ التِّقنيَّات والأدواتِ الرَّقميَّة لِلحفظِ وتَنظيمِ الأفكار، ولكن في نفسِ الوقتِ يُمكنُني عملُ تمارينًا لِتقويةِ الذَّاكرةِ من وقتٍ لآخر، طبعاً هذا الخيارُ يَفترِضُ أنَّ المنفعةَ أو الفائدةَ التى نَحصلُ عَليها تَستحقُّ الجُهدَ الإضافي الذي نَبذلهُ لإصلاحِ الضَّررِ النَّاتجِ عنها. (رُبَّما نَتناول لاحقاً مقالًا عن تقويةِ الذَّاكرة).
- الخيارُ الثَّالث: هو أن نَتوقَّف عن استِخدامِ تلكَ التِّقنيَّة أو الأداة: وهذا في حالةٍ كانَ الضَّررُ أكبر منَ المَنفعه، ومقدارُ المَنفعةِ لا يَستحِقُّ الوقتَ والجهدَ الإضافيَّ الذي سَيضيعُ في مُحاولَةِ إصلاحِ الضَّرر. بِالطَّبعِ اختيارٌ واحدٌ منَ الخياراتِ الثَّلاثةِ السَّابقةِ فهوَ يتوقَّفُ على مدى مَعرِفتكَ وتقديركَ لِلمنفعةِ والضَّررِ لِتلكَ التِّقنيَّة أو الأداة، فإنَّك بِلا شكٍّ تَستخدمُ هذهِ التِّقنيَّة أو الأداةَ وأنتَ مُدركٌ للضَّررِ الحقيقيِّ والمنفعةِ اللَّتانِ تسبِّبهُما لك. ربَّما خَطَرَ في بالِكُم ما هي هذهِ التِّقنيَّة أو الأداة التى تَسبَّبت لنا التَّشتُّت وعدم التَّركيز!… دَعنا نَتعرَّف عَليها أكثر.
إذا أَرَدْنا الحَديثَ عن الإنترنت كأداةٍ وتِقَنيَّةٍ كُلُّنا نستخدِمُها بِشَكلٍ يوميٍّ حاليًّا… بالنِّسبةِ لِلمنفعةِ لن نَتكلَّم كثيراً عنها؛ فأظنُّ بأنَّ كلَّنا يعرِفُ كمَّ الفُرصِ التى يُوفِّرُها لنا الإنترنت في مجالاتِ العملِ والتَّعلُّم والتَّواصُل، إنَّ استِخدامَ الإنترنت أصبحَ في الوقتِ الحاليِّ أمرٌ ضروريٌّ لِمُعظَمِنا، وأنَّ خيارَ التَّوقُّفِ عنهُ لا يبدو خيارًا مطروحًا منَ الأساس! فالبَعضُ الآن لا يَستطيعُ التَّخلِّي عن استخدامِ الإنترنت! أمَّا بِالنِّسبةِ لِلضَّرر، هل نَحنُ مُدرِكونَ لِجميعِ الأضرارِ بِشكلٍ يَسمحُ لنا حتَّى مُحاولَةَ إصلاحِ تِلكَ الأضرار أو التَّقليلِ مِنها بِقَدْر الإمكان.
يُتبَعْ…